عبد الغني صدوق
(كاتب جزائري)
يُذّكرني هذا الاستيقاظ لجمانة من غير منبّه في رواية “الحرب التي أحرقت تولستوي” (الآن ناشرون وموزعون 2023) للروائية زينب السعود؛ برواية بين القصرين المحفوظية، ذاتها وصفاتها، كاستيقاظ أمينة حرم أحمد عبد الجواد. لكننا الساعة أمام نصّ عربي انكتب في غير الظروف الماضية، استمد بعض كبريائه من شخصية روائية عالمية هي تولستوي، لكن لماذا تولستوي؟ هل نحن بصدد تناص لرائعة الحرب والسّلم أم أمام طعم وضعتْه الكاتبة لاصطياد فرائسها من القراء النوعيين.
إنّ الاسم يحثُّ على الفضول فعلًا، بل إنّ زينة العتبة المبنيّة بجملة اسمية صداها الدمار قد تجمّلت بعملقة تولستوي.
تدخل الحرب القائمة في أوكرانيا على خط السرد في رواية “الحرب التي أحرقت تولستوي”، إذ ينبري يوسف في نقل أصوات القصف والعويل للعالم.
لو قال قائل الحرب التي أحرقتْ وسكت، لصار المستمِع في انتظار للخبر، أحرقتْ مَن أو أحرقتْ ماذا؟ لذلك ثبتَ تولستوي محروقًا من بداية السرد لدى المتلقي الذي صار مُصابًا في ذهنه بواقعة لم يقرأ عنها بعد، ثمّ رُسم المكان لاستضافة القارئ فنشاهد في الغرفة لوحة دراويش لجلال الدين الرومي تحمل عبارة “حين تعثرُ على الجمال في قلبك فستعثرُ عليه في كلّ قلب”. فهل ذِكر جلال الدين سيُجسّد رسالة الحبّ الخالدة مع مرشده الرّوحي شمس التبريزي بطريقة أخرى مرّة أخرى؟
إنّ مكوّنات المعمار المطروحة بثقلها جملة واحدة توحي أنّ بناءً مرصوصًا في طريقه إلى التشييد، بدأت الحرب منذ أن سافر يوسف -رب العائلة- بحكم مهنته كصحفي مراسل لقناة تليفزيونية، ما يجعله يتغيب باستمرار لثلاثة أشهر أو يزيد، وإذا ما عاد في إجازة تكلّفه زوجه جمانة، المنشغلة بتدريس ذوي الاحتياجات الخاصة والبيت، بإحضار الأولاد من المدرسة، يتأفف ثم يقول: “أنا في إجازة. هل ستستغلين وجودي لترتاحي من واجباتك؟”.
الجملة وإن قيلت في سياق المزاح باعثة على القلق، شرخ مباغت يؤجج إيقاع التلقي، يجعلنا في تأهب لمعرفة حياة عائلة مجموعة في الدفتر متفرّقة في المعشر، لا يهنأ لها بال إلّا من الإجازة إلى الإجازة، يغيب يوسف فتحل الهواجس، إذْ لا سبيل للوصال سوى الهواتف.
تدخل الحرب القائمة في أوكرانيا على خط السرد، هناك ينبري يوسف لتحقيق غايته ناقلًا أصوات القصف والعويل للعالم. إن المجازفة جميلة في سبيل الرُّقي المادي إذا أمن المرء الخطر، ولكن الرُّقي الفكري أجمل والمرء راضٍ بالقدر، كيف نغترب وفلذات أكبادنا يكبرون بنصف عاطفة، أليس من حقّهم السّكينة فوق السّكن؟ حرقة نستشعر لهيبها في الصدور ولن تبردها وفرة الزهور، هذا اللهيب سيظل مشتعلًا حتّى بعد الاستقرار، لأنّ شطرًا من الحياة ضاع بين المطارات، ما يستلزم من البداية التفكير بالعناية، ذلك ما جعل جمانة تقول حينما أخبرها يوسف أنّه سيرسل لها مصروفًا زيادة: “نحن بحاجة إلى وجودك. الطفلان بحاجة إليك وإلى رعايتك واهتمامك”. وفي موقف آخر أشد تثريبًا: “طفلتك الصغيرة تعرفك من خلال التلفاز”.
ولأنّ المتناقضات في العمل الروائي تضفي عليه توهجًا وجمالًا، وهي- أحيانًا- كالواقف موقف الحياد بين متخاصمين ينتظر منهما التصالح بمحض إرادتهما، كان لزامًا على زينب السعود أن تقحم بطلًا يكسر أفق التوقع، يلتقي يوسف بسفيان فينطرح سؤال الهوية المؤرق للذات المغتربة في القول: “والدي من بغداد، ووالدتي أوكرانية”.
وبين دفاف الحوار يكتشف يوسف أن سفيان عاش حانًا إلى دفء العائلة، لقد فرض عليه الطلاق أن يترعرع مع أمّه وأمّها إلى سن السادسة، ثم عاد ليعيش مع والده بعد أن تزوجت أمّه من رجل آخر. تتصاعد الحبكة بهذا اللقاء، لتنسج الكاتبة موضوع سرديتها بلغة خفيفة منمّقة ومشاهد واضحة مشرقة، استنطقتِ الأمكنة وتوغلّت في دواخل الشخوص ليقدّموا بدورهم رؤاهم المختلفة فينصهر صوت الراوي العليم في كيان النّص، وهي تقنية فيها من الظرافة ما يعرض الأفكار شفّافة هينة.
ترك الأمير أندريه بولكونسكي في رواية الحرب والسلم عائلته وراءه ليقاتل ضد نابليون، كما ترك يوسف أيضًا عائلته في رواية “الحرب التي أحرقت تولستوي”
لقد ترك الأمير أندريه بولكونسكي في رواية الحرب والسلم عائلته وراءه ليقاتل ضد نابليون، كما ترك يوسف أيضًا عائلته من أجل طموح دنيوي لم يستطع تحقيقه في سوريا بسبب اندلاع ثورة الربيع ليتفاجأ بنشوب حرب في أوكرانيا لم تكن في الحسبان، هنا يتجلى الحرق، حرق أوراق تولستوي بعد عقود من المجد والعظَمة.
ها هي الحرب توقظ في الزوجين مشاعر المحبّة، ينطفئ العتاب، يتفجّر الشوق ويعاد ترتيب الحساب، كلّ صار يبحث عن نصفه المفقود، ويتساءل يوسف في مونولوج بديع قائلًا: “أتنقصنا حرب لتتحرّر مشاعرنا الجميلة تجاه مَن نُحب؟”.
يتواصل الحرق مع ميساء جارة جمانة، المرأة التي اجتهدت في جلب صبية من دار الأيتام لتُربيها مع ابنها خوفًا من أهل زوجها الذين يرون أنّ ميساء نحسًا على زوجها؛ ابنهم الذي توفيّ في ريعان شبابه. لذلك يحاولون أخذ الحفيد عنوة. معاناة لم تخطر على بال جمانة، الجارة تستبق حلًا لمشكلة لم تحدث بعد، فبرغم أنّ ميساء موصوفة بالثرثرة إلّا أنها لم تتحدّث ولا مرّة عما يعتريها من آلام.
الحرب التي أحرقت تولستوي طريقها شاق ووزرها معيق لحركة أبطال، لم نذكرهم حفاظًا على حماس القارئ الجميل، ووقاية من حرق الرواية في مقال.