«سجين الزرقة» لشريفة التوبي.. تنفتح على أسئلة موضوعاتية وفنية

«سجين الزرقة» لشريفة التوبي.. تنفتح على أسئلة موضوعاتية وفنية


class="inline-block portfolio-desc">portfolio

text

    محمود الرحبي
    (قاص وروائي عُماني)

    في رواية «سجين الزرقة» لشريفة التوبي -الصادرة عن دار الآن ناشرون- يتقاطع عدد وافر من الشخوص في طريق الشخصيتين الرئيستين «راشد» و«شمسة»، التي يمكن لكل من هذه الشخصيات -على حدة- أن يكوّن فصلًا روائيًّا وافرًا، ولكنْ لمقتضيات التبئير، ولأنّ الرواية لم تبنَ أو تخطط لأن تكون رواية «بلا أبطال محددين» ارتأت الكاتبة التركيز أكثر في رواية «سجين الزرقة» على شخصيتين: الأم/ الطفلة ضحية الاغتصاب، وراشد، الذي جاء إلى الحياة نتيجة لهذه الجريمة، وحيدًا، ذاهلاً، لا جذر له يربطه بالمجتمع.

    فهناك «العم سليمان» بواب ملجأ الأيتام، الذي انشغل عنه أبناؤه بحياتهم وتخلّوا عنه، والذي يعيش في غرفة في الملجأ، يرفض أن يغادره، ما شكّل، بمرور الزمن، تعويضًا لبعض أبناء الدار عن أب غير موجود أو جد مستحيل. وهناك البنت التي زوّجوها دون رغبتها، فسُجنت لأنها تواطأت مع من كانت تحبّ على قتل زوجها. وهناك الحكاية الغريبة لوردة، التي تتمنى أن تبقى في السجن وتحسد السجينات المحكومات بمدد طويلة، بعدما حُكم عليها بستة شهور فقط، إثر شكايتها ضد والدها. وهناك سوشيلا، الخادمة الهندية التي هربت من كفيلها الذي حاول مرارًا التحرش بها؛ ليغلق عليها في شقة للدعارة دون علمها، إلى أن تهجم الشرطة على الشقة ويحكم عليها بامتهان الدعارة. إلى جانب شخصيات أخرى عديدة تثري عوالم الرواية بالأحداث والشخوص التي تشكل أفكارًا محايثة للفكرة الأساسية، القائمة على تتبع حياة الأم الضحية في سجنها، بعدما حُكم عليها بعشر سنوات، قبل أن يُخَفَّف الحكم لاحقًا؛ وراشد، الذي لا تسعفه الظروف لإعادة ترتيب حياة ليس له دور في صياغتها. وسيقضي وقتًا طويلًا في البحث والتفكير في أمه الغائبة وهي الأمل «أو قطعة الثوب» التي ما زال يحتفظ بها، دلالةً رمزية على الأمل الضائع.

    وقد أبدعت الفنانة التشكيلية بدور الريامي، التي رسمت لوحة الغلاف، بأن أبرزت قطعة الثوب في لحظة تتوارى فيها الأم في الزرقة، فيما الطفل يتشبث بأطراف «اللحاف».

    تبدأ رواية «سجين الزرقة» بركوب راشد الطائرة، مغادرًا إلى أميركا «ألصق وجهي على زجاج نافذة الطائرة البارد؛ لأرى ما كنت أسميه وطنًا، أراه يصغر، وأنا أعلو».. وهي بداية لأحداث الرواية التي تتناوب عليها شخصيتان. ورغم أن الشخصيتين لا تلتقيان كثيرًا في واقع الرواية، فإنهما متواشجتان، تفضي كل منهما إلى الأخرى وتبحث عنها، يكتشف راشد حين يخرج من دار الأيتام بأن مبلغًا كبيرًا قد وضع في حسابه، تقول له المربية إنه من دار الرعاية لكي يبدأ حياته من جديد، ولكنه يكتشف في الأخير أن الأم وضعته له من راتبها كل شهر إلى أن تراكم.

    صوتان يتناوبان السرد

    يتناوب في سرد الرواية صوتان بنبرة مونولوغية داخلية مغلقة لدى راشد، وواصفة، منفتحة لدى الأم شمسة. فبينما ينغلق راشد حول أسئلته الداخلية للبحث عن جواب يمكنه أن يفسر غربته وانبتاته الجذري عن المجتمع والمحيط، تفتح شمسة السرد على انعطافات يفضي كل منها إلى الآخر، لذلك كانت الفصول التي تظهر فيها شمسة أكثر تشويقًا من الفصول التي تسرد لنا جوانيات راشد ومحنته في التفاعل مع محيط لا ينظر إليه كيتيم إنما كلقيط (غبن) لا أبوين معلومين له. وهي كلمة تتكرر كثيرًا في الفصول المتعلقة براشد. بينما لا ذكر لها فيما يتعلق بأمه شمسة، التي استطاعت، رغم ما تعرّضت له، أن تبدأ حياتها من جديد وتتزوج وتنجب أربعة أطفال. بينما ظل راشد سجين زرقته وابتعاد كل شيء عن يده. فما إن يلتقي مريم، وكان ذلك في المكتبة، التي «في حضورها غابت المكتبة والكتب»، ويقرر الزواج منها حتى يطرده والدها شر طردة: «ما نزوّج بناتنا غبون».

    وهناك، أيضًا، سالم، الذي وصفه راشد بأنه «يبحث عن نفسه في الغد وأنا أبحث عن نفسي في الأمس». وقد بدا متصالحًا مع حالته، يملؤه الطموح بالذهاب إلى أميركا، وهو طموح سعى إلى تحقيقه عبر الدراسة، فكان له ما أراد. بينما ظل سالم ينتظر الأمل بظهور أمه. ظل متشبثًا بطرف ذلك الرداء حتى النهاية.

    تبدأ الرواية برسالة مطولة، وهي سيرة ذاتية مختصرة تكتبها الأم إلى ابنها، يقرؤها في الطائرة خلال مغادرته وطنه، بعد أن يئس من إيجاد أمه، إلى بلد الأحلام أميركا، حيث يوجد صديقه سالم. وخلال تلك الرحلة الجوية تتداعى على أرض الواقع صفحات من مأساة الأم. فما يميز الرواية، رغم صفحاتها الكثيرة، التي تربو على 350 صفحة وفصولها الـ39، أنها موزعة بطريقة تضع القارئ في «أفق انتظار» تشويقي؛ ينتظر ما سيحدث فيما بعد، وبخاصة في تلك الفصول المتعلقة بالأم (شمسة). ففضاء شمسة مفتوح ومتنوع وثري، تتقاطع فيه مصاير عدة، ما يفرش للقارئ تفاصيل ومعلومات جديدة لم يكن يعرفها، والوصف الضافي لأفضية السجن «لقد بدا لي السجن كمدينة بكل ما فيها من شوارع ودروب وبشر وحياة». فعالم السجون عالم خفيّ في العادة، خاصة فيما يتعلق بسجن النساء. وقد استطاعت الكاتبة أن تجمع حزمة كبيرة من المعلومات الدقيقة، التي جعلت من الرواية متماسكة ومبنية بثبات لا يشعر معه القارئ بأن ثمة وهنًا، أو إقحامًا، للتفاصيل وركائز الرواية وبنائها.

    تساؤلات القارئ

    ولكنْ ثمة تساؤلات يمكن للقارئ أن يطرحها ولم يجد لها إجابة واضحة في الرواية، رغم أنها – أي الرواية بشكل عام – غير معنية بتقديم جميع الإجابات. ولكنها أسئلة يمكن طرحها لاستكناه منطقية بعض الأحداث، من قبيل أننا لم نتعرف بصورة جيدة إلى نواحي دراسة راشد في كلية التقنية وكيف كانت علاقته بزملائه؛ هل هي مثل تلك العلاقة التي جمعته، فيما بعد، بزملاء العمل؟ كما أننا لم نلمس أي حديث، ولو جزئي، عن فتيات دار الأيتام. تحدث السارد عن العم زوج الأم وأوردت أن زوجته تعرف أنه يخونها ولم تتضح تفاصيل ولو موجزة عن هذه الخيانات. كما لم يفصل السارد وصفًا لطريقة موت زوج حليمة. فحمد دفعه إلى الجدار ومات، بينما يظهر التشريح خدوشًا وأظافر في جسد الميت، وكأنما التشريح جاء ليس فقط ليكشف جريمة القتل، وإنما أيضًا لتقصير السارد في وصفه
    لتفاصيل الجريمة.

    الحوار يتناوب في حالتين، حوار مغلق على المحلية ولا يفهمه سوى أصحاب اللهجة العمانية مثل عبارة «نوبه، اسمع انته بويتكلم عن الحرام، أحيدك ما تعرفها القبلة هين دايرة».. فلا يمكن للمتلقي العربي العام أن يعرف بسهولة ما ترمي إليه كلمات مثل «نوبه» و«أحيدك» و«هين دايرة». وإلى جانب الحوارات التي وصفتها بـ«المنغلقة»، ثمة حوارات يمكن وصفها بـ«المنفتحة» أو المفتوحة على عموم المتلقين العرب، من قبيل «أنت ما تعرف إيش ظروفهن، ما تعرف إيش عندهن، لا تجني عليهن». كما أن ثمة حوارات محلية متصالحة مع الفصحى، مثل: «أشوفك خارج السجن. وإذا بغيتي شي خبريني».

    فالرواية التي تبدأ براشد، الذي يفتح المظروف في الطائرة المتجهة نحو أرض الأحلام والخلاص، أميركا، تنتهي به. ولأنه كما يقول في أحد مقاطع الرواية «لقد نزهت نفسي وروحي عن الرغبات المحرمة، رغم أني قد أتيت من رغبة محرمة». كافأه القدر بالفرج، حين تلاقي الأم من زوجها الجديد الذي كان راجح العقل، بأن رضي أن يعيش راشد بينهم، لينفتح العالم مجددًا على راشد، ولكنْ ليس العالم الذي هو ذاهب إليه، إنما العالم الذي تركه وراءه؛ لأن الظروف تغيرت وانفتح أمل جديد في الحياة.

    رواية «سجين الزرقة» تضمر الكثير وتفتح، في الآن نفسه، أسئلة موضوعاتية وفنية عدة يمكن تناولها من أكثر من زاوية.