طاقة التأويل في رواية جسر بضفة وحيدة

طاقة التأويل في رواية جسر بضفة وحيدة


class="inline-block portfolio-desc">portfolio

text

    مصعب محمد رشيد البدور

    ويحدث أحيانا أن تشهد رحلة باتجاه واحد ذهاب بلا عودة، ويحدث أن تجد في هذه الرحلة مفارقات بين الواقع المقيد وانطلاقة الروح مع أحلامها، وبين المادية والروحانية، عندما تُقْلِع رحلتك من محطتها الأولى (الطفولة) إلى اللامستقر في شيء يشبه محطتها القادمة، لأنها رحلة تصاعدية تبدأ بمحطة الذاكرة ولا تمر بعدها بأي محطة، فأنت لا شكّ في رحاب عملّ أدبي من طراز مختلف.

    هذا ما جسدته هيا صالح في روايتها جسر بضفة وحيدة، لم يكن عجائبيا ولم يكن في اللامعقول  أن تخط هيا صالح هذا الفكر الذي يكرس الفقد كهزيمة للإنسان، ثم يجعل من الذكرى هزيمة أخرى، ومن البقاء على قيد الحياة فشلا ذريعا في الوصول إلى الهدف، فعندما تلحّ إحدى الشخصيات في العمل على الانتحار ولا يستجيب لها الموت فلا شكّ أنها ذاقت الفشل وحرمت لذة الاختيار  وإن كان الاختيار هو الموت، وعندما تنزل الحياة منزلة المعادل الموضوعي للموت، فاعلم أنك في برزخ فقدان شغف الحياة فكيف لأنثى وهي رمز الحياة أن يسكنها الموت، وأن تسلب سوية الحياة من غيرها.

    عودة إلى العنوان (جسر بضفة وحيدة) يعد العنوان عند النقّاد من عتبات النّص، لكنّا أمام عنوان شكّل بؤرة في بنية النّص

    وبهذا يبدأ النّص خروجه من الاشتراك مع النصوص  إلى الانفراد،  ويبرز هذا الجانب عند النظر في أثر اختيارات الكاتبة للعنوان، الذي ترتسم ملامحه منذ البداية*[1]، فكيف لك أن تسمع جزءا من العنوان(وحيدة) وتلتفت إلى العدد، إنك لن تستطيع تخطي هذه الحالة الإفرادية، الحالة التي تتخطى نظام العد في اللغة إلى النظام الإنساني، فالوحيدة لها حس وشعور وحواجز نفسية أو واقعية، _ولرب وحدة والناس مكتظون من حولك_ ولن يعوقك عائق عن استقراء الوحدة في النص، أو لن تنفك البطلة وحيدة وهي في أسرتها، لأن رحلة وحدتها بدأت قبل أن تنطلق حياتها.

    وتنعكس اختيارات الكاتبة في غير منزلة من منازل الانسجام النصيّ، مما يخلق نسقا خاصا في النص، ومنها:

    اتجاهية القضية، ولقضيّة الرواية مسارات اتجّاهية تتقاطع بعضها ويتوازى بعضها الآخر: الاتجاه الأول (موت الأشخاص وبقاء الأشياء)، فالأشياء أبقى من الإنسان بحسب فلسفة هيا صالح، الاتجاه الثاني فلسفة الخلود  العلائقية الدلالية التي قدمتها هيا صالح تنتمي إلى فلسفة الخلود والفناء متركزّة في  فكرة (الذكرى) فالذكريات من الأشياء الباقية بعد رحيل الإنسان، بصرف النظر عن كونها موجعة لأنها تضعنا أمام حقيقة مرة وهي استحالة ارجاع أصحابها، كأنك تغادر معها عبر ذلك الجسر من ضفة موجودة إلى اللامكان، تجلي هذه الحالةَ (بطلةُ العمل) في مستويين أحدهما (الوعي المهني ) فهي ترى بريق الصورة فتعرف زيفه متمكنة من واقعها في منزلة الوعي لكل ما توصِله الصورة من واقع يحمل الزيف أو يخفي جزءا غير مدرك من محتواها، وهي المصوّرة التي التقطت صورا للماضي فرافقها.

    أما الآخر فالاختباء وراء حاجز الماضي، تجدها عالقة في حاضرها بحثا عن ماضيها كأنها تخلّت عن وعيها، دون أن تلتفت إلى وجودها أفي الغياب هو، أم في الحضرة؟ وكأن للحضور عند هيا صالح فكرا عميقا يخرق قواعد المألوف كحضور تجسّد في منحوتة خشبية قديمة.

    الاتجاه الثّالث تجدد الحكاية، فهي قاطرة متجددة تنطلق من بداية ثابتة تمثلها (بطلة العمل) إلى نقطة فناء حقيقي أو معنوي، رحلة لا عودة منها فمن سالم الذي فقد جوهر حياته بعد أن افترق عن الفتاة التي أحبها (بطلة العمل) فاستسلم متمركزا في عاصفة النحول تسحبه إلى القاع فلا حظي بقوة البقاء ولا بنعيم القرب.

    ثم إلى (صلاح) الذي مثل طوق النجاة كمحاولةٍ لبداية جديدة بالنسبة (للبطلة) وبذلك نالت فرصا لتبدأ نزلة أخرى، فيعجز الحاضر عن إصلاح ما أفسده الماضي، إن هذه إلماعات تجعل القارئ أمام خيوط متعددة تمسك الحدث من كل أطرافه.

    من ملامح التفرّد في الرواية

    تكاد تكون حالة الاندماج بين الوحدة والثنائيات الداعمة لها من أبرز ملامح العمل الذي جعل انسيابية الحركة بين الخيال والواقع تسهم في خلق تصعيد حركة الدراما في النص، وقد استطاعت هيا صالح أن ترينا من خلال ثنائيات موزعة بين (الماضي والحاضر) وبين (الغيبة والحضرة) كيف تبرز تجليات فلسفة الموت والحياة

    ثم تضعنا ثنائية الماضي والحاضر أمام تساؤل كيف للمأزوم بماضيه أن يتمنى كسر قيود الحاضر؟ الحاضر من زواج وأسرة وتقاليد اجتماعية، فلا ينجح بالتمرد عليه، وإن ارتد إلى الماضي سعيا وراء استجماع الذات للمرور من هذا الحاضر، وقع في شرك آخر هو الانعزال فعندما يرى الماضي وقد تحول إلى سور عازل يفصل الإنسان عن واقعه وعن استقراره، فاعلم أنه خالد فيه، يتوسط سعادة جاهلة لطفلة وجحيم أنثى كبرت وهي تبحث عن تلك اللحظة من الماضي.

    في هذا العمل صورة حياتية بين ضفة الوعي التي تقودنا إليها أحداث الحياة، وصورة أخرى تُجلي الحياة في رحلتها إلى الفراغ بعيدا عن أي ضفة نستقر بها، لتكون رحلتنا في هذا الحياة رحلة باتجاه واحد، سَمْتها الفقد، فَقْد المكان وفَقْد الطفولة، وفقد المحبوب الأول وفقد الرفيق، لنرى فقدا لا تجبره البدائل.

    طاقة التأويل:

    إذا كان الماضي محملا بالحب في الطفولة، مركبا من الحنين إلى المكان والتعلق بالمحبوب الأول فإنه تعلق لا يزول، وفي هذا تكشف لنا الرواية عمق الحس حين تعرج الروح جسر يلتقي فيه الأحياء والأموات، من خلال رسالة سلبت الحاضر.

    وفي هذا السياق تجد نفسك تائها في تحديد طبيعة الشخصية بين الهدم والإحياء فالبطلة الأنثى كتلة هدم هائلة، كل شخصية اجتمعت بها تحولت من كيان قائم إلى خراب زاحف، ولك في ذكريات عمّار مثالا وسالم أنموذجا ثم صديقة الجامعة، وصلاح ختاما.

    التأويل النسبي

    للتأويل النسبي مرجع لفظي يذكره الكتاب صراحة، لكنّ (جسر بضفة وحيدة) اجتمع فيها تأويلان في نقطة واحدة التأويل النسبي من جهة  والتأويل المحلي من جهة أخرى، فالمرجع اللفظي الظاهر والبعد الدلالي العميق اندمجا في بؤرة واحدة هي العنوان،  وهنا تبرز السمة المعمارية في النص لتتعدى حدود ما  يشترك فيه  منتجو النصوص، فالتفرد الملحوظ وربما غير المخطط له في هذه الرواية اتحاد المرجع اللفظي والدلالي في العنوان (جسر بضفة وحيدة) وبحالة الوحدة المتكررة فلو قمنا بإحصاء مظاهر الوحدة في النص فإننا سنقف أمام محطات بارزة في سكة سير الأحداث وفي إطارها السردي الزماني، وفي بنية الحكاية فسنجد حقلا غنيا من هذه المظاهر: فالبطلة وحيدة لأم وأب بسور عجز الأم عن الإنجاب بعدها.

    وهي وحيدة بمغادرة العائلة. وحيدة في مواجهة الموت والحرب، وحيدة بعدما نزع الموت منها أمها وأباها.

    أما الحرب فنزعت منها أشياء أولها (عمار) وثانيها (العراق) وقبلها (فلسطين) (حتى المكان الذي نحن إليه كنّا لاجئين فيه.)

    كذلك قدمت بنية السرد الحكائي وحدة فريدة (وحدة التيه) بين الحنين والنفور منه من أجل الاستقرار في الواقع.

    استطاعت هيا صالح من نسج اتجاهات إفرادية وثنائيات متعددة يلتقي فيها كل شيء كأنها تقبس من السياب مزج المتناقضات (الحياة والموت)، وقد تساوت الشخصيات في محاولات استرجاع الماضي لتعيش فيها حاضرها، لتتشكل لدينا صورة عن التقاء بين الأحياء والأموات وبين الماضي والحاضر وبين الخلود الفناء وبين الذاكرة والواقع فوق ذلك الجسر (بضفة وحيدة).

    (مصعب البدور، صحيفة الرأي، 16/5/2025)