رواية “حكايات المطر” لآسيا عبدالهادي تقتفي أسلوب الحكي التراثي.

رواية “حكايات المطر” لآسيا عبدالهادي تقتفي أسلوب الحكي التراثي.


class="inline-block portfolio-desc">portfolio

text

    عواد عاي

    يزخر التراث السردي العربي بالكثير من الحكايات المشوقة، التي لا تزال محافظة على جدتها وجمالها لم يبلها الزمن ولا التقادم، وربما يعود ذلك مثلما هو حال حكايات ألف ليلة وليلة إلى الأسلوب الذي كتبت به هذه الحكايات والقصص، ورغم التطور الكبير الذي عرفته المدونة السردية العربية مع التجارب الروائية فإنه ما زال من الممكن استلهام أساليب السرد القديمة لرواية قصص جديدة.
    على غرار الحكايا الشائقة التي كانت الجدات يروينها لأحفادهن المتحلقين حولهن في ليالي الشتاء، تصوغ الروائية الأردنية آسيا عبدالهادي روايتها الجديدة “حكايات المطر”.
    في الرواية، الصادرة مؤخرا عن دار الآن ناشرون وموزعون في عمان، تروي جدة لحفيدها عمر حكاية عن البطل حسن من أجل تسليته وإنعاش مخيلته. لكن هذه التسلية ليست هدفا نهائيا للحكاية، فهي تنطوي على مجموعة من القيم الأخلاقية التي أرادت لها الجدة أن تكون سندا لحفيدها في مستقبل حياته.
    حكاية الجدة
    تبدأ الجدة حكايتها بالعبارة التقليدية “كان يا ما كان في قديم الزمان، يا سعد الأكرام ما يطيب الحديث إلا بذكر النبي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، كان بيتنا قريبْ.. وأجيب لكم صحن زبيبْ.. تأكلوا وتشربوا وتصلوا على النبي الحبيبْ”، ثم تسترسل في حكايتها التي تنتهي باستفاقة الحفيد من النوم، فيطرح عليها مجموعة أسئلة تتعلق بحسن ومصيره. وما بين هذه البداية والنهاية تتفرع الحكاية إلى مسارات عديدة، وتقدم شخصيات متنوعة تحمل كل واحدة منها حكاية لوحدها.
    وقد جعلت الكاتبة الزمن طليقا، فلم تحدده بسياق تاريخي معين لتكون القيم داخل الحكاية صالحة لكل زمان ومكان. لكن المكان ارتبط بمملكة الوفاء والأمل، فأخذ صفته من صفات أهلها، ولم يختزل بمكان مادي محدد. أما الشخصيات فحملت كل واحدة منها دلالة مستقلة، غير أنها تتكامل مع الدلالات التي تحملها الشخصيات الأخرى، فالملك رمز للعدل، وزوجته الملكة رمز للغيرة القاتلة والغضب الجامح، أما الابن (الأمير) فكان رمزا للطيبة والنقاء وسمو المشاعر والحب والوفاء، بينما كانت زوجة الأمير الجوهرة رمزا للحب والوفاء والصمود، وللمرأة العربية التي تجيد تربية ابنها خير تربية.. وهكذا الأمر في ما يتعلق بباقي الشخصيات.
    الكاتبة جعلت الزمن طليقا فلم تحدده بسياق تاريخي معين لتكون القيم داخل الحكاية صالحة لكل زمان ومكان
    بنيت الرواية على عنصري المفاجأة والتشويق، وهما من سمات الحكي التراثي، التي تجذب انتباه القارئ لمتابعة الحكاية بشغف وإنصات وتركيز، بل وبمشاركة وجدانية في معايشة المواقف المأساوية فيها. وقد اتضح هذا المنحى منذ أول فقرة في الرواية، إذ حملت حميمية وأحداثا غريبة متشوقة.
    تروي الجدة لحفيدها عن الملك الطيب ملك مملكة الوفاء والأمل واختفائه في ظروف غامضة، ثم تنصيب ابنه الأمير الطاهر، وعن حسن ورحلته إلى مدينة الزهور، التي لا يوجد فيها زعيم، فيفكر جديا في أن يكون زعيما لهذه المدينة، وفي كيفية القضاء على خصومه، وصنع نسب يليق به، كل ذلك في صورة عجائبية، ثم يتراجع بعد ذلك عندما يجد صبيا يطعم جروا صغيرا الخبز اليابس بعد أن يبلله له، فيتذكر كلام أمه “ابن الأصل لا يظلم الناس”، ويتأمل الأمر مليا ويتساءل “ماذا يجني الصبي من فعله هذا إلا العطف والرحمة على حيوان، وماذا أجني بضلالي وجريي وراء المناصب والمال؟”.
    السرد والشعر
    مجموعة من القيم الأخلاقية التي أرادت لها الجدة أن تكون سندا لحفيدها في مستقبل حياته
    يحتل عنصر المفاجأة في الرواية حيزا كبيرا يتناقض مع مبدأ السببية في بناء الأحداث، لذا لا يتوقع القارئ سيرورتها، الأمر الذي أضفى على النص المزيد من التشويق، وألزم القارئ بالترقب وعدم توقع النتائج قبل أوانها. ومن الأمثلة على ذلك عودة شخصية الجوهرة إلى الحياة مرة أخرى، وحملها في بطنها طفلا يصبح في ما بعد قائد ثورة لإرجاع ملك أبيه.
    الجدة جعلت من المطر رمزا للخير الذي لا بد أن ينتصر في نهاية كل صراع بين الخير والشر
    تصف الكاتبة لحظات الحمل هذه “الجوهرة تفيق بعد فترة، تغسل دمها، تعيش في القبو، تلاحظ انتفاخ بطنها، وتكتشف أنه حمْل. تنجب طفلا تسميه حسن وتظل مكانها خمس سنوات، ثم تهرب إلى المدينة. تتعرف على أم عادل المرأة العجوز العمياء، تظل سبع سنوات عندها، حتى وقت اكتشاف حدرج ورجاله لموضعها، تهرب بالطفل إلى مكان منقطع، حتى يبلغ السادسة عشرة من عمره، كان الوضع في المدينة يزداد حنقا وغضبا على حدرج، يوجد حسن وسط المعارضين، يعجب به الملك الذي كان لا يزال لا يتصور موت الجوهرة”.

    ويكشف وصف هذه اللحظات التي عاشتها الجوهرة عن تنوع أسلوب الحكي في الرواية، ما بين الأسلوب السردي العادي والأسلوب الشعري. وقد تجسد ذلك تحديدا في وصف المواقف الإنسانية المؤلمة في الرواية، كما حدث عند استيقاظ الجوهرة بعد فترة الإغماء الطويلة التي مرت بها “بين الركام والخراب امرأة لا يفصلها عن الموت سوى خيط رفيع، ملقاة في مكان معزول، وسط ظلام دامس، ولكن خيطا رفيعا من الحياة ما زال يتسلل إلى روحها، فيحرك بعض أعضائها. أفاقت قليلا، تململت، لكن لا قدرة لها على الحركة. أغمي عليها، ثم أفاقت، ثم أغمي عليها، وأفاقت من جديد. تحسست جسدها فوجدته رطبا يغرق في شيء ما، غمست يدها به واشتمته، إنه الدم، تئن، كل شيء يؤلمها، تشعر بصداع يكاد يفجر رأسها فقد نزفت كثيرا، ربما لم يتبق في جسدها نقطة دم واحدة”.
    وتحظى نهاية الرواية بالكثير من الأمل والعزم والتصميم الذي يتجسد في الحفاظ على التراث، والتمسك بالحق مهما انقضت بعده الأيام والسنون. وربما كانت هذه القيمة واحدة من القيم الأساسية التي أرادت الكاتبة بثها في روايتها.
    ثم تجعل الجدة من المطر رمزا للخير الذي لا بد أن ينتصر في نهاية كل صراع بين الخير والشر والحق والباطل. وهكذا “أفاق عمر من نومه يسأل جدته: هل انتصر حسن؟ هل عاد إلى أهله؟ وهل عثر على والده؟ وهل عاد إلى بيته؟ ضحكت الجدة وطمأنته: نعم نعم يا عمر.. لقد حدث كل ما تتمنى.. هيا إلى السرير وغدا أحدثك بحكاية أخرى.. فما زال المطر ينهمر وأملنا بالخير كبير”.