“جرعة زائدة” لهيا صالح.. الأسرة منبتُ الحبّ الصادق

“جرعة زائدة” لهيا صالح.. الأسرة منبتُ الحبّ الصادق


class="inline-block portfolio-desc">portfolio

text

    وفاء بونيف
    (كاتبة جزائرية)

    العائلة هي الأساس الأول لبناء علاقات خارجية ناجحة. دائما تكون الانطلاقة من الداخل، فالأساسات النفسية الصحيحة تُكّون فردا سويّا، والدعم الفكري الصائب يعطينا فردا واعيا. لذا عظّم الله دور الأم ومنح الأب مكانة لا ينافسه عليها أحد.
    “جرعة زائدة” رواية موجهة للفتيان من تأليف الكاتبة الأردنية هيا صالح، تحاكي واقع مجتمعاتنا التي باتت تغرق في المادية. الكبار يسعون لإثبات قدرتهم الخارقة على تحويل الحجر إلى ألماس، والصغار أضحوا لا يرون في الكبار إلّا مجموعة من المتناحرين على المركز الأوّل، فلعبوا دور المتفرج مؤقتاً، إلى أن حان وقت اقتحام السّباق، فراح الفتية يتسابقون دون طائل ولا معنى؛ فوجدوا أنفسهم فجأة خارج السّباق والزمان والمكانة.
    تكتب هيا صالح بلغة الأمومة المفعمة بالحب، لكنّ عملها هذا لا يقتصر على الصغار أبداً، فهو موجه للكبار أيضاً.
    تحكي الرواية الادرة عن “الآن ناشرون وموزعون” (2023) عن “مجدي”، ابن المحامي الشهير والأم الطبّاخة الماهرة، الذي يعيش حياة ميسورة، لكنه يعاني من اضطرابات لم ينتبه لها والداه؛ فيفكر في الهرب منها وحده بتعاطي المخدرات، وخلال ذلك تتأزم حالته ويكاد يفقد حياته.
    بهذه القصة، أرادت الكاتبة أن تضع صورة شاملة عن البيت والمدرسة والشارع، فكان تحليلها صادقاً بقدر ما هو عميق؛ فالبيت الذي سكنه “مجدي” كان بواجهتين: الأولى تطلّ على طبقة معدمة، والثانية على طبقة ميسورة.
    عاش “مجدي” هذا التأرجح الطبقي؛ فتارة يشارك الفقراء ألعابهم البسيطة، وتارة أخرى يجد نفسه بين أطفال تتحقق أحلامهم قبل أن يعبّروا عنها، فكان يرى أنّه في مكانة تسمح له بمزاولة كل الحالات الاجتماعية، لكنه داخل البيت لم يكن مسموحاً له بذلك التغير، فهو مُعرّض للانتقاد والعقوبة، ثم إنّ الإهمال الأبوي -غير المقصود- جعل منه ضحية رفقاء السوء في المدرسة، فهناك دائماً في كل مكان شخصٌ سيستغلّ غياب الوالدين ليلعب دور المنقذ من أهوال ذلك الفراغ العاطفي.
    هنا يظهر “طارق” صاحب فكرة الأقراص البيضاء، وكانت تبعاتها أن أوصلت “مجدي” إلى الشارع، المكان الوحيد الذي تُخصص فيه كل فئة مكاناً يجمعها لتمارس طقوسها التي تعنيها هي فقط. ولكن لا أحد يعرف الثمن الذي سيدفعه كل فرد من هؤلاء. فكانت صحبة أمثال “النّمر” و”أسعد” هي بداية دخوله النفق المظلم، ليكون ثمن صحبتهما أنْ تَحوّل “مجدي” من متعاطٍ إلى لصّ، وربما مع الوقت إلى قاتل.
    هذا هو التدرج الذي اعتمدته الكاتبة في نقل الظاهرة. صحيح أنها ظاهرة نشاهدها ونقرأ عنها كل يوم، لكن كل ما أرادته الكاتبة هنا هو إضاءة بعض التفاصيل التي لا ينتبه لها الكثيرون في حياتهم. لنرى دور الأم هنا يقتصر على كونها امرأة ماكثة بالبيت تعتني بمطبخها وبيتها لكنها لا تراعي تغيرات ابنها النفسية أو قل إنها لم تنتبه لها أصلاً؛ ما يعني أن السبب الرئيسي للإهمال ليس عمل المرأة خارج بيتها!
    أما الأب، فهو محامٍ، رمزيته الوحيدة تحقيق العدالة الاجتماعية داخلياً وخارجياً؛ وقد نجح خارجياً لكنّه أخفق داخلياً؛ ما يعني أن الواجهة الأساسية للبيت ليست بالقيمة الاجتماعية بل بالقيمة العائلية.
    أما “حنان” وأمها فتفقدان الحماية التي أصلاً لم تكن موجودة في ظل وجود أب سكّير، فتقرر الأم أن تجعل من ابنتها عصامية تبني مستقبلها معتمدةً على نفسها متجاوزة بذلك كل الظروف الصعبة التي تواجهها. هي العصامية نفسها التي زرعها والد “طارق” في ابنه لكن وفق الطريق العكسية؛ “حنان” التي تكنس الشوارع وتجتهد في دراستها على أمل أن تصبح طبيبة، يقابلها من الجهة الأخرى “طارق”، الذي يروج لمخدرات أبيه على أمل أن يكون رئيس عصابة مستقبلاً. إذن كل ابن هو نتيجةٌ حتمية لأفعال وال…
    أرادت هيا صالح، مؤلفة رواية “شقائق النعمان” التي فازت بجائزة اتصالات لكتاب العام لليافعين (2020) وتُرجمت إلى الإنجليزية مؤخراً، أن تمنحنا جرعة زائدة من الحذر؛ فمراقبة الأبناء دون الضغط عليهم شيء مطلوب، ومتابعة تحركاتهم وترصّد صداقاتهم ليس نقيصة في حقهم، ومصاحبتهم والاستماع لما يتعبهم لن يضر بمشاريع أيّ من الأبوَين؛ فالأولاد هم المشروع الأساسي الذي إن نجح الأولياء في إدارته ستكون أرباحه الإنسانية عالية القيمة.
    “كلنا مدمن على شيءٍ ما بطريقةٍ ما تجعله يهمل ما عداه”.. ليست الحقن والحبوب وحدها إدماناً؛ السعي لإثبات الذات إدمان أيضاً، ومحاولة لفت الانتباه إدمان، ومشاهدة التلفاز وتصفُّح الإنترنت إدمان، وحتى حب النفس المبالغ فيه إدمان. كلنا إذن مدمن بطريقة أو بأخرى، ولكي نتعافى من هذا المرض يجب أخذ جرعة زائدة من الحب، نوزعها بالتساوي على من نحب وما نحب، فلا إفراط ولا تفريط.
    إنّ التفتح الذي يشهده العالم مخيف جداً، فأصبح من الصعب إدراك ما يفكر به الآخرون حتى وإن كانوا أبناءنا، لقد توسعت الهوة بين الآباء والأمهات من جهة والأبناء من جهة أخرى، وبات الجسر الذي يربط الطرفين أوهن من بيت العنكبوت. وهذا نص يدعو لإعادة بناء الروابط الأسرية على أسس متينة أساساتها الحب والصدق؛ فمن خلال ذلك وحده تُبنى المجتمعات.
    الخطأ ملازم للإنسان، لا أحد معصوم منه، وليس هدف وجودنا هنا هو تحوّلنا لملائكة، ولكن الهدف الأسمى هو التعرف على طبيعة الخطأ ومعرفة أسبابه ثم معالجته وأخيراً الابتعاد عنه. وهكذا، مع كل اعتراف صادق بخطأ ما والسعي لتدارك تبعاته وتصحيح المسار يتعلم الإنسان ويطوّر نفسه ومجتمعه.
    تَعلّمنا من “جرعة زائدة” أنّ الحب هو علاج كلّ الأزمات، وأنّ الأسرة وحدها منبتُ الحب الصادق.