يتناول كتاب «سير سالم والجمل» تأليف «محمد محفوظ (أبو طارق)» قصة كفاح شاب ظفاري من سلطنة عمان فاقد المقلتين حاد البصيرة يبحث عن علاج ليرى أصابع يديه والدنيا وما فيها، وصرخ مدوياً «لا أتحمل الظلم والظلام» وصرخته الثانية في حوف: «سوف أوحد العرب لأنهم أبناء عمومتي ويحركه الإصرار على النجاح».
ويأتي عنوان الكتاب الصادر حديثًا عن «الآن ناشرون وموزعون» في الأردن في 70 صفحة من القطع المتوسط، ويضم أربعة فصول، ومقدمة مهداة من صديق الكاتب «سعادة الأستاذ الشيخ عبد الرحمن بن علي الجروان الشامسي المحترم» يوضّح فيها أن الكتاب مستوحى من قصة حقيقية.
ومن الجدير بالذكر أن محمد محفوظ (أبو طارق) ولد في عام 1948 ميلاديّاً تقريباً في قرية غديه بالجبل الواقع شرق دربات في محافظة ظفار. رئيس رابطة طلبة عمان في العراق لسنوات عدة وتخرَّج في جامعة بغداد للعام الدراسي (1973-1974)، حصل على شهادة البكالوريوس في علوم الاقتصاد. يمثل «سير سالم والجمل» الجزء الأول من رحلة سالم براً، فيما سيكون الجزء الثاني (سالم والنوخذة) يعبّر عن رحلته بحراً. عمِل مساعداً تجاريّاً في بنك جريندليز (1975-1976) في عمان، ومدير دائرة الشؤون المالية في وزارة الزراعة والأسماك والنفط والمعادن حينها، ومدير دائرة الزراعة في المنطقة الداخلية لأعوامٍ ستة في نزوى، وبعدها مدير دائرة الزراعة في شمال الباطنة في صحار، ثم مدير مصنع إنضاج الموز بصلالة، ونائب المدير العام للمديرية العامة للزراعة والأسماك في محافظة ظفار، ومستشاراً في المديرية العامة للزراعة والثروة الحيوانية والسمكية في محافظة ظفار. تقاعد عام 2009 بعد خدمة 34 عاماً في وزارة الزراعة والثروة السمكية.
يقول محمد محفوظ (أبو طارق) في الفصل الأول الذي يصف فيه الوضع الاجتماعي والاقتصادي والسياسي للمنطقة الجغرافية التي يتمحور فيها السَّير: «يتميَّز المجتمع الرعوي بكل صفاته البدائية في جميع مفاصل الحياة في سكان جبال ظفار والقائم على تربية الإبل والأبقار والماعز، وتعتمد حياة هؤلاء المربِّين على مُنتجات هذه الحيوانات لوفرة الغطاء النباتي للرَّعي، وتتجدَّد المراعي عند هبوب الرياح الموسمية المحمَّلة بالضَّباب الكثيف الذي يلامس الأرض والسُّحب الحاملة للأمطار، ويستمر الفصل المُمطر لثلاثة أشهر من 21 يونيو وينتهي في 21 سبتمبر ميلاديّاً من كل عام، وخلال هذا الفصل أو أي أمطار خارج موسم الخريف تخضرُّ وتنمو المراعي وأشجار الغابات في الوديان، وتعدُّ المنازل المخروطية التي شيَّدها سكان الريف والكهوف المساكن الرئيسة للسكان. يقطن الأهالي في هذه المنازل المخروطية القائمة على أفرع أشجار يتم تغطيتها بأعشاب طويلة من كل الجوانب حمايةً لهم من الرياح والأمطار، وفي الوقت نفسه يشيد مربُّو الأبقار حظائر للأبقار وصغارها بالمواد نفسها، ولكن مع اختلاف شكل الحظائر عن مساكن السكان من حيث الحجم والشكل والارتفاع لتمييزها ومنح مساحات للتهوية».
ويصف أبو طارق في الفصل نفسه الفنون التي اشتهرت في ذلك المجتمع، ومنها «فن النانا»، إذ يقول عنه: «ويتفرَّد فن النانا بالتعبير عن المحبة والمديح والشجاعة، وتحديداً عن الأحزان، والهجاء، ويتميَّز بغزارة المعنى وتوضيح الهدف، ويشتهر هذا الغناء بتطوير ألحانه، وبخاصة الألحان التي تأتي من الشرق، فهي أكثر عذوبةً وطرباً للسامعين، وتنتشر بسرعة فائقة، ولا يوجد هذا الفن في اللغة العربية واللغات الأخرى أيضاً (ويحتاج هذا الفن إلى المزيد من البحث العلمي وتطويره والحفاظ عليه كموروث شعبي تاريخي لسلطنة عمان، وإن إهماله سيدمِّر مجالاً من مجالات الإبداع المتوارث في محافظة ظفار)».
وأما بطل السير فهو كما يصفه المؤلف «أبو طارق» في بداية الفصل الثاني: «سالم شاب وُلِد ضريراً فاقد المقلتين، إلا أنه يشعر بالمعاناة، ولديه إحساس بكل ما يجري من حوله من معاناة شخصية ترغمه على البحث عن مخرج للهروب من خلف الأسوار الحديدية العالية المدجَّجة بالحراس، ونقاط التفتيش، ومعاناة مجتمعية من حوله تدفعه أكثر للبحث عن طريقة ووسيلة تساعده مع أصدقائه للخروج من المدينة. وأخيراً في ليلة مظلمة من عام 1965م تمكَّن سالم من اجتياز شباك الحديد الشَّائك حول مدينة صلالة والمعزَّزة بحماية عساكر الحاكم متوجِّهاً إلى اليمن، وتحديداً إلى أراضي المهرة، والمتلاصقة حدوديّاً مع ظفار».
وفي إشادة من المؤلف بالشعب الفلسطيني ويذكر «أبو طارق» في الفصل ذاته أن سيارة للحاكم وصلت إلى ميناء ريسوت (ميناء صلالة حالياً) وأمر الحاكم مواطنين بحملها على الأكتاف من الميناء إلى قصره والمسافة بعيدة وتغنى الشاعر الكبير (جمعان ديوان) بهذه البيتين وتغنى بها حاملي سيارة الحاكم ومن معهم لرفع الهمم:
(حبابي جاب موتر صنعته من فلسطين
شليته على راسي جرا ما يمس الطين)
(حبابي): سيدي ومولاي.
تغنَّى الشاعر بهذه القصيدة تيمُّناً منه بقوة وقدرة الشعب الفلسطيني في صنع كل شيء، وأنه شعب الأعاجيب، ولا يمكن أن يُغلَب.
وفي الفصل الثالث يفاجئنا الكاتب «أبو طارق» بأن الجمل يحاور البطل «سالم» فيحكي لنا بسلاسة: «انفضَّت السهرة بعد أن استمرَّ الغناء إلى منتصف الليل. طلب سالم من دليله أن يوصله إلى الجمل المربوط بقربهم وتحدَّث إلى الجمل متسائلاً: «كيفَ حالكَ يا صاحبي؟».
ردَّ الجمل عليه بإيماءات من رأسه ورقبته: «من أين لكَ هذا الصوتُ الشجي الجميل؟ لقد طُربت من غنائك وصوتك الجميل، وتمكُّنك من الغناء البديع». واستمر الجمل مداعباً سالماً: «لو أني أعرف يا صاحبي أن لك صوتاً مبدعاً، لطلبت منك أن تغني بعد أن أنهينا تسلُّق عقبة (صيق) الشديدة الوعورة». ضحكَ سالم: «أيُّها الجمل إني مخبئ هذه الموهبة لأصحابها فإن عقبة صيق لا تستحق الغناء وإنما الرَّجم بالحجارة».
ويصل الحكي إلى روعته حين يوازي الكاتب بين مشاعر الوجع والاشتياق، ولا فرق في ذلك بين الإنسان والحيوان، إذ يقول «أبو طارق»: «سالم.. يا رفيقي لقد عقدتَ صداقةً مع هذا الجمل، وتمكَّنتَ من فهم ما يجول في خاطره من أفكار». الدليل يسأل: «وكيف ذلك يا سالم؟». قال سالم: «إن المعاناة توحِّد المشاعر والخواطر غالباً».
وفي تصاعد درامي فلسفي يصف الكاتب رمال صحراء العرب وكيف سخِّرت للانتقام من الطغاة والظالمين، فيقول «أبو طارق»: «يا سالم سأخبرك بسر ولا تقل إني مجنون، أخبرتني أمي عن صاحباتها أنهن سمعن أن صحاري العرب صار بينها عهدٌ وميثاق شرف، للتحوُّل إلى رمال متحركة تغلي مصحوبة بهيجان كالطوفان باتجاه المدن وترتج الأرض من هذا الهيجان العارم وتبتلع كل من دخل في عماره مال مغتصب للانتقام لكرامتها وشرفها، فأي بناء أدخل فيه مالٌ من غير وجه حق سوف تبلعه الرمال المتحركة. استخرجت الثروات من بطونها، واستولى عليها الغرباء مقابل عروش تحرسها كبار العفاريت، وأُهملَ الأبناء، ويدعي الغرباء أن من يقترب من هذه الكراسي يحترق فوراً إلا صاحبها. ظل انبعاث السموم من مدافن الغرباء مستمرّاً وشوهت أجنة ومواليد أبناء هذه الصحاري وجعلتهم لا يفقهون ما يريدون عند الكبر بعد أن كانت مورداً أساسيّاً لإنتاج فرسانٍ أشداء يخترقون صفوف جنود الأغراب كالبرق، وتمنى إمبراطور الصين العظيم أن تكون لديه فرقة من هؤلاء الفرسان لما سمع عنهم بدلاً من قوة ومنعة سور الصين. قرَّرت الصحاري الانتقام فبدأت تزحف إلى المدن لتبتلع ناطحات السحاب والأبراج والقصور والمتاحف ودور العبادة».