خديجة مسروق
العقل هو خاصية تميز الإنسان عن سائر المخلوقات. العقلانيون يرون بأن التّفكير دلالة على وجود الإنسان؛ (أنت تفكر إذن أنت موجود) على رأي ديكارت.
“طرقات بمزاج سيئ” للروائي المغربي مصطفى النفيسي (الآن ناشرون وموزعون، 2023)، تحمل رؤية فلسفية تعبّر عن واقع الإنسان المعاصر. حاول النفيسي من خلال روايته خلق مساحات معرفية تضاف إلى رصيد متلقيه معتمدا على مجموعة من المقولات الفلسفية، يبدو من ورائها أنه متأثر بالفلسفة اليونانية وفلاسفة الغرب عموما. وهو يفتتح نصحه الروائي بأقوال لمجموعة من الكتاب العالميين (بيسوا وغاليانو وكافكا وهاروكي موراكامي)، ويعلن أن العالم الداخلي –لا الأشياء الخارجية- مصدر سعادة الإنسان، وهي مقولة فلسفية تقوم عليها المدرسة الرواقية، التي يركز عليها بشكل كبير.
اختار الروائي الإشارة لشخصيات روايته كل واحدة بحسب وضعها الاجتماعي أو الوظيفي، بدلا من أن تحمل أسماء محددة. بطل الرواية حارس مرمى يهرب من الملعب خوفا من عجزه عن تسديد ضربة الجزاء كفرصة وحيدة وأخيرة للفوز.
حارس المرمى يمثل الإنسان المعاصر الذي يعيش القلق والخوف من مواجهة مصيره. “طرقات بمزاج سيئ” صاغت واقع العالم المعاصر الذي طغت فيه المادة وأصبحت أهم من الإنسان نفسه.
تعرض الرواية آراء بعض فلاسفة وأدباء الغرب في سعي الإنسان وراء الثراء وتحقيق اللذة، أرسطو يعتبر طلب اللذة ينزل بالإنسان إلى مستوى البهائم، وطلب الثروة لا يورث إلا الشقاء، وصموئيل بكيت يرى أن الحياة ليست كلها مخصصة لطلب المال والثروة. الواقع بحسب الرواية يثبت فشل المادة في تحقيق السعادة للإنسان. يظهر وباء كورونا ويهزم الإنسان في العالم كله. يبدو الإنسان أمام هذا الفيروس الصغير الذي لا يُرى بالعين المجردة ضعيفا لا حول ولا قوة له يتوسّله طالبا الصفح منه بتعبير الروائي.
التفكير علامة فارقة بين الإنسان وباقي الكائنات الأخرى، والرواية ترى أن الغرب بدءا باليونانين الذين صنعوا حضارتهم بالفكر والمنطق كان يمجد العقل ويحتفل باللوغوس، بينما انشغل العرب بالصراعات فتهاوى مجد أمتهم. اليونانيون “كانوا يحلون خلافاتهم من خلال الخطابة.. يتحدثون طويلا حتى يُقنع بعضهم البعض.. كانوا يتحدثون بدلا من أن يتحاربوا أو يتعاركوا بالأيدي” (الرواية، ص133). وعُرف العربي بالتعصب كعلامة أصبحت اليوم أكثر من أي وقت سابق لصيقة بهويته أينما ارتحل. لا وجود لمفهوم الحوار في قاموس العرب، يتحاربون بدل الحوار ويتعاركون ويعنّف بعضهم البعض بدل التفاهم بالطرق السلمية. فهل حقا الفكر هو الفاصل بين الأمم المتحضرة والأمم المتوحشة؟
التعصب وغياب الحوار بين أبناء الوطن العربي مزّق وشائج الوحدة العربية. مصطفى النفيسي يسحضر الأزمة الحدودية العالقة بين المغرب والجزائر والتي تعود لسنوات طويلة. “سقط جدار برلين ولم يسقط جدار بغلين (نسبة للمعبر الحدودي المسمى زوج بغال)”.
الإنسان في العالم العربي ما زال يعيش الحروب والصراعات، فلا الحرية كانت حرية ولا الربيع كان ربيعا، فهل الربيع كان مجرد كذبة؟ يتساءل مصطفى النفيسي: ما الجدوى من التفكير؟ وما قيمة العقل إذا كان العالم ينتقل من حرب إلى أخرى؟
إذا كان العربي يتحرك داخل ذاكرته وتاريخه الماضي، فتفكير الغرب شيء آخر، الفيلسوف الروماني سنيكا يرى أن على الإنسان أن يختار طريقه بنفسه ويمضي فيه وحيدا، اختيار الطريق الصحيح بالنسبة له يؤدي إلى السعادة.
يذكر الروائي بأننا تأخرنا كثيرا، انشغلنا بالتوافه وتركنا الأهم: “لقد تأخرنا بحيث أن أنباء العرافات والبورصة وركض الخيول أصبحت أهم من أنباء الربيع والفراشات” (ص188).
الأمة العربية يشبّهها مصطفى النفيسي بالسمكة التي ظلت تثير شهية الغرب منذ الأزل. هولاكو حرق المكتبات العربية لغاية في نفسه. فهل كان الفكر العربي حقا يهدد كيان الغرب، فدفعه ذلك للتخلص من أرشيف العرب؟ ونابليون لم يأبه بأي خسارة في احتلاله لمصر وكان هدفه محاصرة الفكر العربي لنشر ثقافته في الشرق الإسلامي، مستمدا عزيمته كتلميذ نجيب من الاسكندر الأكبر، الذي مضى محلّقا في الأفق الممتد بحثا عن حدود العالم الذي يجب أن يكون له نهاية ما. وهتلر حكم بجشع فنضجت على إثر مشروعه الاستبدادي أحلام العالم الغربي في حين شاخت فيه أحلام العرب، فنصبوا خياما مهترئة تحت ظلال النخيل وراحوا يستحضرون خلافاتهم منتظرين “عودة النفس العاقلة”.
فهل يملك العرب نفسا عاقلة بإمكانها أن تتجاوز الخلافات والصراعات التي تحدث بينهم؟ وهل يمكن للنفس العربية أن تصنع من الحلم واقعا ؟ أم إن العربي لا يملك إلا الرغبة وحدها؟ وهل العرب التي كانت تقُضّ مضاجع طغاة العالم في عهود سابقة ليست هي العرب اليوم؟
يتساءل الروائي: لماذا لا نأخذ العبرة من مثابرة النملة؟ تيمور لينك حين هُزم وخارت قوى جيشه همّ بالهروب، ولما رأى مثابرة النملة في حمل حبة القمح، أخذ منها العبرة وأعاد بناء جيشه من جديد.
الكاتب صموئيل بكيت الذي اهتم في كتاباته بالقدر الإنساني، الأشياء بالنسبة له مقسمة إلى قسمين: أشياء تنتمي إلينا نستطيع التحكم فيها، وهي الأفكار والتصورات والرغبات والميول، وأشياء لا تنتمي إلينا والتي لا نستطيع التحكم فيها كالممتلكات، فالإنسان بالنسبة له لا يختار أن يكون فقيرا. المدرسة الرواقية ترى أن على الإنسان أن يتصالح مع واقعه: “لا ترغب في أن تحدث للأشياء كما ترغب، بل ارغب كما في الواقع” (ص37). إذا لم يجد الإنسان ما يريد، عليه أن يطوع ذاته لتقبل ما هو موجود.
يتعرض الروائي للعولمة الغربية كظاهرة خطيرة تغولت وراحت تنسج شباكها للقضاء على ثقافات المجتمعات التي تقع خارج دائرة الغرب المسيطر. من نتائجها تشيؤ الإنسان الذي أصبح لا فرق بينه وبين الأشياء المادية بل أقل قيمة، كيف لا وقد أصبحت قيمة الإنسان تقاس باللباس الذي يرتدي، فعلى حد تعبير الروائي؛ ما قيمة الإنسان اليوم إذا لم يكن يرتدي ملابس تحمل توقيعات لشركات مشهورة مثل “شانيل” أو “لاكوست”؟
كثير من الناس يرتدون الأقنعة، يختفون خلفها، فلماذا يفعلون ذلك يا ترى؟ هل يخاف المرء من ذاته أم من المرايا أم من الآخرين؟ يخاف المرء من الوقوف أمام المرايا، مرايا الذات، وحتى لا تكتشف قبحه وبشاعته يلجأ لارتداء قناع يختفي وراءه. لا يملك الشجاعة كي يرى ذاته دون قناع.
فهل المرايا لا يمكن لها أن ترانا حين نقف أمامها ونحن نختفي وراء الأقنعة، فترى أشباهنا فقط؟ وهل الأقنعة تمنحنا الحياة؟ أم تحولنا إلى سجناء، فنكون سجناء ذواتنا وراءها؟
أراد مصطفى النفيسي وفق رؤية فلسفية التعبير عن حياة الإنسان المعاصر،كما طرح مجموعة من القضايا التي تتمحور حول العقل الذي يميز الإنسان عن غيره من المخلوقات، وكيفية استغلال الغرب للفكر واحتفائه باللوغوس لصنع حضارته، فاللوغوس بالنسبة لهم هو العقل ولا شيء غيره. وتحدث عن أزمة الفكر العربي، وعن الصراع الموجود بين العرب بسبب التعصب وغياب الحوار البناء. فمتى يستيقظ العقل العربي من سباته كي يغير واقعه، ليصنع مستقبلا آمنا خاليا من النزاعات السياسية والصراعات الطائفية التي تحول الأمة العربية إلى أمة متوحشة؟