تقوم فكرة رواية «حنظل ومكعبات سكر» على رؤية نفسية عميقة، تتناول مفهوم (البحث عن التوازن)، حيث تتجسّد رحلة البطل بوصفها محاولة مستمرة لاستعادة نقطة توازن بين قطبين متعارضين: قطب الواقع المؤلم، وقطب نداءات الرغبة والطموح. وفي هذا الفضاء المتوتر بين القطبين تنبني الأحداث على سؤال وجوديّ مركزي: كيف يحافظ الإنسان على ذاته ويصل طموحاته وسط عالم لا يكفّ عن دفعه إلى الأطراف الهشّة؟
تبدأ الرواية بوصف علاقة صداقة بين نقيضين تاريخيين، الأول سجّان في سجن الجويدة في عمّان اسمه الشاويش عبدالرحيم، والثاني سجين دخل سجن الجويدة إثر جريمة ارتكبها. ثم لا يلبث الشاويش عبدالرحيم أن يتحوّل إلى كاتب يسجل ما يمليه إيّاه السّجين في جلسات أسبوعية مغلقة، كجزء من علاج نفسي يتلاقه السجين.
ويأتي عنوان الكتاب الصادر حديثًا عن “الآن ناشرون وموزعون” في الأردن في 208 صفحة من القطع المتوسط، ويضم سبعة فصول متضمنة سبع جلسات دوّنها الشاويش عبدالرحيم قبل صدور الحكم، ثم جلسة قصيرة يُتلى فيها الحكم.
تبدأ أحداث الرواية بمشهد على لسان السجّان، يشير فيه إلى لقاء من الماضي بين سبعة من الأصدقاء، هو أحدهم، في قصر سعدون الذي هو واحد من الأصدقاء، يقول المؤلف على لسان الشاويش عبد الرحيم: “استغرقنا في تذكّر الماضي فأقبلَ نحونا، رأيتنا في الغرفة الصفيّة بكل تفاصيلها، وكأنّنا نعيش يوما دراسيا اجتمعت فيه أحداث أعوام عديدة. رأيت اللوح الأخضر، والطباشير الملونة، والمسّاحة الخشبيّة، وساعة الأستاذ عصام الفضّيّة التي كان يخلعها ويضعها على الطاولة قبل طقوس العقاب. رأيت أشجار السرو العطشى، ونوافذ الصفّ التي تنفذ منها رياح الشتاء فتصبح كزفيرٍ يخرج من أبواق مبحوحة. رأيت مدير المدرسة والمعلمين، ورأيت طالبًا يرفع العلمَ فوق السارية”.
ويضيف: “أحببت العودة إلى ذلك الماضي البعيد، وأحببتُ في سعدون أنّه جمعنا. أحببت كرمه وحفاوة استقباله، ولقد زاد إعجابي بالرجل أكثر لولا أنّني سمعتُ بعض الحاضرين يتهامسون دون أن يسمعهم، فعلمتُ أنّه قد صار مؤخرًا من كبار تجّار المخدّرات. شعرتُ بالحزن للحظات، وخلصتُ إلى أنّ ما دخلَ جوفي من طعام وشراب إنّما هو حرام، فأصابني شعور بالاشمئزاز والرغبة بالتقيّؤ”.
ولكن الشاويش عبدالرحيم يوضح أنّ ما سيرويه هو قصّة قاسم المسعودي، يقول المؤلف على لسان الشاويش عبدالرحيم: “لن أتحدّث لكم عن نفسي أيها السّادة، فأنا باختصار سجّان اعتاد عدم البوح بأسراره، ولم يهتمّ يومًا بكتابة مذكّراته، ولكنّني سأروي لكم قصّة قاسم المسعودي التي شاءت الأقدار أن أكتب أغلب فصولها في أواخر خدمتي في سجن الجويدة”.
يصف علاء الدين التوينة الأثر النفسي للسجن على لسان السجين فيقول: “السجن بقعة مغلقة لا يدرك كُنْهها إلا من أُلقِيَ فيها، تتغيّر فيه المفاهيم نحو الحياة، بل ربما تتغيَّر القناعات برمّتـها أيضًا. بقعةٌ تفرض على مسلوبي الحريّة إعادة الفهم والصياغة والتكيّف، ضمن معطيات محدودة لا تقبل التغيير أو النقصان أو التطوّر. الوقت بلا قيمة سوى أنّه اقترابٌ من مصيرٍ محتوم، فلن يتجاوز أن يكون حبلًا يجرّك إلى خلاصٍ مجهولٍ، أو إلى مشنقةٍ مؤكّدةٍ، أو إلى فراغ ممتدّ يتحوّل فيه الزمن إلى شيءٍ قادرٍ على تحويلك من كائنٍ بشريّ إلى جماد على هيئةٍ متحرّكة”.
ويتوازى عدد من الخطوط بين ثنايا الرواية حتى يبلغ قمة التداخل في الفصل الخامس حين راح قاسم يحكي عن تعلّقه بـ (بشرى)، والتي تجسّدت فيها أحلامه وطموحاته فعشقها، فصارت قطبًا لا يستطيع الإفلات من تأثيره المغناطيسي، تلك الحسناء التي وُجِدت من أجله هو فقط، فأخذ يرسم ملامحها كيفما يشاء ويريد، وكأنها تحيا معه في قصرها المنيف، يقول قاسم:
“استبقاني حضورُها فتشبّثتُ به حتّى لحظته الأخيرة. عيناها تكتم حبّي، ولا أجد صعوبة في رؤيته. الحصار يجمعنا من جديد. حصارٌ لذيذ أوجَدَني ذاتي، وأوجد المدينةَ ذاتَها أيضًا. حاصرتْني ذاتي مذ كنتُ في وطني كي أجدها. بحثتُ عنها وحاصرتُ كلَّ حلمٍ أوهمني أنّه طريقٌ إليها. أُفلِتَتْ منّي فغادرتُ. وجدتُ المدينةَ، فاستنكرتْ رجلًا يحملُ جبالًا من الطموح ولا يزال عاريًا. حنَتْ على جسدي فأسدلتْ، فأغدقَ حبُّها في داخلي. حُوصرنا معًا، فكسبنا وتقاسمنا الغنائم: نهضة وامرأة. هنِئَ كلٌّ منا بما كسب. أنا المدينةُ وهذه هُويّتي”.
ويفسِّر علاء الدين التوينة بعضًا من أسرار وخبايا قصة قاسم في فصله الأخير، ليبقى كثيرُ الأسرارِ غائمًا وبعيدًا، إذ يقول: “الدفتر الأزرق لم يعد فيه مكان، امتلأ أحلامًا وذكريات، صار فصولًا لروايةٍ عاش بعضها وحلم بأكثرها. روى نفسَه بين صفحاته، وروى قصّة امرأة جاءت من المستقبل، ثم عادت إليه. باح لها عن ذاته، عن أحلامه، عن شابٍّ وطموح وأقدار، عن غربته، عن مستجير الذي جُنّ بفقد وطنه، عن غصّاب الأسود الذي ظلمه قاسم وظلمه النّاس، عن مخيّمٍ وحائرين، عن مغادرين ألفوا الصحراء بحثًا عن آمالهم، فوجدوها ونسوا أعمارهم، عن قاسم الذي لم يفهمه وطنه، ولم تفهمه أحلامه، وفارقه طيف بشرى”.
إن الحركة السردية في الرواية بين «الحنظل» و«السكر» ليست مجرد مفاضلة بين نقيضين، بل هي تعبير عن صراع نفسي عميق يجعل الشخصية تسعى جاهدةً للوصول إلى اتزان جديد مستقر، يقوم على فهم الذات في لحظة هشاشتها القصوى. ولكن، هل نصل إلى هذا الفهم ونعترف به ونتعاطى معه؟ أم نستمر في الهروب من مرارة الحياة لنرتمي في حلاوتها الزائفة؟ هكذا تتبدّى الرواية كمساءلة للإنسان المعاصر، وكتجربة سردية تُعيد تعريف معنى البحث عن التوازن بوصفه رحلة لا تنتهي، رحلة يتحول فيها الصراع بين المرارة والحلاوة إلى مجاز وجودي للعثور على الذات، وإعادة بناء هوية الإنسان وسط عالم مضطرب. وبهذا، تُرسّخ الرواية حضورها كعمل يستثمر الأدب لفهم النفس، ويمنح القارئ مدخلاً عميقًا إلى ديناميات الوعي الإنساني.
وختاما، فيجب التنويه إلى أنّ رواية حنظل ومكعّبات سكر تقوم على تقنيات السرد المتقطّع، والتنقل بين الماضي والحاضر وربما المستقبل، فتُفسّر الأحداثُ التالية أحداثا سابقة لها، وعلى القارئ أن يحسن الربط بين هذه الأحداث غير المتسلسلة بالطريقة التقليدية، فكلما قرأ القارئ فصلا شعر بفهم أعمق للفصل السابق له، فالسرد فيها يقوم على تركيب فسيفسائي للأحداث تتضح فيه خيوط الحكاية كجسد واحد في نهايتها.


