صحيح أننا مجرد أدوات أو أشياء في لعبة الحياة، وبعضنا يترقى إلى درجة لاعب ضمن دائرة مغلقة، ولكن اللاعب المبدع يستطيع أن يفعل الأعاجيب في دائرته مهما كانت ضيقة، وربما يتمكن من هدم الأسوار، واللعب في دوائر أخرى بمهارة، فيفرض وجوده ويوسع دائرته.
وما الإبداع الأدبي إلا لعبة؛ لعب بالكلمات والمعاني والتراكيب والأفكار والخيال والشخوص والزمان والمكان، وبقدر تمكن الكاتب وحرفيته يستطيع أن يبدع ويبهر ويذهل أيضًا. ولا يملك القارئ لمجموعة «زوجة تنين أخضر وحكايات ملونة أخرى» إلا أن يصفق إعجابًا وطربًا لروعة اللعبة الإبداعية التي قدمتها الكاتبة، ومهارتها الفائقة، وقدراتها المميزة في الحركة والمراوغة والتسديد المحكم.
صدرت المجموعة عن «الآن ناشرون وموزعون، عمّان، 2019، 150 صفحة»، وتكونت من ثماني عشرة قصة، ضمن خمسة أقسام لونية هي: أسود، أحمر، أخضر، أزرق، أبيض. شملت موضوعات اجتماعية وإنسانية وفكرية وضحايا الصراعات والحروب. وتتناول هذه المقالة ثلاث قصص كنماذج للألعاب الإبداعية التي تجيدها الكاتبة.
بهدوء خلف قطته
في القصة لعبة إبداعية موجعة، ولكن لا تملك إلا أن ترفع القبعة لها، فالطفل الذي يلعب على غصن امتطاه حصانًا، ابتعد وتاه عن بيته، ولكنه لا يبكي لأن البكاء عيب على الصبيان. يطمئن عندما يسمع مواء قطته، فقد تذكر قول أبيه: «تعود القطط لبيوتها دومًا، تعثر على الطريق بمهارة وتعود»، فتبعها عائدًا إلى البيت، وهي القطة ذاتها التي أبعدها أبوه بعد إلحاح أمه؛ فقد لحست عقله وتنام معه، كما تقول.
ولأن السماء ممطرة، فلم يجد الطفل إلا أن يلعب مع قطته، فأخته رضيعه، وأخوه مات مريضًا بالحمى. وعندما هدأت الأمطار، خرج يلعب مع رفاقه، ولم يعد إلا بعد أن جرته أمه. هصره الجوع وأسرته أيامًا، ولم يجدوا ما يأكلون، ونام منهكًا، واستيقظ على يد أمه توقظه ليأكل، وفي اليوم التالي، علم أنه أكل وشبع من لحم قطته، فصار يبول على نفسه ليلًا، وكان يرتعب عندما يرى عينين خضراوين تضيئان في الظلمة، ولا يستطيع النوم إلا عندما يحتضنه سواد دافئ يشبه قطته.
خرج يلعب، فسقطت عليه قذيفة، فاختلطت عليه الأصوات، ووجد نفسه في سكون ناصع وحيدًا مشدوهًا، وفجأة يسمع قطته: «لا تخف، أنت هنا بخير.. افتقدتك كثيراُ»، تتمسح به، وتمشي أمامه، فيتذكر نصيحة أبيه: «كلما ضعت اتبع قطتك، تعرف القطط دومًا أين تذهب»، فيبتسم، ويسير بهدوء خلف قطته.
قصة مؤلمة، تقول الكثير الكثير، وأكثر منه بين السطور، وكل ذلك بسرد سلس، وحبكة ملعوبة، ولغة جميلة، ونهاية مدهشة.
خمسة أقسام لونية
رجل بلا رأس
بعد مراسلات وشوق متقد، اتفقتْ والرجل البعيد الذي تحبه أن يلتقيا، وقرر الرجل «أن يترك رأسه خلفه في مدينته الحزينة..، ودَّع زوجته وطفليه، ثم خلع رأسه ودفنه في التراب قرب داره، واراه جيدًا وأتى، قال إن هذا أكثر أمانًا من أجل عائلته، وأفضل كي لا يعرفه أحد هنا».
التقيا، وتحادثا، وفرحتْ؛ «فرجل بلا رأس، أفضل من رجل بلا قلب»، ثم ضمها وودعها بعد أن ترك قلبه عندها «نزعه من صدره ودفنه في أضلعي، وأخبرني إن هذا أفضل، كي لا يخطفه منه أحد هناك».
اختفى الرجل «تاه ليلتها في الطريق، وابتعلته العتمة ربما، ولم أعثر عليه بعدها أبدًا». وبعد زمن، قرب بيته، الذي تسكنه «امرأة حزينة وطفلان، نبتت شجرة فريدة، تنجب بين الوقت والآخر رؤوسًا يانعة كثيرة، فرح الناس بها، وصاروا يخطفون ثمارها بسعادة، يدخرونها مؤونة لمواسم قهر قادم تحصد الرؤوس». وفي صدرها نبتت وكبرت شجرة خضراء، ضئيلة مثمرة، تداعبها وتخفيها تحت ثيابها، «فترقص أغصانها، وتطرح قلوبًا حمراء صغيرة، تطير نحو سقف غرفتي كما تتطاير القلوب الحمراء في نافذة “الفيسبوك ماسينجر”، نحو الأعلى مسرعة، ثم تختفي، يكبر أحدها فقط كل مرة، ينطبع على السقف، يظل ينبض، يحرس ليلي بعينيه المفتوحتين في الظلمة على سعتهما».
إنها قصة رمزية، ولعبة واقعية مأساوية، فمن الصعب أن يلتقي العقل والقلب معًا في بلاد لا تعترف بهما، وإن وجد، فرأس بلا قلب، أو قلب بلا رأس، لأن اجتماعهما خطر على من لا يملكون عقلًا ولا قلبًا، ويتحكمون في خلق الله، ولا يرقبون فيهم إلا ولا ذمة.
دلو في رأسي
بعد منتصف الليل، تفتح السيدة البراد وتخرج دلو لبن، ما تلبث أن تعيده، وتسأل نفسها: «هل أنت امرأة عظيمة؟»، فتخرج شهادتها، وتسترجع أيام الوظيفة مديرة لمدرسة كبيرة في العاصمة، وتتذكر جهودها في البيت ورعايتها لزوجها وأولادها الذين درسوا وتفوقوا، ولولاها «عظيمة» لما بلغوا ذلك.. اطمأنت إلى أنها عظيمة، فليست شرطًا أن تصعد إلى المريخ أو تشغل منصب وزيرة خارجية، وتفتح كتاب «مختارات فرناندو بيسوا» وتقرأ: «سوف أضع رأسي في دلو كي أريح عقلي، هذا ما يفعله كل الرجال العظام، على الأقل كل الرجل العظام ممن لديهم: 1. عقل، 2. رأس، 3. دلو يدسون رأسهم فيه»، فأخرجت دلو اللبن، وتناولت ما تبقى فيه.
ثم قررت أن تعمل بنصيحة «بيسوا»، فالعظمة لا تقتصر على الرجال، فدست رأسها في دلو اللبن، شعرت بالضيق في البداية، لكنها سرعان ما اعتادت عليه، أكملت ليلتها ورأسها داخل الدلو؛ تقرأ، تشرب، تشاهد، تردد مع المؤذن، تغني، تمشي، إلى أن حضرت ابنتها صباحًا، فهالها ما رأت، ونصحت أمها دون جدوى، فاصطحبتها إلى طبيب نفسي، فأخذت تقص عليه حكايتها، وأنها أنشأت مجموعة «دلو في رأسي» على الفيسبوك، وأصبح عدد أعضائها كبيرًا ممن يعملون مثلها، على الرغم من الحرج في البداية، ولكن العدد كبر وأصبح «دس الرأس في الدلو» معتادًا في كل مكان، مما أثار جمعيات الحفاظ على البيئة بسبب الدلاء البلاستيكية، ومنعت الشركات والجامعات ارتداء الدلاء أثناء الدوام، وأصدرت الجهات الدينية فتاوي تبيح وأخرى تحرم ولكل أدلتها، وأثار الموضوع مراكز الدراسات النفسية، لتفسير الدوافع والآثار، والمجموعة تستعد للاحتفال بالذكرى السنوية الأولى للتأسيس.
تعاطف معها الطبيب، وهنأها بهذه المناسبة على الرغم من استنكار ابنتها وغضبها، ودعته للانضمام إلى المجموعة، وأن يجرب ارتداء الدلو، فوعدها أن يجرب يومًا، حقنها الطبيب بالوريد مع أنها تقول«لا أحب الأدوية عادة، لكني أبتسم الآن داخل دلوي، وأتقبل الحقنة بسعادة، فقط: كي أريح عقلي، كي أريح عقلي، كي أريح عقلي..».
إنها قصة رمزية شائكة، عميقة الدلالة، متعددة الأبعاد، تثير أسئلة كثيرة، وعلى رأسها: هل حقيقة أن «دس الرأس في الدلو» يريح العقل للرجال العظماء؟! ولكن، التجربة أكبر برهان، فلنجرب!! إن بعض الجنون ضروري في هكذا واقع مضطرب متلاطم، وربما الجنون كله، وإن في الجنون لحكمة. وأن يضع المرء رأسه في دلو لبن فارغ باختياره، خير من أن يُوضع رأسه في دلو عسل رغم أنفه!
وبعد؛؛؛ فإن قصص المجموعة جميعها ألعاب إبداعية عالية المستوى، بلغة عذبة، وسرد ماتع. تتسم بالغرائبية، والخيال المدهش، وامتزاج الحلم بالواقع، والمعقول واللامعقول، والعقل بالجنون. لا تفارق القارئ الابتسامة وهو يقرأها بشغف، لتؤكد الكاتبة أنها لاعبة محترفة، ليس بالكلمات والشخوص فقط، ولكن بالقارئ أيضًا.
وهذه المجموعة هي الثانية للقاصة السورية روعة سنبل بعد مجموعة «صيّاد الألسنة» التي نالت المركز الأول لجائزة الشارقة للإبداع العربي 2017. وصدر لها كتاب «الديكاميرون 2020.. نكتب لننجو – نصوص وقراءات نقدية، الآن ناشرون» بالاشتراك مع فدوى العبود. وصلت مسرحيتها «أعشاش» إلى القائمة القصيرة لجائزة راشد بن حمد الشرقي 2019. فازت بالمركز الثاني لجائزة مؤسسة عبدالحميد شومان للقصة الخيالية للأطفال 2020. بالإضافة إلى نشر القصص والمقالات في عدد من الصحف والمجلات والمواقع الثقافية الإلكترونية.