عبد الغني صدوق
(كاتب وناقد جزائري)
تُقرأ الروايات بديهياً من بداياتها؛ للاستمتاع بكلّ شذَرات النشوء فيها، بل الانتماء إلى أفضيتها إذا تمكنّ السّارد من فعل ذلك، لأنّ كلّ إبداع هو عملٌ يستحق التقييم والأحكام، لكن إذا حدث واطَّلَعْنا على الفهارس أو الإشارات وعلِمْنا أنّ الكاتب يمارس النقد أيضاً، فلا شكَّ أنَّ ما سيقدِّمه سيضع عمله في القالب الذي يراه هو لائقاً بفنّه، من توظيفٍ للّغة، وخلقٍ للشخوص، وعرضٍ للقضيّة، ما يجعلنا نعقد العزم على وجوب القراءة الفورية. هذا ما حصل مع رواية “جسر بضفّة وحيدة” للروائية الأردنية هيا صالح (الآن ناشرون وموزعون، 2021).
ولأنّ أقدس ما يربط الإنسان بالأدب هو الإنسان، ولن تغيب القداسة في أبعادها الجمالية على أيّ كاتب أريب، مهما بلغتْ وتفاوتت درجات المُعالجة والرؤى وإنْ صبّت في القصد نفسه، فإنّه ما إن ومضَت الأمكنة الباعثة على حياة النّص من مكتب في الطابق العلوي وصورة جسر الموصل العتيق تُجهَّز لمعرض فنّي، حتّى ظهر في البنيان الإنسان، متسللاً إلى المخيّلة بجملة موجزة: “تدخل الموظفة: (ست سامية.. ست سامية)”.
ثمّ نتوجس بلحظة إرباك، وهي -في الحقيقة- لحظة دعوة إلى الانتباه وتمهيد للقبض على حبال الجسر، إذْ تسحب البطلة من مغلّف، تركَه لها رجُل مجهول عند الموظفة، ورقة مطبوعاً عليها:
“ما زال عطرُك يملؤني.. يجتاحني، ثمّ يتبخّر كلّ شيء وتبقين أنتِ.. هذه هي الحقيقة التي أعيشها منذ افترقْنا.. ولأعترف لكِ أنها أقوى من الزمن”. وفي أسفل الورقة دُوّنت عبارة بخط صغير (جسر بضفّة وحيدة).
مَن يكون هذا الرّجل؟!
لا شكّ أننا اشتبكنا مع الرواية باكراً، لأنّ دافعاً ما يحثّنا على توريقها للعثور على الصفحة التي نُسخت منها الرسالة من جهة، حذِرين من القفز إلى الأمام لكيلا ينقطع خيط السرد الذي أمسكْنا به قبل قليل راجين الإفهام من جهة أخرى.
ثمّ ننصتُ إلى البطل المحيّر، الظاهر الخفي، الذي يتولى دفّة الحوار، يحاور البطلة “سامية” بأفكاره الغريبة، لتنكشف لنا ضفّة الجسر، يأخُذاننا إلى عالم الأموات والذكريات، والحقائق التي نكذّبها والأخيلة التي نصدّقها، نتأرجح بين ما يقولانه وبين صوت السارد، تلك هي لذّة النّص كأنه فواكه من صنوف شتّى.
لكن الجسر يتمدّد في الذات، يعبُر رضاها وسخطها، قناعتها، طمعها، سعادتها، بؤسها.. يتمدّد ولا يصل إلى المنتهى، تنتفضُ الأفكار ماسحةً حياة “سامية” عندما يشغّل الراوي تقنية الاسترجاع؛ “عمّار” يحضر من الماضي ثم يغيب، و”سالم” حاضِر بجسده غائب بكينونته، فتضيع السكينة المنشودة بين ضفتي الجسر المُمتد من العراق إلى الأردن!
ما الذي يمنحنا القدرة على سماع أصوات صادحة، من أناس مطْبقي الشِّفاه يرجوننا أنْ نقوم بشيء ما؟ شيء يريحهم من هَمٍّ مُلازم، يكلّموننا بأعينهم، إذْ يصبح إدراكنا لرجائهم تفريجاً وسعادة، نحن على دراية أنّ جسراً روحيّاً يهتز في البال وعلينا تثبيته بالامتثال، تقول “سامية”: “شعرتُ بحاجة والدي لرؤيتي بثوب الزفاف الأبيض قبل أن يغادر الحياة”.
إنّ ضفاف جسورنا واحدة، ووحيدة أيضاً، سواء أعْلَنّا ذلك أم أخفيناه، هناك في الأعماق ضمير يهمس فنسمعه بوضوح؛ لأنه شاهدٌ على تفاصيل العمر الماضي، نحاول الإعراض عنه كيلا يؤرقنا همسُه، فيزيد من نبرته كلّما حضرت صورة الماضي، ما يبيّن أنّ التصوير كمهنة في الرواية وكرمز للجسر الخافت على الغلاف اشتغالٌ موفّق فكرياً. نقرأ على سبيل المثال: “لن أنكر أنّ مجرّد رؤيتي لأيّ شخص يربطني بالماضي كان له وقعٌ جميل في نفسي”.
حتّى الكلب لمّا مات وحزنَ طفلا “سامية” على فراقه، ثمّ شرعا يُربيّان كلباً شبيهاً له ومن النوع نفسه، ذمّرَها من زوجها الذي جاء به، لأنّه بنى جسراً للطفلين يذكّرهما بالكلب الميت إلى حين.
وعند جسر النُّور -بعد انحدار السرد- يُردّد “عمّار” أمام “سامية”، كأنّه يقرأ من كتاب: “ما زال عطرك يملؤني.. يجتاحني، ثمّ يتبخر كلّ شيء، وتبقين أنتِ.. هذه هي الحقيقة التي أعيشها منذ افترقنا.. ولأعترف لكِ أنها أقوى من الزمن”.
هنا تحسبُ “سامية” أنّ “عمّار” هو الذي أرسل الرسالة، لأنّها العبارات نفسها المكتوبة على إحدى صفحات (جسر بضفّة وحيدة). لكنّه ينفي ذلك تماماً.
وكأن هيا صالح الناقدة استدرجتنا بحنكة إلى النهاية ولم نبلغ بعد الضفّة التي تتبّعنا أثرها خلال القراءة، لأنّ الضفّة ثابتة بدواخلنا.
يقول د.مصطفى محمود -رحمه الله- في كتابه “الأحلام”: “الناجح الحقيقي هو ذلك الذي يصرخ منذ ميلاده (جئتُ إلى العالم لأختلف معه) ولا يكفّ عن رفع يده في براءة الأطفال ليحطّم بها كلّ ظلم وكلّ باطل”. أليس تصديق الأوهام ظلماً وباطلاً نقترفهما في حقّ أنفسنا؟
نستنتج إذاً أنّ الجسر ما هو إلّا حياتنا بغرورها وزيفها.. نتعلّق بالأوهام فنصدّقها ونعادي مَن يدلّنا على الحقيقة، لا أحد يحبّ أن يتهدّم جسر أوهامه أمام عينيه، إنّها مشاهدة الذات مهزومة في أبهى صورة.