“جسر بضفة وحيدة”.. القارئ شريكاً في البناء النصي والتخييل

“جسر بضفة وحيدة”.. القارئ شريكاً في البناء النصي والتخييل


class="inline-block portfolio-desc">portfolio

text

    محمد معتصم
    (ناقد مغربي)

    الرواية عالمٌ مركبٌ من المحكيات المتوازية والمتداخلة، التامة والناقصة، وهي خطاب مواز للواقع، وفي رواية الكاتبة الأردنية هيا صالح المعنونة “جسر بضفة وحيدة” نقاط محورية ومركزية تقوم بوظيفة تأطير المتخيل السردي، ومنها؛

    1. التطابق بين المحكي السردي (المتخيل الأدبي) والواقع كمرجع خارجي (يومئ) للتخييل.
    2. إشكالية الزمان كصيرورة لا متناهية وكحلقات متقطعة، فهل الزمان ينتهي كلما انتهت مرحلة من مرحله وتوقفت وقائعه أم العكس؟
    3. إشكالية الحياة بعد الموت، هل الحياة تنتهي بالموت أم إنها استمرار أبدي؟ وكيف هي؟
    4. هل يمكن في المستقبل ومع التطور العلمي واكتشاف حقيقة الكائن والوجود هدم الحاجز بين الأحياء والأموات وربط الصلة بينهما؟

    تبدأ الرواية بالحديث عن إعداد “سامية” العدة لافتتاح المعرض الفني لصورها الفوتوغرافية، وفي حدود ثلاث صفحات تكون “الساردة” قد قدمت للقارئ أهم “الحوافز” التي سينهض عليها الصرح التخييلي، ومنها:

    1. التصريح بجنس الكتابة، المتمثل في “أنا”، ضمير المتكلم الذي يعود على “سامية”، السارد والشخصية المحورية، وهو ما يسمح لنا بإدراج الرواية ضمن مسمى “الرواية بضمير المتكلم”، وهو صنفٌ يختلف في مكوناته ووظائفه عن السيرة الذاتية كسجل شخصي وميثاق يلتزم فيه الكاتب مع القارئ على قول الحقيقة وسرد الوقائع التاريخية وبواعث تكوين الشخصية حتى تكون مثالا ونموذجا تقتفي آثاره الأجيال اللاحقة، كما أنه يختلف عن التخييل الذاتي الذي يمزج فيه الكاتب بين السيرة الذاتية في صدقها والتزامها الشخصي وبين التخييل والإبداع، بما يسمح للنص السردي إحكام بنائه الفني والجمالي، وبما يسمح كذلك بترميم “الهفوات” التي تعترض الذاكرة في لحظات معينة من تطور الشخصية وفي بناء النص وانسجامه وترابط متوالياته السردية. إن الرواية بضمير المتكلم تلغي الميثاق الذاتي والالتزام الأخلاقي والتاريخي بين الكاتب والقارئ، وتميل أكثر بالنص نحو “التخييل” و”الإبداع” الجماليين، كما أن ضمير المتكلم “متعلق” بالـ “أنا” النحوي الذي يعود على الشخصية المتخيَّلة، وهو ما يدعو القارئ إلى الفصل بين المحكي السيرذاتي ومستلزماته الخارج نصية كالصدق في رواية الأحداث ومطابقتها لوقائع الشخصية، وكذلك الفصل بين الكاتب (المؤلف الموضوعي) وبين السارد (الضمير النحوي) وبينه وبين الشخصية المتخيَّلة، التي يناط بها تحمل عبء بناء المتخيل السردي والأدبي فنيا وجماليا.
    2. تقديم معلومات مهمة عن الشخصية/ السارد، وهي معلومات وظيفية، لأنها ستساهم في بناء النص وفي تشييد صرح التخييل السردي، من قَبِيل تحديد جنس الشخصية ونوعها (امرأة)، ووظيفتها الاجتماعية (فنانة فوتوغرافية) وحالتها الاجتماعية (متزوجة وأم لطفلين)، ووضعيتها النفسية (الاستقرار)، وكل ذلك سيساهم في رسم “حالة البداية” في السرد، وعي حالة الثبات (Etat initial)؛ “تصل أصواتٌ مختلطة إليَّ، أخمن أنها حوار بين موظفة الاستقبال في الطابق الأرضي وذلك الزائر. لا أعتني بالأمر” (ص7)، وهذا التعبير يتضمن “تأجيلا” إراديا (بمعنى تأجيلا وظيفيا) يراد منه تأجيل الانتقال من حالة الثبات والطمأنينة إلى حالة الاضطراب، حتى تستوفي العتبة الرئيسية وظيفتها في بناء أساس ومحفزات المحكيات اللاحقة. إذن، تأجيل الانتقال عنصر بناء في تحديد أهمية “الخطاب” وتقدمه على “القصة”، التي نجدها مهيمنة في عدد من السرود ذات الطبيعة الدرامية، والتي تركز على المحتوى المنقول أكثر من البناء الخطابي والصيغة التي تشكل نوعية الخطاب السردي.
    3. تعبير “ذلك الزائر” لا يأتي هنا للتخصيص، وتحديد المعنى، بقدر ما يجعل المعنى منفتحا على الاحتمال في ذهن القارئ، فأداة التعيين الإشاري “ذلك” تربط المحكي الافتتاحي بمحكي سابق محتمل، لم يخبر به القارئ، لكنه واضح في ذهن الساردة “سامية”، أي أن الإحالة هنا تكون إحالة على حادثة سابقة على الخطاب، محتملة الوقوع في المحكي اللاحق، بما يسمح به السياق السردي، والبناء التام للخطاب وكذلك ما تحتاجه “القصة” لانسجام وترابط متوالياتها ووقائعها.

    و”ذلك الزائر” برغم وجود علامتي (قرينتي) التعريف؛ اسم الإشارة وأل التعريف، إلا أنه في المتن السردي يظل مجردا (نكرة) في ذهن القارئ، وهو ما يحفزه على التشوق للتعرف عليه.

    بهذه الطريقة اللغوية الذكية يتم تقديم شخصية مهمة في المتن السردي، ولها وظائف سردية مهمة في بناء الخطاب وتجلية المتخيل المهيمن على الرواية. وذلك الزائر (الغامض، المشاكس، المجهول…) ستفصح عنه المحكيات اللاحقة وستجعل منه شخصية محورية في تشييد المعنى والمعمار السردي. ويصبح المجهول معلوما لدى القارئ، إنه “عَمَّار”، النحات العراقي الذي تعرفت عليه “سامية” فترة إقامتها مع والديها وهي طفلة بالموصل في العراق قبل “الحرب”.

    1. في العتبة نفسها تقدم “سامية” توضيحا بسيطا وخاطفا عن عنوان الفصل المفتتح “جسر الموصل العتيق”، في قولها:” تعود بي الذكريات إلى ذلك الجسر الذي يعلو نهر دجلة ويشكل معبرا بين ضفتيه. دُمر هذا الجسر بسبب الحرب، كما حدث للكثير من جسور العراق” (ص5). هنا كذلك ينبغي التنبيه على ظاهرة سردية مهمة تضاف إلى سابقاتها، وهي تقنية محببة لدي في السرد، لأنها من التقنيات التي أستدلّ بها على الطبيعة التركيبية للسرد في الرواية المعاصرة، وسبق أن أطلقت عليها “المحكي الاستئنافي”، وهو منا محكي غير تام، لأنه لن يأتي لتأكيد السابق عليه، بل يقوم بالانزياح عنه، كالآتي:

    في نهاية الخطاب الروائي في “جسر بضفة وحيدة” (وهذا عنوان الرواية الصادرة عن  “الآن ناشرون وموزعون”، 2022)، يصبح الجسر في الإحالة المرجعية السابقة، أي الجسر الواصل بين ضفتي دجلة جسرا بضفة وحيدة، ضفة في الأردن حيث سيأخذ عمار سامية للقاء من فارقتهم من أحبابها، خاصة والديها، وكذلك سيفعل عمار: “أفرك عيني وأحاول أن أتبين نهاية الجسر، لكن الرؤية تخونني، يبدو لي أنه يمتد نحو السماء. يرعبني المشهد فأقف على الحافة ولا أجرؤ على السير فوقه خطوة واحدة. يخلع عمار قفازه ويمد يده لي مشجعا، غير أنني أعجز عن التشبث بها، يسيطر الخوف على حواسي. أردد وقد حسمت الأمر: لن أسير فوق الجسر. لن أفعلها. سأعود من حيث أتيت” (ص174).

    هكذا ينزاح معنى الجسر في المحكي اللاحق عن المحكي السابق، بينما يطابق مطابقة تامة الحافز المتواري الذي يعمل في السرد بخفاء، وأقصد الرواية التي وصلت إلى سامية من شخص مجهول تحت عنوان “جسر بضفة وحيدة”. إنه نوع من الإحالة الضمنية، التي لا تحيل على مرجع خارجي نصي كالواقع والأحداث السياسية والتاريخية والحركات والانتفاضات الاجتماعية التي تزخر بها الروايات عادة، بل الإحالة هنا تحيل على النص نفسه ولا تغادره إلى خارجه. ومن هذه الإحالات النصية والمحكي الاستئنافي نجد في السياق ذاته؛

    1. إحالة النص على النص نفسه في مظهر آخر مختلف نسبيا عن مفهوم “la mise en abyme”، وهذا النوع من التضمين النصي السردي يبرز ظاهرة جيدة تتمثل في الانسجام والترابط وكذلك تخطيط الكاتب (ة) لعمله قبل أو أثناء الإنجاز، تلافيا لظهور الهفوات السردية التي يقع فيها غالبا الكتاب الذين يستسلمون لتيارات “القصة” الجارفة والانفعالية، فيتوارى “الخطاب” الذي يكسب القصة مظهرها وشكلها وتحديدها الأجناسي.

    تورد سامية بخط مضغوط الآتي: “ما زال عطرك يملؤني.. يجتاحني، ثم يتبخر كل شيء وتبقين أنت.. هذه هي الحقيقة التي أعيشها منذ افترقنا.. ولأعترف لك أنها أقوى من الزمن” (ص7). والفقرة نفسها تعاود الظهور هذه المرة متطابقة مع سابقتها بين علامات التنصيص (التضمين والاستشهاد) والخط المضغوط، لكن في الصفحة (172): “ما زال عطرك يملؤني.. يجتاحني، ثم يتبخر كل شيء وتبقين أنت.. هذه هي الحقيقة التي أعيشها منذ افترقنا.. ولأعترف لك أنها أقوى من الزمن”. هذا النوع من المحكي الاستئنافي مغرٍ ومحفز للفكر، كما أنه يشرك القارئ في البناء النصي وفي التخييل أيضا.