سقطتْ “الفينوم” … ليرتفع البيرق على رأس حارة الوادي وكل الحارات

سقطتْ “الفينوم” … ليرتفع البيرق على رأس حارة الوادي وكل الحارات


class="inline-block portfolio-desc">portfolio

text

    حمود بن سالم السيابي

    أتراه سليمان بن عيسى السيفي أسقط طائرة “الڤينوم” البريطانية لأجل “نَفافَة” تلك الطفلة التي انطفأ بريق أسنانها اللبنية وتبدَّد رنين خلاخيلها وهي تهرب من ظل طفولتها لتلوذ بأمها خائفة ساعة تقدمتْ الأحذية الضخمة باتجاه الحارة الوادعة لتبعثر الدرب إلى بيتها ؟
    أتراه فعلها السيفي لأجل ناصر ذلك الطفل الذي شرب الجن ماء عينيه فلم يشاهد ما أرعب أخته ؟.
    أتراه “عَسَفَ” المقاتلة البريطانية من الأفق كما يعْسفُ الجبليُّون شجر “البوت” استجابة لاستغاثات “خديجة” تلك الحرَّة التي لا تملك سوى مكنسة من الخوص يوم داهمتْها الأحذية الضخمة ، وهي تسائل نفسها أتقاتلهم بالمكنسة حتى النزع الأخير ، أم تواصل الكَنْسَ وذَرّ تراب الخطوات في عيونهم لكيْلا تمنحهم شرف القتال ؟.
    أتراه السيفي أسقطَ “الرَّخْمة” البريطانية من أفق الذرى العالية ليوقف هتكها لأستار البيوت وليتضامن مع “عويدة” تلك المجاهدة التي امتشقتْ أشرف البنادق وتقدمتْ بعناد آلاف الرجال فتراجع الغزاة إلى الوراء وأعينهم الخائفة مسمَّرة نحو إصبع عويدة القريب من الزناد.
    أم أنّ السيفي وجَّه السهم فبلغ قصده ، ثأراً لبيت العود الذي تقرر هدمه مع أوتدته التي تصلِّي عليها البنادق وروازنه التي يبرق عليها “التسطير الصيني”.
    أتراه سليمان السيفي صوَّب رميته باتجاه الخفافيش لأجهل كَهْلٍ يرتقي الذرى وعلى ظهره “جزلة سح” لقهوة السبلة فالجبل الأشم لا يطول فيه النخل ولا تتدلَّى العذوق من الغدور ، فأسقط جبروت المقاتلة البريطانية لكي يواصل الكهلُ الصعود وتستمر القهوة في سبلة الصباح.
    أم لأجل كرامة العمائم البيضاء التي ارتقَتْ الذُّرى ذات فجر ومعها مصاحفها ومحاريبها وأذاناتها وبيعتها وبيارقها.
    أم أُسْقِطَتْ “الرَّخْمة” لأجل الأرض التي تحنَّتْ بخطوات كل هؤلاء ؟.
    أسئلة أعلِّقها على سياج “الڤينوم” الرابضة بلا حراك على ناصية العابرين لذرى الأخضر الأشم فيتوقَّفون كما توقفتْ ولينصتوا للريح وهي تسرد مشهداً من مشاهد ملحمة العنفوان.
    ولكن من هي “نفافة” التي لأجلها ولأجل صويحباتها أسقطت “الڤينوم” ؟.
    إنها طفلة أطلَّتْ على زماننا من الصفحة ٥٥ لرواية “بيرق حارة الوادي” للروائية العمانية الأستاذة شريفة التوبي
    تقول الرواية : أنها ولدت “سنة الجوع” في يوم ماطر ، لذلك تعمَّدتْ بالنَّفاف الذي يجيئ بشارة للمطر ، واقْتُطِعَ منه اسم “نفافة” لتتفاءل حارة الوادي بالخصب الذي سيزرع فيه الناس وفيه يأكلون ويشربون.
    وتضيف رواية البيرق : أن “نفافة هي بنت صالح” ، وأنَّ أمها “خديجة” ، واسم جدَّتها “عويدة”.
    ولعل “نفافة” وهذه من إضافاتي أنَّها من صُلْبِ هامة من الهامات التي تتكئ عليها القرى التي تتوضأ للفجر من سكيب فضة الأنجم والأقمار.
    أو من قرى السَّفْح مثل “إمطي أو البُركة أو تنوف” والتي تشكِّل برجالها ونسائها جبالا تطاول الجبال.
    ولعل “نفافة” أسبق من ذلك فتتجذر في أرومات الذين شقوا “فلج السَّواد”.
    أو من الذين بنوا “برج المقبض” حصاة فوق حصاة وجمرة تشتعل بجمرة.
    أو لعلها من سلالات قرية “المختبية” ذات النخل وتعريشات الكروم.
    أو لها امتداداتها مع “سَنَة الغرقة” فالعرب يعيشون بجانب الماء ويتفرقون من غضبة الماء.
    وإذا ما قربْناها للأزمنة التي نتذكرها فلعلها تتحدِّر من صلب “ود جريدة” صاحب “بيت العين” الذي يتكرر في “شلَّات هبِّيَّة العيد”.
    تقول رواية البيرق : أن “نفافة” وقفتْ يومها خلف دريشة البيت تتابع فصولاً مرعبة لم تعهد لمثلها من قبل في حكايات الجدات ، فكل الذين يعدون أنفسهم من الرجال لا يدخلون البيوت في غيبة العمائم قبل أن يؤذن لهم ، ولا يتحدثون مع النساء إلا من وراء حجاب.
    وكانت “نفافة” بأهدابها الدامعة ترتعد لرؤية الوحوش وهم يدلقون جحال الماء ويسكبون “الحل تراب” من القناديل ويتحسسون السواد على الحيطان ما إذا كان من بقايا البارود أم لترسبات تهجدات الفتائل.
    ويفتحون المناديس ليصادروا رائحة العطر ، ويزمجرون في وجه الدجاج الذي يتطاير أمامهم في خيلاء.
    كانوا يبحثون عن المجاهد “صالح” والد “نفافة” الذي ابتعد إلى الفلوات لإحماء خيوله وليحشو فوارغ الطلقات بالبارود والرصاص.
    وأنهم يفتشون عنه في كل مكان للقبض عليه لكيلا تصطاد رصاصاته “رخيمهم” المجنحة كما فعل المجاهد السيفي.
    أما الطفل الكفيف الذي أسمته جدته بناصر ليمدّ سيرة جده فقد وُلِدَ من تداعيات ما قبل الفصل العشرين من بيرق الأستاذة الكاتبة شريفة التوبي ابنة إمطي وأطول نخلات المزرعة المنعزلة لجدها.
    تقول رواية البيرق : أن خديجة حملت بناصر بعد ثلاثة أشهر من ولادة “نفافة”.
    وانه رغم محاولات جدته بتكحيله لتزيد اتساع عينيه وليتقوى بصره كان لا يرى ألوان غرفته إلا بعيني أخته “نفافة” وكذلك ألوان القطط والغنيمات الشقية في حوش البيت.
    لقد تمنَّى أبوه أن يسبق “نفافة” ولكن النَّفاف هو الأسبق دوما ، وهو الذي يبشر بالمطر والخصب.
    وتقول رواية البيرق : لقد تزوج جدُّه بجنيَّة لتشارك جدته “عويدة” عش الزوجية فكانت ضرَّتها ، فاقتسمتا معاً مرافق البيت ، تلك مع أولادها من الجن وهذه مع أولادها من الإنس.
    حاولتْ “عويدة” أن تقنع نفسها بأن زوجها قد مسّه الضر ، ولربما تعرَّض للسحر في رحلات القنص ، وأن حديثه عن الزواج بجنيَّة ليس أكثر من هذيان.
    إلا أنها اضطرت للتعايش مع الهذيان لكيلا تخسر زوجها.
    ورغم كل محاذيرها وهواجسها من فقدانه حدث ما لم يكن في الحسبان ، فقد ذهب زوجها للصيد لأجل “الإدام” فلم يعد.
    يومها قيل أن أخاه كرر ما دار بين قابيل وهابيل ليستولي على البيت والأموال والأولاد ويجبر “عويدة” على الاقتران به فكانت أكبر من أن تُقْتَسَمَ كغنيمة لجور المنتصر !!!.
    وقيل أن أصهاره الجِنّ هم الذين أكلوه ، ثم أكلوا ابنتها عزيزة ، وأنهم من سملوا عيني ناصر حفيدها وشربوا الضوء.
    ونعود لليوم الذي أرعب “نفافة” وهي ترى الأحذية الضخمة تجوس خلال الديار ومعها الأمر الجائر بالهدم.
    لقد صدرت الأوامر بإخلاء “البيت العود” ، ونقل ما يودون نقله قبل أن ينسفه الديناميت ويسويه بالأرض.
    ولكن ماذا سينقلون والتفاصيل أكبادهم.
    وماذا سيتركون وكل الذي بالبيت له صلته الحميمية بالأمس.
    لقد رفضوا الإخلاء إلا على جماجمهم.
    وجاءت الحارة كباراً وصغارا لنجدتهم ولتمنع الهدم ، ولتطلق التهديدات للأحذية الضخمة بعدم التحرك إلا على جثثهم إلى أن يعود صاحب البيت ليتفاهموا معه.
    إلَّا أن الكثرة غلبت الشجاعة فالأحذية الضخمة استدعت مزيداً من الأحذية الأضخم، ولم يكن بمقدور الحارة إلا أن تتراجع فتم نسف البيت وتناثرت فصوصه لتعْلَقَ في الحلوق وغدور العوانات وصفحة مياه فلج السواد.
    وعبر ٤٢٩ صفحة من الجزء الأول “للثلاثية” كبر أبطال حارة الوادي وتصاعدتْ المشاهد والانفعالات فحملوا بيرقهم ليرفرف عالياً في سماء الجزء الثاني فالثالث.
    أما “عويدة” الثائرة فقد هدأ روعها لدى علمها بأن ابنها الغائب لم يمتْ.
    وأنه يرسف بقيوده في السجن.
    و أنه “يضيئ زنزانات الجلالي”.
    وأن السجن للأحرار.
    وأنه سيكسر قيده يوما.
    وسيعود ليبني بيت العود.
    ويعلق على أوتدته بنادق الرجولة والعنفوان.
    لقد سقط بيت العود إلا أن البيرق لم يسقط.
    وتصرَّمتْ الأعمار ، إلا أن الوطن واصل فتوَّته وشموخه فلم يحتكم لسنن الزمن لأنه الصانع للزمن.
    وأعود لنفس السياج الذي يحيط برخمة “الڤينوم” في ذرى الأخضر الأشم وأجدِّد التِّسْآل عمَّا إذا كان المجاهد سليمان بن عيسى السيفي هو من أسقط “الڤينوم” ؟.
    أم أن المجاهد محمد بن عدي الهنائي هو من قام بذلك؟.
    أم أن الملائكة هم الذين أسقطوها ثأراً لنفافة وأخوات نفافة.
    وفي المحصلة النهائية فإنَّ أمراً قد اتُّخِذْ ونُفِّذ.
    وأن وعداً لاسترداد الضوء لعيني ناصر وإخوان ناصر قد أُنْجِز.
    وأنَّ “الڤينوم” سقطت لأجل أن يرتفع البيرق الذي لم يسقط ولن يسقط.