الأستاذ الدكتور عماد الضمور
يكشف الشاعر محمود فضيل التل في ديوانه الشعري «لقاء الليل» الصادر حديثاً عن «الآن ناشرون وموزعون « عن روح رومانسية جامحة، تتغلغل في ثنايا قصائده؛ لتبعث روحاً حيّة، ورؤى متّقدة، تنهل من معين الحلم والذاكرة معاً، حيث ينبني معجمه الشعري بمفردات التيه والضياع تارة، وبمفردات الأمل والحبّ تارة أخرى.
يُحيل عنوان الديوان» لقاء الليل» إلى بناء استعاري أضاف فيه الشاعر (الليل) إلى كلمة (لقاء) مكرساً شعوره بالوحدة والاغتراب، ومتّخذاً من الليل أنيساً له، وملجأ يحميه من قسوة الواقع، وآلامه المستمرة، حيث جاء الليل بوصفه زمناً مفصليّاً للشاعر يقاوم من خلاله بطش الآخر وصولاً إلى (الأنا) في انتشائها الواضح بما يبعثه الليل من ظلام ظاهرلنا، لكنه بالنسبة للشاعر يعكس حياة مفقودة، وبصيرة متّقدة، وأملاً ضائعاً ما زال يبحث عنه، كما في قصيدة (أحبك أنتِ مَنْ أهوى) حيث يصف الليل قائلاً:
جميلاً كان ذاك الليل
لكن كان يتعبني
فكيف أنامُ في ليلٍ
وقد أضحى يُعذّبني أسائل فيه هدأته
فأذكرها
ولا أنسى ملامحها (الديوان ص 78)
عنوان الديوان دليل المتلقي إلى سبر عالم القصيدة، حيث الوشائج الوثيقة التي تربطه بالنص، إذ ينهض العنوان من ثنايا تجربة الشاعر منتجاً فيضاً تعبيريّاً من لغة الذات وتشظياتها العاطفيّة، وتأملاتها العميقة في الكون والوجود، حيث يؤسس العنوان لخطاب شعري هارب من مألوفية الأشياء وقيودها الصادمة لرغبات الذات، ممّا يؤسس لثقافة نصيّة تتكشف من خلال بلاغة الجمل، ودلالة الألفاظ المنتشيّة بجمالية الليل، ولحنه العذب، كما في قصيدته الوجدانية (لقاء الليل) التي تحمل عنوان الديوان، حيث تتوالى الأسئلة، وتتعاظم المعاناة:
يا لقلبي كم تهاوى بانتظاركْ؟
كم تعذّب عندما أخلفْتَ وعدكْ؟
صرتُ أخشاك كثيراً
ونسيتَ الوعد حتى لم أعدْ
أرجوك وعداً أو لقاء غيرهُ (الديوان ص 65)
إنّ لقاء الليل يعكس ثيمة الصراع الذي سرعان ما ينتشر في قصائد الديوان، حيث يمتد اللقاء ليكوّن لغة الشاعر وصوره، فيتحول هذا الليل إلى وطن الشاعر، ويمتد الزمن ليحتوي الوجود، حيث تستدعي كلمة (لقاء) الكلام الذي سيُقال فيه، والحوار الفاعل الذي يجري بين عاشقين، الذي يعكس محوراً مركزيّاً لحركة الشخوص، وشوقاً جامحاً للمحبوب. وانطلاقاً من هذه العلاقة الوثيقة بين مفردتي اللقاء والليل يتخذ العنوان موقعاً متقدماً من النص الشعري يستجيب لرغبات الشاعر، ويسمح للقصيدة بالولادة، لتنحدر من موروث شعري خصب ومن عالم الليل الممتد، كما في قصيدة (الليل شيءٌ جميلٌ) حيث يقول:
الليلُ شيءٌ جميلٌ
والسحرُ في وجنتيكِ
إذا النجوم تلاشتْ
فالنور من ناظريكِ
ما أطول الليل في ما
سهرتُ وحيداً
فالنارتحرق روحي
إذا حننتُ إليكِ (الديوان ص 25)
فالليل لا يكفّ عن توليد النص مكوناً جسد القصيدة، ورؤى الشاعر، حيث يقوم العنوان بوظيفته الإشارية التي تكسبه القدرة على التواصل مع أجزاء النص متحرراً من قلق العتمة ومألوفية القراءة، حيث يستحيل فعلاً سردياً قابلاً للانتشار،يستشرف من خلاله أحلامه، ويسترجع ذكرياته، فهو ليل له معالمه الخاصة، وهو إطار جميل يبث من خلاله همومه وشكواه، كما في قوله:
أنت تنسى أننا كنّا بليلٍ نلتقي
لم نكن نهوى لقاء الصبح في أنواره
كيما أرى أنوار وجهك كلّ أوقات المساءْ (الديوان، ص 65)
وقد يأتي الليل في شعر التل مرتبطاً بحالة حبّ، وتعلّق بعالم المحبوبة،إذ يشكّل بدلالته الخصبة جزءاً من البنية اللغوية، والرؤيا الفكرية التي يحملها النص، مما جعله واضح الدلالة، دائم التوهّج، يتشكّل وفقاً لتجربة الشاعر، ورغباته النفسية، كما في قصيدة(سيدة الكلام، حيث يقول مخاطباً محبوبته:
رأيتكِ فاذّكرْتُ نجوم ليلٍ
وأقماراً تُبَدِّدُ بالظلامِ
تسامى في سمائكِ كلّ نجمٍ
وأزْهرَت الغصونُ على الدوامِ
فقَبْلَ اليوم ما أطْلقْتُ سمعي
لغيركِ أنت سيدة الكلامِ (الديوان، ص 135)
وتظهر متعلقات الليل في إطار تجربة الشاعر الحزينة التي أورثته تشاؤماً، وحزناً مقيماً، حيث يبدو الظلام أكثر تحفيزاً لعملية التلقي، وبعثاُ لقلق الشاعر، بعدما وجد حياته مليئة بالمتناقضات، حيث الخذلان المؤلم، وتوالي الانكسارات، كما في قصيدته (نشيد الرحيل الأوّل) حيث يقول بأسى:
كأنني ما منتُ أحيا في ظلام الوعي
أو حلم الخيالْ
كأنني ما كنت فيكم بين أطلال الفريقِ
ولا أقمتُ فيكم لحظةً
ولا ذرفَتُ دمعةً
على ذرى أيامكمْ(الديوان، ص 171)
وقد يأتي الليل في شعر التل بدلالته المألوفة فضاءً لإبراز انتماء الشاعر لوطنه، وعنوان قوة وعنفوان، يتجاوز البعدين الزماني والمكاني؛ ليتخذ حالة انبعاث خاصة، تجعله أكثر إقبالاً على الفداء، حيث يقول بنغمة انفعاليّة معبراً عن حبّه لوطنه الأردن:
سآتي في رياح الليلِ إعصاراً
وآتي في نسيم الفجرِ أحلاماً
فأنتَ العالمُ المزروعُ في ذاتي
وأنت أنا
وأنت بشارةُ الخبر(الديوان، ص 201)
لعلّ مقاربة سيميائية لعناوين قصائد الديوان تكشف عن عمق الدلالة التي تحملها هذه العناوين بل هي ذات صلة وثيقة بموضوع النص، وإيحاءاته الفنية، وذلك بما يكشفه العنوان من دينامية محفزة، تنفتح على آفاق شعريّة وفكريّة، تُساهم في إنتاج دلالة خصبة، وتضيء عملية التلقي.
وهذا يعني أن العنوان يمتلك وظائف مختلفة، تجعله أكثر فاعلية في إنتاج الدلالة، وبخاصة إبراز شعرية اللغة، كما في عناوين القصائد: طيف سراب، وعلامة انتظار، وأحضان السماء، مُلَّ المُقام، وأبواب النوافذ، و سرب غريب.
إذ تكشف الدراسة المتأملة لعناوين القصائد أنها تقع في إتجاهين: الأول، مباشر، يعكس حالة النزف الوجداني ولوعة الحبّ وقسوة الفراق، إذ يحمل العنوان مضمون النص، ويصبح جزءاً منه ويحتفظ بدلالته داخل بنيته، وينفتح مباشرة أمام المتلقي، كما في قصائد: هذا الوداع، والليل شيء جميل، وسأبقى أحبك، ولقاء الليل، ويا ريم، وصدر الحبّ، ونفس الشهيد، وشوقاً لعينييك، وشجيرة صغيرة، وسآتي إليكِ.
أمّا الاتجاه الثاني للعنوان فهو إيحائي معبّر يشكّل ببنيته الفكرية نصاً مستقلاً، يكشف عن ظروف نفسيّة متعددة الدلالة، يتخذ فيها العنوان بؤراً إشعاعية تخصّب عملية التلقي بأفكار جديدة وتحفّز المتلقي لاكتناه أسرار النص، حيث تتحول المفردات إلى فضاءات خصبة كما في عناوين القصائد: أبواب النوافذ، وابتسامات الحقول، عطر الثرى، أوهام الطريق.
وقد يكشف بعضها فعل الانتهاء، والموت الشفيف بعدما أدرك الشاعر إقتراب الموت منه أكثر ممّا مضى، كما في عناوين القصائد: خريف العمر، نشيد الرحيل الأول، سيطوي ظلالي الرحيل.إذ تختزن هذه العناوين الحزن، وتحتضن الأسى، ملتقية بمضمون النص، الذي يصعذد وهج الموت في نفس المتلقي، ممّا يجعلها أكثر غنى وتعميقاً للمعاناة.
وقد ينفتح العنوان على تساؤلات عميقة تعكس حالة الحيرة والبحث عن الحقيقة، حيث نلمح فيها ملمح التأمل والجهد الفكري والشعوري، الذي يُبرز حجم المعاناة التي يحياها الشاعر، أو الحبّ الذي يرجو تحققه، كما في قصائد: أهذا ربيع؟ و متى اللقاء؟ وماذا يحتاج العاشق؟
يبقى ديوان (لقاء الليل) للشاعر محمود فضيل التل نتاج تجربة شعريّة ناضجة امتدت على ما يقارب أربعين عاماً تركت أثرها الواضح في القصيدة الأردنية المعاصرة، وواكبت كثيراً من الأحداث الوطنية والقومية معبّرة بصدق وعفوية عن وجدان الشاعر العاشق لوطنه، والمدافع عن قضايا أمته، والمنتمي لرسالة الشعر الخالدة.