رواية «المؤابي» لسامر حيدر المجالي.. خيال لغوي شائق ومتجدد

رواية «المؤابي» لسامر حيدر المجالي.. خيال لغوي شائق ومتجدد


class="inline-block portfolio-desc">portfolio

text

    مجدي دعيبس

     اختار الكاتب أن يستهلّ رواية «المؤابي» بقصة البرغوث، رغم أنها من الروافد الفرعيّة للحكاية ولا تنساب في المجرى الرئيس لسريان الأحداث اللاحقة.ولعله قصد من هذا الاستهلال عرض صورةٍ لحياةٍ سادت في تلك المنطقة؛ وهي مؤاب أو الكرك، على مدار عقود طويلة سبقت الحدث الرئيس في الرواية، الذي هو «الهيّة». من خلال هذه القصة عرفنا الحكايات التي ظلّت تمدُّ الأحلام بالبطولة والشجاعة وردّ المعتدي والزعامة والعشيرة.

    من هذه الأجواء نقرأ في الرواية: «لا يجفل قلب عدنان مهما غلت قدر الليل، فقد شفي من الخوف منذ بواكيره، ورافق ظلمته حتى عرف تفاصيل الليل كما يعرف المرء ظهر يده. كانت السماء دليله في بواكير شبابه، ثم صار يعرف الأماكن من رائحتها وأنواع نباتاتها. ذاك وادٍ ينبت فيه البطم، وآخر ينبت فيه القيصوم، وذاك يكثر فيه الرتم، إنه يستطيع التحرك بين الأمكنة ويعرف الاتجاهات كلها معتمدًا على حاسة سادسة يستمدّها من روح المكان ومن الذوبان في تفاصيله». وفي السياق ذاته الذي يكشف ملامح الشخصية النمطية في ذلك الزمن: «هكذا هي حياتنا، نمشي فوق نصل حادٍّ لا يترك لنا مجالًا للمناورة، ولا حتى لرسم الابتسامات على وجوهنا. نعبد القوة ونقدّس الصلابة ونعشق الذهب البرّاق، ونحتفظ بعواطفنا في قعر بحر مظلمٍ كي لا يراها الآخرون فنُتَّهمَ بالضعف». ويتعمق الحديث عن سمات هذا المجتمع وكشف تفاصيله وحيثياته ومنازل وطبقات الناس: «إنها تتوارث هامشيتها تمامًا مثلما يتوارث آخرون الزّعامة والمشيخة. ومن العجيب أنها تتقبل هذا الوضع، وتتعايش معه بصفاء، بل تعدُّه لازمة من لوازم هذا العالم الذي حكم على الناس بأن يكونوا درجاتٍ ومراتبَ».

    تتحول الرواية في المنعطف الأول للحديث عن الثورات التي هي موضوع الرواية: «الثورات دائما محكومة بمقاصدها، فإمّا أنها ضدَّ النِّظام القائم، اجتماعيًا كان أم سياسيًا أم دينيًا، وإمّا أنها تسعى فقط لأن يكون لها موطئ قدمٍ فيه. الأولى قد يقودُها رجال أخيار، أمّا الثانية فيتزعمها دائمًا لصوص، ويقوم بعبئها غوغاء». يتقدّم البرغوث الذي لا ينتمي إلى طبقة الزعامة، ويحاول أن يقود حركة ويفرض احترامه وهيبته بالقوة، لكنّ تقاليد المجتمع الراسخة تقف في وجهه وتُنهي حركتَهُ بسرعة: «يا رجال، عليكم أن تنتزعوا حقَّكم من هذا العالم بأسنانكم. كونوا ذئابًا كي لا يجعلوكم غنمًا في حظائرهم. إنهم ممتلؤون غرورًا كاذبًا، وأنانيون وباغون. بل هم عميٌ عن رؤية شيء سوى أنفسهم. أنتم قطاريز وهم أسياد، هكذا يرونكم غيرَ آسفين على شيء».

    بعد هذه التوطئة المكانية والزمانية والمجتمعية تبدأ الرواية بتقديم بعض الوقائع التاريخية بأسلوب روائي شائق، من خلال حبكةٍ وشخصيات تتحرّك في فضاء مكاني واسع يمتدّ حتى يصل إلى إسطنبول ودمشق بالإضافة إلى الكرك. أما الفترة الزمانية فتغطّي لغاية معركة ميسلون عام 1920. نقطة البداية هي محاولة السلطان عبدالحميد لاستيعاب الشعوب الخاضعة لحكم السلطنة، ومدّ جسور الثقة والألفة معهم وخاصة العرب، من خلال إغداق الأوسمة والألقاب والأعطيات على شيوخ المناطق، ومنحهم السلطة لتسيير شؤون نواحيهم بحسب العادات والتقاليد المعمول بها. لكنّ الانقلاب يأتي سريعا ليطيح بالسلطان وخططه، لتنتقل السلطة إلى الاتحاديين الذين أظهروا حسن النية تجاه العرب في البداية ثم كشّروا عن أنيابهم الطورانية لاحقا بعد خسارتهم في السويس، فنكّلوا بالعرب من خلال شخص جمال باشا أحد الأقطاب الثلاثة الذين حكموا الإمبراطورية، منذ الانقلاب وحتى نهاية الحرب العالمية الأولى. نفّذ إعدامات دمشق وبيروت بحق القوميين العرب فقامت الثورة العربية الكبرى وانطلقت من الحجاز. في خضم هذه الأحداث يظهر من يقول: «علينا ان نهتمّ بالحياة من الآن فصاعدًا. كفانا موتًا، مواجهة الحياة لا تقل شجاعة عن مواجهة الموت. لقد فقدت عشائرنا كثيرًا من شبّانها وزهرة رجالها في صراعها مع هذا العالم الذي لا يرحم أحدًا».

    قبل الوصول إلى الثورة العربية الكبرى وموقف البعض منها، لا بدَّ من المرور على أحداث الهيّة التي اندلعت في العام 1910؛ أيْ بعد الانقلاب وحكم الباشوات الثلاثة. تغيّرت أمور كثيرة خلال هاتين السنتين من تهميشٍ وإقصاء، ثم جاءت الضربة القاصمة عند إفصاح الدولة عن رغبتها في تعداد النفوس تمهيدا لفرض التجنيد الإجباري؛ الأمر الذي اعتبره وجهاء المنطقة محاولة للانتقاص من المكتسبات التي حصلوا عليها لسنوات طويلة. كان لا بدّمن المواجهة فكانت الهيّة. وهنا تظهر ثلاث شخصيات تمثل وجهات نظر ودوافع مختلفة:»عدنان المؤابي» و»سلامة بن كريّم» و»غالب بن عويّد». عدنان الذي رأى الثورة بداية لعهد جديد بعيدًا عن حروب ومشاكل الدولة العثمانية. سلامة الذي أصبح لاحقًا سلامة بيك وجد في الثورة طريقًا للوصول إلى طموحاته وآماله، أمّا ابن عويد فظلَّ على ولائه القديم للدولة العثمانية والسلطان الذي لم يعد له وجود. تنتهي الهيّة على نحو قاسٍ بالنسبة للقائمين عليها؛ لذلك يظهر الفتور تجاه الثورة القادمة من الحجاز حرصًا على عدم خوض تجربة قاسية أخرى، لذلك تطفو أحداث القويرة إلى السطح،وكأنها شهاب يمزق ظلام الليل الحالك، وهي معلومة صادمة ومتنحيّة بالنسبة لي على الأقل.

    في وصف الهيّة يقول فارس وهو ابن عدنان المؤابي العقل المدبر للثورة: «قاتلنا بكل شراسة، كانت ثورة كيان ضد دولة، أقصد أنها لم تكن مجرد عمل عفوي ارتجلته عشائر غاضبة، بل كان هناك تخطيط، وسياسة، ودراسة عميقة للتبعات جميعها. وكانت هناك أخطاء قاتلة أيضًا جاءت بنتائج عكسية».

    ترصد الرواية بكل شفافية تطورالروح القومية في نفوس العرب، وظهور تيارات وأفكار ورؤى متباينة وحالة من المخاض السياسي في الحواضر العربية، وعلى رأسها دمشق. التنازع الفكري والسلطوي بين أقطاب متناحرة: أنصار السلطان المخلوع، الاتحاديين، الائتلافيين، القوميين العرب، وقبل كل هؤلاء الناس البسطاء الذين يحلمون بتأمين عشاء الليلة القادمةلأطفالهم.

    وفي المشهد الختامي يظهر أنيس في ميسلون ليستشهد مع باقي الشهداء، لكنه قبل ذلك يشهد الخيانة المقيتة في أحلك الظروف وأدقها: «أي وطنية تلك التي تمر طريقها عبر محتل تراه يربض على ساحل بلادك فتذعن له لتكون النتيجة ما يفعله الآن؛ أن يهاجم عاصمتك فارضًا عليك شروطًا لا يقبلها شعب فيه بقية من كرامة؟َ!». قالوا له هذا انتحار، فرد عليهم: «أنا لا أقاتل يئسًا بل استردادًا لمعنى جميل فقده هذا العالم». موت أنيس يمثّل موت حلم الشباب العربي التوّاق إلى وطن مستقل ومندفع للمستقبل. كان الحلم قريبًا جدًّا، وفجأة تبخّر وانتهت الدولة الفيصلية، وهذا ما سبّب حالة من اليأس والحيرة وخيبة الأمل. هؤلاء الذي وقفوا في ميسلون مثّلوا حالة من الحلم والكرامة والتاريخ، في حين تلاشى الذين التهبت حناجرهم بالخطب والوطنية والثرثرة السياسية.

    الرواية زاخرة بالعبارت التأملية التي تدفعك لإعادة قراءتها والتمعن بها: «إن عالم الإنسان تشكله المعاني مثلما تشكّله الحقائق؛ إذ لا فرق بين الحقيقة والأسطورة ما دام المعنى يسري سريان الحياة من جيل إلى جيل).

    رواية «المؤابي» الصادرة عن (الآن ناشرون وموزعون) لهذا العام هي الأولى في رصيد الأديب سامر حيدر المجالي، الذي أمتعنا بهذا العمل الجميل وهذا الخيال اللغوي الشائق والمتجدد، وتدجين التاريخي لصالح الروائي. استخدم المفردات العامية بمقدار محسوبٍ حتى يُملّح الحوار وينقل القارئ إلى بيئة الحدث دون شطط وإسفاف. في الختام لا بد من القول إن هذه السطور ليست سوى إضاءة على أهم ما علق بالذاكرة من القراءة الأولى للرواية، ولا شك أنها تحتاج لقراءات متعدّدة.