«حدث في الآستانة»: تحولات تركيا من العثمانية إلى الجمهورية

«حدث في الآستانة»: تحولات تركيا من العثمانية إلى الجمهورية


class="inline-block portfolio-desc">portfolio

text

    هارون الصبيحي
    (كاتب أردني)

    عن “الآن ناشرون وموزعون” صدرت حديثاً مجموعة قصصية من الأدب التركي المترجم إلى اللغة العربية بعنوان «حدث في الآستانة» ترجمة الأردني أسيد الحوتري، المجموعة تتكون من إحدى عشرة قصة قصيرة لتسعة من الأدباء الأتراك المخضرمين الذين عاصروا الإمبراطورية العثمانية ونهايتها، ثم تأسيس الجمهورية التركية، هذه الباقة القصصية، تأخذ القارئ إلى أجواء عثمانية من التقبُّل والتّسامح قبل انقلاب جمعية الاتّحاد والترقي وحركة تركيا الفتاة، إضافة للثيمات الاجتماعية والفلسفية في بعض القصص.
    من الممكن وصف القصص التي جمعها الحوتري وتتحدث عن فترة زمنية مفصلية في كتاب واحد بالرواية الكولاجية (قص ولصق) وكذلك تعتبر رواية ما بعد حداثية بطلها الزمن المشترك في جميع القصص.
    من الإبداع الذي يبرز في عمل مترجم هذه المجموعة، تقديم نبذة عن حياة كل قاصّ قبل كل قصة، وكذلك تقديم مقطع قصير مشوّق من القصة، وقبل ذلك كله المقدمة التي كتبها الحوتري وسرد فيها ملامح عن الإمبراطورية العثمانية قبل وبعد الانقلاب العسكري من جمعية الاتّحاد والترقي وحركة تركيا الفتاة، وبعد ذلك الزج بها من قبل الباشوات الثلاثة في الحرب العالمية الأولى، سأتطرق في هذه المقالة إلى جميع القصص المترجمة محاولاً تحليلها أدبياً والتعبير عن رأيي الأدبي فيها بالمختصر المفيد.

    القصة الأولى: (بون بون) أحمد راسم (1864 – 1932)

    طفل أرمني مع والدته على ظهر عبّارة، نلاحظ في هذه القصة براعة الكاتب في وصف التفاصيل الدقيقة للأم التي تضع شبكة سوداء ضيقّة الفتحات على وجهها، (رأيت وجهها في آخر مرة قامت بها برفع الشبكة، لابد أنها بكت كثيراً، وعانت من أرقٍ متواصل لأن زوايا عينيها السّوداوين كانت متقرّحة، أنفها يشبه منقار النسر، عنقها أنحف مما عليه جسمها، يداها كانتا قبيحتين لكنهما ماهرتان، لم تكونا كبيرتين بل نحيفتين وطويلتين بعروق زرقاء كثيرة، إلى جانب رأس إبهام يدها اليمنى نتوء كمسمار اللحم) أما الطفل فيصفه الكاتب (شعر أشقر ناعم وطويل، خداه كانا أحمرين كالدّم، عيناه كانتا صافيتين، أنف صغير بحجم حبّة التمر، أسنان لؤلؤية، رقمة كالقشدة…) القصة بسيطة يشاكس بها الطفل أمه ببراءة ممتعة للقارئ، نهايتها تكشف عن فلسفة في الحوار بين الطفل والأم.

    القصة الثانية: (الإسكافي) رفيق خالد كراي (1888 – 1965)

    هي قصة طفل فلسطيني يتيم الأب ولد في إسطنبول، وبعد وفاة والدته يتم ترحيله ليعيش مع عمته في فلسطين، في هذا القصة يوظف الكاتب العاطفة ببراعة من خلال سرد حافل بالمشاعر المتدفقة، حديث الطفل حسن مع الإسكافيّ المتجول داخل بيت عمه يصل إلى ذروة المشاعر التي نتج عنها، برع الكاتب في الوصف والسرد وتوظيف العاطفة لينتج قصة جميلة تستحق التأمل.

    القصة الثالثة: (تأثير الحزام) عمر سيف الدين (1884- 1920)

    قصة رجل تركي يقلد الشركس ويفتخر بذلك، هي تشير إلى أجواء التسامح والتعايش التي كانت تسود الدولة العثمانية قبل انقلاب جمعية الاتحاد والترقي، فكرة النص ذكية وعالجها الكاتب ببراعة من خلال سرد سلس تخلله الحوار.

    القصة الرابعة: (التمثيل الصامت) سامي باشازاده سيزائي (1859 – 1936)

    قصة باسكال الممثل اليوناني الذي امتهن إضحاك الجماهير من خلال مسرحيات صامتة، باسكال الذي يضحك ُالناس يعيش مأساة داخلية لا يعرفها أحد، وتكتمل المأساة بعشقه لفتاة تتردد إلى المسرح لتضحك على حركاته وشقلباته، أبدع الكاتب في السرد والوصف وتوظيف الخيال والتشويق وكذلك في تصوير البعد النفسي لشخصية باسكال، وفي النهاية الفلسفية الرائعة.

    القصة الخامسة: (الجمل) عمر سيف الدين (1884 – 1920)

    قصة غجري من مدينة أدرنة، قرر التمرد على واقعه من خلال السفر إلى إسطنبول للتخلص من حياة الغجر البائسة، نلاحظ هنا رشاقة أسلوب الكاتب، حيث سافر بنا مع الشخصية من مجتمع إلى مجتمع مختلف بسلاسة إلى أن بلغت الذروة التي أعقبها سقوط وعودة، وكذلك أبدع الكاتب في نقل القارئ إلى جو النص من خلال الوصف الفلسفي الساخر.

    القصة السادسة: (ما أجمل الحياة) ممدوح شوكت أساندال (1883 – 1952)

    قصة فلسفية تصور بساطة الحياة من خلال يوم في حياة نوري أفندي الشخصية الرئيسية في القصة، للوهلة الأولى يبدو أنه لا حدث ولا تأزم أو ذروة في القصة، لكن هذا هو الواقع أحياناً وقد يكون ذلك ضياعاً أو هروباً من تعقيدات الحياة، هي فلسفة جميلة متفائلة (الحياة، يا لها من شيء جميل)

    القصة السابعة: (الخبز أولاً) أورخان كمال (1914- 1970)

    قصة اجتماعية واقعية تحدث في كل زمان ومكان، تسلط الضوء على الفقر من خلال حياة عائلة تركية، الخبز أولاً وقبل التعليم وطموح الفتاة آيتن بأن تدرس لتصبح طبيبة، أبدع الكاتب بربط حياة العائلة الصعبة من خلال علاقة آيتن بالجارة الجدة هديّة، سرد جميل أبدع فيه الكاتب في الكلمات ووضعها في سياق يعطيها دلالات إضافية.

    القصة الثامنة: (منديل الحرير) سعيد فائق – 1906 – 1954

    نلاحظ في هذا القصة البداية الوصفية للمكان مع الإشارة للزمان (تلألأت واجهة مصنع الحرير بضوء القمر) وتبعها البداية الحوارية، أبدع الكاتب في سرد المفارقة اللطيفة، من خلال الحارس البديل الذي قبض على اللص الصغير ثم جلسا معاً يدخنان ويتحدثان بلطف، قصة جميلة حافلة بالمشاعر لتقودنا إلى نهاية صادمة.

    القصة التاسعة: (السّماور) سعيد فائق – (1906- 1954)

    السّماور هو وعاء معدني يستخدم لغلي الماء وتحضير الشاي، أبدع الكاتب في التشبيه في أكثر من موضع بالقصة (شبّه علي السّماور بمصنع خال من المعاناة، والإضراب وإصابات العمل، مصنع لا ينتج إلا الرائحة والبخار وبهجة الصباح) وكذلك في عذوبة الألفاظ (قبّل علي يد والدته ثم لعق شفتيه وكأنه قد أكل قطعة من الحلوى) قصة رائعة تربط ببراعة من الكاتب، ما بين الجماد والمحبة والألم والأمل والأم.

    القصة العاشرة: (الرّبيع) أحمد حكمت مفتو أوغلو – (1870 – 1927)

    قصة رمزية تقص أو تعبر عن حزن الكاتب الشديد على ما آلت إليه أحوال البلاد والعباد من خراب وتحوُّل مؤلم بعد ربيع وعدت به جمعية الاتحاد والترقي التي كان شعارها الأخوة، الحرّية، المساوة، وحركة تركيا الفتاة، هذا الربيع الذي كان منشوداً بعد الانقلاب، وفي ما بعد تبين أنه المسمار الأخير الذي دُق في نعش الدولة العثمانية، أبدع الكاتب في وصف حال الدولة من خلال الرمزية والتشبيه يستهل القصة (افتحوا النوافذ للربيع) وفي النهاية ( كان لديّ حبيبة، زوجتي، وأطفال جميلون وأصحاء، لم يٌقدّر والدي وزوجته قيمة محبوبتي، قضت نحبها، ومن بعدها أطفالي، ضاعت ثروتي، ها أنا قد انتهيت، ربيع! ربيع!) قصة معبرة ورائعة نجح فيها الكاتب وبتكثيف متقن بإيصال رسالته للقارئ.

    القصة الحادية عشرة (الحُب الأعمى) – نجدت صانتشار (1910- 1975)

    هي أفضل قصص المجموعة، قصة تصوّر حال الجمهورية التركية التي تختلف كثيراً عن الإمبراطورية العثمانية، من خلال تغييرات جذرية أبعدتها عن رسالتها وعادات وقيم الشعب التركي التي حملها ودافع عنها مئات السنين، تحمل القصة نفساً قومياً يدعو إلى العودة للعادات والتقاليد والقيم التُّركية الأصيلة ونصرة الإسلام بعيداً عن التماهي مع الغرب، يستهل الكاتب القصة بكلمات شاعرية مشوّقة تخاطب المجهول (اسألني عن الحبّ الأعمى، إنه النار في بعض الأحيان، يصلي، يحرق، لكنه النور أحياناً أخرى) براعة الكاتب في ربط البداية بالنهاية، قصة أربعة أصدقاء عاشوا الحب الأعمى، (الحب الأعمى أمر مخيف) جملة كررها الكاتب في النص، وهنا يكون التكرار إبداعاً وهذا ما سيشعر به القارئ، تفنن الكاتب في اختيار الألفاظ ووضعها في السياق، وكذلك في دقة دلالتها، وفي النفس الدرامي وشحن القارئ والوخز، وفي النهاية الإيقاظ المزلزل، هي بكل تأكيد قصة رائعة جداً.
    نجح أسيد الحوتري في الترجمة التي تتوافق مع النص الأصلي، وكذلك في اختيار جميع القصص التي تجمع بينها ثيمات مشتركة، هي رواية كولاجية (قص ولصق) ما بعد حداثية بطلها هو الزمن المشترك، ويبرز فيها إضافة إلى الكولاج تهجين النص والشذرات.