رشيد عبد الرحمن النجاب
(كاتب أردني)
يدخل الكاتب سميح مسعود إلى قصر الحمراء في غرناطة عبر المقرنصات التي زخرفت غلاف كتابه الخير “صنهاجي في غرناطة”، حيث زين الصناهجة هذا الصرح المعماري بنوع من الزخارف المعمارية التي عُرفت في بلاد فارس في القرن الهجري الخامس، وما لبثت أن وصلت إلى شمال إفريقيا ثم الأندلس، وتحديداً قصر الحمراء الذي ما زال يوثق لتلك القبيلة العربية الآتية من اليمن مجدها الخالد عبر التاريخ.
ثمة مسيرة طويلة، ورحلات متكررة متعاقبة إلى وادي حضرموت، مكنت سميح مسعود من تتبع المعلومات من مصادرها نقية خالية من الأساطير مدعومة بنقوش من خط “المسند”، ذلك الأثر الذي طالما كان مصدرا للعديد من الأبحاث المتعلقة بالحضارات التي نشأت في تلك البقعة من الأرض، وقد جعلها الكاتب في قالب روائي يسهل على القارئ متابعتها بقدر كاف من التشويق. وهي تبعا للنهج المتبع في جمع المعلومات تشبه أدب الرحلات.
في الكويت تتشكل الفكرة؛ حيث يلتقي المؤلف بعدد من الشباب من اليمن، وتتوطد عرى الصداقة معهم، ويشغل البحثُ في تاريخ اليمن محورَ اهتماماتهم في لقاءاتهم خارج أوقات العمل، ويؤجج محاضر جزائري حماسة البحث لدى المؤلف الذي اتخذ لنفسه دور الراوي، لا سيما بعد أن أشار هذا المحاضر إلى الأصول العربية لمن أطلق عليهم جزافا “الأمازيغ” إمعانا في سياسة التفرقة الاستعمارية التي انتهجها المحتل الفرنسي للمغرب العربي. ثم تتشكل ظروف مهدت لزيارة المؤلف إلى اليمن، كانت الأولى لكنها لم تكن الأخيرة، فقد أتاحت متطلبات العمل للمؤلف العديدُ من الزيارات إلى اليمن، والتي أفاد منها في مراكمة المعلومات وتهيئتها إلى يوم تجود فيه غيوم المعرفة، عبر قلم سيال من خلال رواية تنظم المشهد البديع الذي شاءت الصدف أن يرفع عنه الستار في غرناطة بل وفي قصر الحمراء، فكيف كان ذلك؟
كانت اليمن وجهة الزيارة الأولى، ووادي حضرموت ميدانها ومسرحها، هنا نشأت ذات يوم حضارة مملكة “حِمْيَر”، من هنا انطلق الملك العربي “سيف بن ذي يزن” ليحرر بلاده من الأحباش، هنا عرش بلقيس، وسد مأرب الذي روى معالم حضارة نشأت والدنيا من حولها مقفرة، ثم هوى السد واستحالت السهول قفارا، وتفرقت العرب، وكان الصناهجة من قبائل “حِمْيَرْ” من هؤلاء الذين كان الرحيل مصيرهم، وشمال إفريقيا مستقرهم، وليس غريبا إذ ذاك أن تشهد الأندلس مجد حضارتهم. لكنْ دون هذا الإيجاز شديد التركيز والاختصار، عصور من الترحال والمعاناة، إلى أن استقر بالصناهجة المقام في المغرب العربي، ودون هذه المعلومات جهد مضنٍ من البحث والمتابعة بذله المؤلف بحثا عن إجابة لسؤال عن علاقة قبيلة الصناهجة الحميرية بمن يطلق عليهم جزافا “الأمازيغ”. في هذا السياق التقى المؤلف بعديد من النسابين والعارفين بحقائق الأمور في اليمن، وزار عديدا من بقايا معالم الحياة في تلك البقاع، مشاهدا نقوشا مكتوبة بخط المسند وثيق الصلة باللغة العربية، ثم محققا هذه المعلومات من نبع المعرفة في مكتبة الأحقاف حيث المخطوطات الأصيلة التي نهل منها ما ساعده على مراكمة الأدلة في سياق الإجابة على سؤاله.
وفي رحلة إلى الأندلس في سياق لقاء أدبي قدم فيه المؤلف بعض أعماله الأدبية، ظهر ضمن الحضور أحد المستعربين الإسبان، ولم تكن اللغة العربية المميزة وصحيحة النطق لأنطونيو كاسترو جل ماشد انتباه المؤلف، بل لمح معالم شخص ينتسب إلى “حِمْيَرْ”، إلى الصناهجة! وكم كان في ذلك من فرصة سانحة لرصد ما تبقى من علاقات ومعلومات تضع المدماك الأخير في بناء فرضيته، تبع ذلك لقاءات عديدة مع أنطونيو ووالدته السيدة مارغريتا كاسترو التي أسعدها ما سعى إليه المؤلف، وأدلت بوافر من المعلومات التي وصلت إليها عبر الأجيال المتعاقبة.
حفلت الرواية بالعديد من التفاصيل والمعلومات التي شملت وصفا للطبيعة، وللأنماط المعمارية السائدة في اليمن، وللمباني متعددة الطوابق التي أطلق عليها المؤلف “ناطحات السحاب”، إلى جانب الوصف الدقيق للرسوم والألوان التي تزين المباني والتي تعزز من دهشة الزائر والقارئ على حد سواء. وقد عزز المؤلف هذا الجانب الاجتماعي العمراني بالتطرق إلى العلاقات الاجتماعية، والعادات، وصنوف الطعام وأسمائها، وأنواع الخبز وأسمائه، وعلاقة ذلك بأسماء شبيهة في شمال إفريقيا. ثم قهوة الكبوس و”الموكا”، وهي ميناء يمني لتصدير البن رغم ما يوحي به من كونه اسما أجنبيا. ثم تفاصيل الثروة السمكية الهائلة التي تنعم بها اليمن والحياة البحرية كجانب وثيق الصلة بالحياة الاجتماعية.
ولا يفوت المؤلف أن يتطرق إلى الجوانب الثقافية وما يرتبط بها من غناء وموسيقى وشعر، وهو يعمد في سياق بحثه عن إجابة لسؤاله إلى مقارنة المظاهر الاجتماعية والثقافية السابقة بمثيلتها في بلاد المهجر في شمال إفريقيا والأندلس. ولا يكتفي الكاتب بالحديث عن شمال إفريقيا كهدف للهجرات التي انطلقت من اليمن، بل يشير إلى بلاد الشام كمستقر للعديد من القبائل في كلّ من الأردن وفلسطين، ويذكر أسماء لعائلات في الكرك والسلط وإربد، ودلالات تؤكد انتسابها إلى “حِمْيَرْ”، كما يشير إلى آل سيف في فلسطين كأحفاد للحميريين الذين انتسبوا إلى سيف بن ذي يزن.
تتميز هذ الرواية بغزارة المعلومات وتكثيفها، وتحمل دلالات حرص عروبي يصر على بيان الحقائق ووضعها في نصابها، وتثبيتها، وتتمتع نتيجة لذلك بقيمة معرفية مهمة.