“الإتحاد”
يدخل الكاتب والشاعر سميح مسعود إلى قصر الحمراء في غرناطة عبر المقرنصات التي زخرفت الغلاف حيث زين الصناهجة هذا الصرح المعماري “قصر الحمراء” بنوع من الزخارف المعمارية (المقرنصات) التي بدأت من بلاد فارس في الشرق، في القرن الهجري الخامس، وما لبثت أن وصلت إلى شمال إفريقيا ثم الأندلس حيث شكلت الفنون التي استخدمت هذا المعمار أوج تطور هذا الفن في القرن الهجري الثامن وكان أبرزها ما دخل في بناء قصر الحمراء هذا الصرح المعماري الشامخ والخالد الذي لا زال يوثق لتلك القبيلة العربية الآتية من اليمن مجدها الخالد عبر التاريخ.
مهلا …عن أي غلاف أتحدث؟! إنه غلاف الرواية الصادرة عن دار الآن ناشرون وموزعون عام 2022 والموسومة “صنهاجي في غرناطة” وهي جديد نتاج الكاتب غزير العطاء سميح مسعود، بالرغم من قربه من انتصاف العقد التاسع من عمره المديد.
ثمة مسيرة طويلة، ورحلات متكررة متعاقبة إلى وادي حضرموت، مكنته وهو الذي يتحلى بنفس البحث العلمي من تتبع المعلومات من مصادرها نقية خالية من الأساطير مدعومة بنقوش من خط “المسند”، ذلك الأثر الذي طالما كان مصدرا للعديد من الأبحاث المتعلقة بالحضارات التي نشأت في تلك البقعة من الأرض، وقد جعلها في قالب روائي يسهل على القارئ متابعتها بقدر كاف من التشويق. وهي تبعا للنهج المتبع في جمع المعلومات تشبه أدب الرحلات.
في الكويت تتشكل الفكرة حيث يلتقي المؤلف بعدد من الشباب من اليمن، وتتوطد عرى الصداقة معهم، ويشغل البحث في تاريخ اليمن محور اهتماماتهم في لقاءاتهم خارج أوقات العمل، ويؤجج محاضر جزائري حماس البحث لدى المؤلف الذي اتخذ لنفسه دور الراوي، سيما بعد أن أشار هذا المحاضر إلى الأصول العربية لمن أطلق عليهم جزافا “الأمازيغ” إمعانا في سياسة التفرقة الاستعمارية التي انتهجها المحتل الفرنسي للمغرب العربي. ثم تتشكل ظروف مهدت لزيارة المؤلف إلى اليمن، كانت الأولى ولكنها لم تكن الأخيرة فقد أتاحت متطلبات العمل للمؤلف العديد من الزيارات إلى اليمن، والتي أفاد منها في مراكمة المعلومات وتهيئتها إلى يوم تجود فيه غيوم المعرفة، عبر قلم سيال من خلال رواية تنظم المشهد البديع الذي شاءت الصدف أن يرفع عنه الستار في غرناطة بل وفي قصر الحمراء. فكيف كان ذلك؟
كانت اليمن وجهة الزيارة الأولى، ووادي حضرموت ميدانها ومسرحها، هنا نشأت ذات يوم حضارة مملكة “حِمْيَرْ” (بكسرالحاء وفتح الياء وتسكين الميم والراء)، من هنا انطلق الملك العربي “سيف بن ذي يزن” ليحرر بلاده من الأحباش، هنا عرش بلقيس، وسد مأرب الذي روى معالم حضارة نشأت والدنيا من حولها مقفرة، ثم هوى السد واستحالت السهول قفارا، وتفرقت العرب، وكان الصناهجة من قبائل “حِمْيَرْ” من هؤلاء الذين كان الرحيل مصيرهم، وشمال إفريقيا مستقرهم، وليس غريبا إذ ذاك أن تشهد الأندلس مجد حضارتهم.
ولكن دون هذا الإيجاز الشديد التركيز والاختصار، عصورا من الترحال والمعاناة، إلى أن استقر بهم المقام في المغرب العربي، ودون هذه المعلومات جهد مضن من البحث والمتابعة بذله المؤلف بحثا عن إجابة لسؤال عن علاقة قبيلة الصناهجة الحميَرية بمن يطلق عليهم جزافا تسمية “الأمازيغ”، في هذا السياق التقى المؤلف بعديد من النسابين والعارفين بحقائق الأمور في اليمن، وزار عديدا من بقايا معالم الحياة في تلك البقاع، مُشاهدًا نقوشا مكتوبة بخط المسند الوثيق الصلة باللغة العربية، ثم محققا هذه المعلومات من نبع المعرفة في مكتبة الأحقاف حيث المخطوطات الأصيلة التي نهل منها ما ساعده على مراكمة الأدلة في سياق الإجابة على سؤاله. وفي رحلة إلى الأندلس في سياق لقاء أدبي قدم فيه المؤلف بعض أعماله الشعرية، ظهر ضمن الحضور أحد المستعربين الإسبان، لم تكن اللغة العربية المميزة والصحيحة النطق لأنطونيو كاسترو جل ما شد انتباه المؤلف، بل لمح معالم شخص ينتسب إلى “حِمْيَرْ”، إلى الصناهجة وكم كان في ذلك من فرصة سانحة لرصد ما تبقى من علاقات ومعلومات تضع المدماك الأخير في بناء فرضيته، تبع ذلك لقاءات عديدة مع أنطونيو ووالدته السيدة مارغريتا كاسترو التي أسعدها ما سعى إليه المؤلف، وأدلت بوافر من المعلومات التي وصلت إليها عبر الأجيال المتعاقبة. فماذا كان في جعبة هذه السيدة؟ ثمة العديد من التفاصيل في هذا السياق أترك للقارئ متعة الدهشة في اكتشافها.
حفلت الرواية إلى جانب المحور الرئيس بالعديد من التفاصيل، وكم هائل من المعلومات التي شملت وصفا للطبيعة أحيانا، إضافة إلى وصف للأنماط المعمارية السائدة في اليمن، والمباني المتعددة الطوابق التي أطلق عليها المؤلف مسمى ناطحات السحاب، ثم ذلك الوصف الدقيق للرسوم والألوان التي تزين المباني والتي تعزز من دهشة الزائر والقارئ على حد سواء.
وقد عزز المؤلف هذا الجانب الاجتماعي العمراني بالتطرق إلى العلاقات الاجتماعية، والعادات، وصنوف الطعام ومسمياته، وأنواع الخبز ومسمياته، وعلاقة ذلك بمسميات شبيهة في شمال إفريقيا. ثم قهوة الكبوس و”الموكا” وهي ميناء يمني لتصدير البن رغم ما يوحي به من كونه اسما أجنبيا. ثم تفاصيل الثروة السمكية الهائلة التي تنعم بها اليمن والحياة البحرية كجانب وثيق الصلة بالحياة الاجتماعية.
ولا يفوته أن يتطرق إلى الجوانب الثقافية وما يرتبط بها من غناء وموسيقى وشعر، ويعمد المؤلف في سياق بحثه عن إجابة لسؤاله إلى مقارنة المظاهر الاجتماعية والثقافية السابقة بمثيلتها في بلاد المهجر في شمال إفريقيا والأندلس. ولا يكتفي الكاتب بالحديث عن شمال إفريقيا كهدف للهجرات التي انطلقت من اليمن، بل يشير إلى بلاد الشام كمستقر للعديد من القبائل في كل من الأردن وفلسطين، ويذكر مسميات لعائلات في الكرك، والسلط، وإربد، ويذكر دلالات تؤكد على انتسابها إلى “حِمْيَرْ”، كما يشير إلى آل سيف في فلسطين كأحفاد للحميريين الذين انتسبوا إلى سيف بن ذي يزن.
تتميز هذ الرواية بغزارة المعلومات وتكثيفها، وتحمل دلالات حرص عروبي يصر على بيان الحقائق ووضعها في نصابها، وتثبيتها، وتتمتع نتيجة لذلك بقيمة معرفية هامة.