جمال عاشور
صدر حديثًا عن دار “الآن ناشرون وموزعون” رواية “حكايات المطر” للروائية آسيا عبد الهادي، التي تتخذ شكل حكاية ترويها الجدة كي تسلي حفيدها وتنعشه بها، لكن هذه التسلية لم تكن هدفًا نهائيًا للحكاية؛ إذ بدت بالإضافة إلى ذلك متنًا لمجموعة من القيم الأخلاقية التي أرادت لها الجدة أن تكون سندًا لحفيدها في مستقبل حياته.
جاءت الرواية في مئتين وأربعين صفحة من القطع المتوسط، واتخذت تقنية سردية تراثية مستمدة من الطريقة التي كانت الأمهات والجدات يبدأن حكاياتهن بها للأطفال المتحلقين حولهن في ليالي الشتاء، فيستمعون باهتمام وسعادة للقصص والحكايات الجميلة التي تروي أمجاد الأبطال والقادة الكبار في الزمن الماضي وأخلاقهم.
تقول آسيا عبدالهادي على لسان الجدة: “كانَ يا ما كان.. في قديم الزمان.. يا سعد الأكرام ما يطيبُ الحديث إلا بذكر النبيّ سيّدنا محمّد صلى الله عليه وسلم.. كان بيتُنا قريبْ.. وأجيبْ لكم صحنَ زبيبْ.. تأكلوا وتشربوا وتصلّوا على النبي الحبيبْ”.
ثم تسترسل الجدة في حكايتها التي تنتهي باستفاقة الحفيد من سِنَة النوم التي أخذته خلال الحكاية، فيطرح على جدته مجموعة من الأسئلة التي تتعلق بالبطل “حسن” ومصيره.
وما بين هذه البداية والنهاية جاءت الحكاية التي تفرعت في مسارات عدة، وقدمت شخصيات متنوعة تحمل كل واحدة منها حكاية لوحدها، وجعلت الكاتبة الزمن طليقًا، فلم تحدده بسياق تاريخي معين لتكون القيم داخل الحكاية صالحة لكل زمان ومكان.
واتخذ المكان كذلك صيغة حرة، لكنه ارتبط بمملكة الوفاء والأمل، فأخذ صفته من صفات أهلها، ولم يُختزَل بمكان مادي محدد، أما الشخصيات فحملت كل واحدة منها مضمونًا حكائيًا مستقلًا، لكنه يتكامل مع المضامين التي تحملها الشخصيات الأخرى؛ فالملك رمز للعدل، وزوجته الملكة رمز للغيرة القاتلة والغضب الجامح، أما الابن (الأمير) فكان رمزًا للطيبة والنقاء وسمو المشاعر والحب والوفاء، بينما كانت زوجة الأمير (الجوهرة) رمزًا للحب والوفاء والصمود وللمرأة العربية التى تجيد تربية ابنها خير تربية.. وهكذا الأمر فيما يختص بباقي شخصيات الرواية.
بُنيت الرواية على عنصري المفاجأة والتشويق، وهذه سمة من سمات الحكي التراثي، وهو أمر يساعد على جذب انتباه المتلقى لمتابعة القصة بشغف وإنصات وتركيز، بل وبمشاركة وجدانية فى معايشة المواقف المأساوية في القص، وقد اتضحت هذه النزعة منذ أول فقرة فيها؛ إذ حملت حميمية وتشوقًا وأحداثًا غريبة.
فتروي الجدة لحفيدها عن الملك الطيب ملك مملكة الوفاء والأمل واختفائه في ظروف غامضة، ثم تنصيب ابنه الأمير الطاهر، وعن حسن ورحلته إلى مدينة الزهور وما لاحظه هناك من أنه “لا يوجد زعيم ويدافعون عنه”، ففكر بجد في أن يكون زعيمًا لهذه المدينة، وفكر تفكيرًا طويلًا في كيفية القضاء على خصومه، وصنع نسب يليق به، كل ذلك في صورة عجائبية، ثم تراجع بعد ذلك عندما وجد صبيًّا يطعم جروًا صغيرًا الخبز اليابس بعد أن يبلله له، فتذكر كلام أمه: “ابن الأصل لا يظلم الناس” ففكر في الأمر مليًّا: ماذا يجني الصبي من فعله هذا إلا العطف والرحمة على حيوان؟ وماذا أجني بضلالي وجريي وراء المناصب والمال؟.
تصف آسيا عبدالهادي لحظات الحمل هذه: “الجوهرة تفيق بعد فترة، تغسل دمها، تعيش في القبو، تلاحظ انتفاخ بطنها، وتكتشف أنه حَمْل. تنجب طفلًا تسميه «حسن» وتظل مكانها خمس سنوات، ثم تهرب إلى المدينة، تتعرف على أم عادل المرأة العجوز العمياء، تظل سبع سنوات عندها، حتى وقت اكتشاف حدرج ورجاله لموضعها، تهرب بالطفل إلى مكان منقطع، حتى يبلغ السادسة عشرة من عمره، كان الوضع في المدينة يزداد حنقًا وغضبًا على حدرج، يوجد حسن وسط المعارضين، يُعجب به الملك الذي كان ما يزال لا يتصور موت الجوهرة”.
ويكشف وصف هذه اللحظات التي عاشتها “الجوهرة” عن تنوع أسلوب الحكي فى الرواية، ما بين لغة السرد العادية، واللغة الشعرية، وقد تجسدت اللغة الشعرية بالذات في وصف المواقف الإنسانية المؤلمة في الرواية، كما حدث عند استيقاظ الجوهرة بعد فترة الإغماء الطويلة التي مرت بها: “بين الركام والخراب امرأة لا يفصلها عن الموت سوى خيط رفيع، ملقاة في مكان معزول، وسط ظلام دامس، ولكن خيطًا رفيعًا من الحياة ما زال يتسلل إلى روحها، فيحرك بعض أعضائها، أفاقت قليلًا، تململت، لكن لا قدرة لها على الحركة، أغُمي عليها، ثم أفاقت، ثم أغُمي عليها، وأفاقت من جديد، تحسست جسدها فوجدته رطبًا يغرق فى شيء ما، غمست يدها به واشتمته، إنه الدم، تئن، كل شىء يؤلمها، تشعر بصداع يكاد يفجر رأسها فقد نزفت كثيرًا، ربما لم يتبق فى جسدها نقطة دم واحدة”.
الكاتبة آسيا عبد الهادي أردنية الجنسية من مواليد سلمة– يافا، تنوعت دراستها بين علم الاجتماع واللغة العربية والحقوق وعلم الإدارة، عملت في عدد من شركات النفط في الكويت بين عامي (1966-1983)، وكتبت زاوية يومية في كلٍّ من صحيفة “القبس” الكويتية (1978-1983)، وصحيفة “الأسواق” الأردنية خلال صدورها، ولمدة 3 سنوات، كما كتبت لأشهر عدة في جريدة الدستور الأردنية ثم تفرغت لكتابة الرواية.
وهي عضو في رابطة الكتّاب الأردنيين. أصدرت قبل هذه الرواية ثماني روايات، هي: “الحب والخبز” (2006)، و”سنوات الموت” (2008)، و”الشتاء المرير” (2010)، و”غرب المحيط” (2012)، و”بكاء المشانق” (2014)، و”سعدية” (2015)، و”ذكريات وأوهام” (2016)، “دولة الكلاب العظمى” (2018).