“Orient NET”
تعد القصة القصيرة من أقدم أنواع الأدب والحكي في الثقافة الإنسانية، بالنظر إلى شكلها الأولي الذي تمثله الحكاية الشعبية بكل فروعها، بما فيها النوادر والأخبار والألغاز والأمثال.. ولكن حين نقرأ مجموعة (زوجة تنين أخضر) لروعة سنبل، الصادرة عن دار (الآن ناشرون وموزعون) 2020 في عمان، نلمس طاقة جديدة في القصص والقوة التخيلية المفجرة لكل الطاقات الذهنية، الذاكرة، التفكير، التصور، مع أنها أيضا كانت تعود إلى السياقات الكتابية الواقعية لتكون هي الأرضية فتساعدها على البحث عما اختفى في تفاصيل حياتنا وآلامنا، علماً أن فن القصة القصيرة وجد ليكون واضحاً بطبيعة بنيته المضغوط والمقتصد في تقنياته بما فيها اللغة من دون أن تخلق إشارات كثيرة. الواضح والبارز في هذه المجموعة هو آليات التشظي التي تبرز في كل تفاصيل السرد، فتعمد الكاتبة الاشتغال على كسر أفق التوقع وتصعيد تجليات الألم بأقسى أنواعه، فتجعل القارئ يقف كثيراً على كل مكوّن من مكونات قصصها ابتداءً من قصة (بهدوءٍ خلفَ قطّته) التي تستحضر لنا قصة العائلة التي تطبخ قطة ابنهم في الحصار الذي وقع عليهم… ومن ثم (حكاية رجل سعيد) هذا الرجل الذي يريد أن يهرب من واقعه الأليم وتشظيات الحرب وقساوتها… فيبحث عن أمل مفقود ليخدر آلامه برسائل للغيب.
لكن كل هذا لا يعكس الصدق المتغلغل في تفاصيل السرد عندها؛ بل حتى في الصدق الفني والانتقالات الغرائبية ودمجها مع العالم الواقعي، فتشتغل بحرفية و براعة في التوظيف والالتقاط… نعم من البدايات نلاحظ هنالك تداخلاً واضحاً حتى بين بعض العناوين والنص والأسطورة؛ ومثال ذلك نصوصها المعنونة بـ (علاء الدّين وامرأة تحلم؛ زوجة التنين، يا جدِّي) ففيها أجادت في خلق مساحات توظيفيّة بين التراث الشعبي والحكايات الجميلة التي نعيشها في خيالاتنا عندما نقرأ؛ وبين الواقع فنحاول أن نربط بينهما، حتى يتداخل الواقعي بالمتخيل، كثيرة هي المرات التي تكون فيها شخوص الحكايات من لحم ودم وتعيش معنا تفاصيلنا، تعلمنا وتوجهنا… هذه المرأة التي أحبت علاء الدين القادم من الحكاية؛ المنبوذ من زوجته ياسمين، ولكنه البارع في اصطياد اللحظة مع البطلة فيسحبها من واقعها الأليم ويأخذها إلى دنيا الأحلام.
أسلوب المفارقات
اعتمدت بشكل كبير الكاتبة على أسلوب المفارقات وخصوصاً عندما صوّرت المرأة وخاضت في الحديث عن خصوصياته، فالمرأة مكتنزة في نصوص الكاتبة، بين العاشقة والمحرومة المسلوبة والأم . وهذا ما نجده في قصة (عن امرأةٍ تبكي) أنها تحتفي بالرمز والمكونات التي يجب أن يقف عليها القارئ بشكل جدي ليصل إلى مقاصد الكاتبة… وللتعبير بدقة أكبر، التجأت إلى التصوير المجازي؛ يعني عكس الطريقة التي تشبّه القصة بالسهم الذي ينطلق من قوس بسرعة ودقة نحو نقطة بيضاء، هدفه الدقيق فتعبر عن ارتباك المرأة بحيائها ومن طريقة تعامل الرجل الذي تحب، فكل مرّة تراه بطريقة جديدة ومناسبة لحيائها وحبها الشفاف… وتتلون في ملامحها وتكون ردات فعلها شفافة فتكشف ما في داخله وما وراءه، نعم في هذه القصة يحتاج قارؤها إلى إعمال المجهر لتحليل مكونات ما في داخل المعنى من مقاصد وما يتوارى خلفه… وهذا ما تؤكد باقي المشاهد من هذه القصة. امرأة، امرأة تبتسم ، امرأة تضحك، تغرق… فتطورت المشاهد واحداً تلو الآخر حتى أوصلتنا القصة إلى نهايتها في امرأة تغرق وهنا إحالة على واقع المرأة السورية اليوم بطريقة رمزية. وأيضا هذا ما تطالعنا عليه قصة (جدائل) وتطلعنا على رمزية الحلم والشغف ثم الانتصار على الواقع بحب متجدد، حتى أصابها هوس، أو لنقل المرض بهذا الشغف.
الغرائبية والعوالم الجديدة
أما عن الغرائبية التي احتفت فيها المجموعة كما في قصة (رجلٌ بلا رأس) فتأخذنا نحو عوالم جديدة لرجل تحبه بلا رأس وقد زرع قلبه بين ضلوعها، ثم اختفى لتطير رؤوس وقلوب حب من ذلك المكان الذي اختفى عنده؛ فيغمر العالم بهما وتمطر السماء قلوب حب… أو قصة (طمثٌ أخضر) التي تركز فيها الكاتبة على مفهوم الأمومة والعطاء، فتجنح نحو الغرائبية وإمكانية التحول إلى شجرة تحتاج تلقيحاً وعملية تركيب ضوئي لتكون أماً معطاءة، فتقدم لنا فكرة العطاء بطريقة سحرية ومنفتحة على آفاق تأويلة غرائبية، و من المعروف أن كثيراً من المبدعين بدؤوا يحتفون بالكتابة الغرائبية في هذه الفترة، قد تساعدهم على ردم الهوة بين واقعنا وبين الحلم… خاصة وأن إبداعاتهم استندت إلى عوالم الأسطورة التي اغتنت بها الثقافات المحلية عندنا وفي كتبنا التراثية، فاستفادوا منها بطريقتهم الإبداعية المتميزة. وهذا ما فعلته الكاتبة بشكل قوي وجيد، في أغلب قصصها، هذه الطريقة التي تبقي النصوص غير كاشفة للمعنى، فيغرق المتلقي في الشكوك والتوتر تجاه قصدية الكاتب والنص، فيساعد على اختراق الذات والطبيعة والخيال في آن معا؛ ومثال ذلك حين تدخل الغرائبية في نهاية قصصها كما حصل معنا في قصة (مطرٌ لطقس اللهب) حين ينتفخ ذلك الكاتب الذي يحمل أفكاراً يضيق عنها مجتمعه ولا يقدرها، فتجعل صاحبها يصبح رجلاً بديناً وينفجر، لكن تتساقط حروفه وأفكاره على البيوت والأهالي.
التخيلات بوصفها مختبراً للأفكار
في مثل هذه القصص التي احتفت المجموعة بالكثير منها يتداخل الفضاء هنا بالزمن، فيتشظيا معاً، إذ تتكرر عوامل الغرابة والتحول كما في قصة (تحت صدَفةٍ كتيمة) حين ترى الكاتبة إمكانية أن يكون الشاعر غيلماً بعد أن سخر من صورة السلحفاة، إنها القدرة على إنتاج الأفكار الأصيلة والحلول باستخدام التخيلات والتصورات. مثلما يشير إلى القدرة على اكتشاف ما هو جديد وإعطاء معانٍ للأفكار كما في قصة (زوجةُ تنّينٍ أخضر). في النهاية لا يسعني إلا أن أقول أن الكاتبة أمسكت خيوط سردها ببراعة من قصّة إلى أخرى، واستطاعت التعبير عن القضايا الإنسانية وأن تعكس واقعنا المر وجراحنا النازفة باشتغال واعٍ ومخلص.