“على دروب الأنـــــدلس”.. من أدب الرحلات

“على دروب الأنـــــدلس”.. من أدب الرحلات


class="inline-block portfolio-desc">portfolio

text

    رشيد عبدالرحمن النجاب

    فـي عصر ما بات يعرف ب “زمن الكورونا” رحلت بعيدا (دون العبور بالموانيء والمطارات لما هو قائم من ظروف الحظر تحسبا ووقاية من هذا الوباء)، ذلك أنني لم أتحرك من بيتي، وإنما كان ترحالي عبر صفحات عمل أدبي جميل يحمل العنوان أعلاه ، وهذه المنطقة موضوع الكتاب كان يمكن أن تكون مثارا للتساؤل ومدعاة للحجر الصحيى.
    ولكن بقدر ما كان الترحال وهما بدأت به هذه السطور ، فلقد نجح الدكتور سميح مسعود في نقلي عبر صفحات هذا الكتاب إلى دروب الأندلس، ولم يك هذا الإنتقال مزامنا لما يقارب الشهر من رحلة د.مسعود استعدادا لإنجاز هذا العمل فحسب، بل امتدت قرونا وصولا لزمن دولة الأندلس.
    وقد يحلو للبعض أن يتساءل: “في زمن يترقب العالم فيه المستجد من أخبار الوباء أراك تشغل نفسك بغابر الأيام وتعلق الآمال بما مضى؟!!!”
    و أقول أن زمن الكورونا هذا، وظروف منع التجول من أجل الأمن الصحي، أتاحا لي وقتا ثمينا علاوة عن كوني متقاعد، وأن القراءة هي خير استثمار له، لا أعزل نفسي عن متابعة المستجد، ولكن لا أغرقها في تفاصيل متكررة تشكل عبئا على النفس وعلى المناعة،  أما “ما مضى” فذلك حكم ألطف ما يمكن أن يوصف به كونه متسرعا، ولعل في قراءة هذا الكتاب الكثير من المعلومات التي تشير إلى اهتمام قامات من أهل الفكر والأدب من الإسبان والعرب بما كان من حضارة زمن الأندلس، وما كان لهذه الحضارة من تأثير على النهضة في أوروبا، في مجالات الفلسفة، والطب، والفلك، وعلم الإجتماع، وغير ذلك، ناهيك عن العديد من المؤسسات الفكرية والثقافية التي تعزز هذا المفهوم، وتعطي هذه الحضارة حقها.
    يصنف الدكتور مسعود كتابه هذا على أنه من أدب الرحلات، وهو كذلك، فهو يتنقل بين دروب الأندلس، وصولا من المغرب حيث الكثير من المعالم التي تربط المغرب بالأندلس، وتجول في الأندلس مشاهدا، وواصفا، وقارئا، ومحاورا، ومستمعا ومستمتعا بكل هذا، ثم ينقله للقاريء في أسلوب سلس شيق، ما يجعل القاريء يفكر في أن وصف أدب الرحلات ربما كان وصفا موجزا بالنسبة لما ضمه ذلك الكتاب من محتوى، ولم تكن فلسطين لتغيب عن كل هذا، بل كانت نقطة التقاء، وموضوع حوار، وفي كل الحالات موقع توافق حول القضية الفلسطينية وعدالتها، وكانت للكاتب مصدر فخر، إذ يتحدث عن الفلسطينيين الأمميين الذين ساهموا في النضال إلى جانب الجمهوريين ضد فرانكو واستشهدوا هناك، ومنهم نجاتي صدقي وعلي عبد الخالق الذي كان موضوعا لرواية من تاليف حسين ياسين بعنوان “علي –  قصة رجل مستقيم”
    حَفِل هذا الكتاب بمعلومات غزيرة عن مدن الأندلس ومعالمها وكانت ملقا، ورُندة، وسرقسطة، وغرناطة، وقرطبة واشبيلية  وحتى “مجريط”  أو مدريد وجارتها طليطلة، ميادين لهذه الجولات ومنصات ينقل من عليها هذا الدفق من المعلومات، ولعل أهم معالم هذا الكتاب هذه المجموعات من المعلومات:

    • عرَّف الكتاب بالكثير من المهتمات والمهتمين بالشأن العربي، و أسماهم “المستعربون الإسبان” بدءا من خوان غويتسولو الذي هاجر إسبانيا الى المغرب احتجاجا على فرانكو وتوفي ودفن هناك. وليس انتهاء ب “بيدرو مارتينيث مونتابيث ” عميد المستعربين الإسبان وما دار بينهما من حوار قد يتطلب عشرات الصفحات للخوض في تفاصيله ومدلولاته. إضافة إلى العديد من الشخصيات التي يخرج تعدادها عن الغرض من كتابة هذه السطور.
    • ولكن أهم ما استوقفني في حوار د.مسعود مع  عميد المستعربين الإسبان هو هذا المقطع؛ يقول الدكتور سميح مسعود:

    “إستدركت قائلا : بداية لماذا اخترت اللغة العربية التي تتقنها أكثر من أبناء الجيل العربي الجديد الذين لا يتمسكون بها وتطغى عليهم اللغات الأجنبية؟”
    “أبرقت عيناه فجأة وقال بنبرة عاطفية:”لثرائها الحسي والمعنوي والبنيوي، من حيث احتوائها على عدد كبير من المفردات، ولطريقة الإشتقاقات المتبعة فيها، ولمتانة تراكيبها وقدرتها على الوصف والتخيل” .
    لعل في هذه السطور ما يغني عن أي تعليق .

    • كما عرف بالعديد من المفكرين والأدباء والمثقفين الفلسطينيين المقيمين في الأندلس وفي مدريد موضحا أبعاد الدور الذي يقومون به في شأن التبادل الفكري والثقافي مع إسبانيا ومنهم عدنان الأيوبي، والأديب والشاعر محمود صبح،  والسيدة سلمى التاجي الفروقي مؤسسة متحف البيت الأندلسي في قرطبة وصاحبته.
    • ذكر الكثير من التفاصيل حول الرسامين والشعراء و الأدباء الذين ينتمون إلى الأندلس انتماء يتخطى كونهم من مواليد الأندلس، بل كان ثمة روابط فكرية، وثقافية تربطهم بالحضارة التي كانت هناك، بابلو بيكاسو ، لوركا الذي “كان شاعرا أندلسيا يعتز بتراث الأندلس العربي حتى أن صديقه الشاعر التشيلي بابلو نيرودا وصفه في مذكراته بأنه نتاج عربي أندلسي. وعرف نفسه ذات يوم بأنه من مملكة غرناطة .أي من مملكة بني نصر، الذين كان أصلهم عربيا من اليمن.”
    • من مجريط وهو الإسم القديم لمدريد التي قال إن اسمها القديم يجمع بين كلمة “مجرى” العربية و”إيتو” اللاتينية التي تعني الماء الوفير ، وجارتها طليطلة وما كان للعرب فيهما من تواجد في الدولة الأندلسية وما تركوه من آثار. إلى مدن الأندلس التي زارها، ضم كتابه من المعالم والمعلومات ما يصلح أن يكون مرشدا يرافق الزائر بل كان في مضمون الكتاب الكتاب بمجمله ما يحفز على هذه الزيارة.
    • لم يكن الحديث عن الحضارة العربية في الأندلس ليكتمل دون الحديث عن أعلام هذه الحضارة وعلمائها، ابن رشد، وابن البيطار ، وعباس بن فرناس، وابن طفيل، وابن خلدون ذو النسب الأندلسي، حتى “جابر بن حيان الكيميائي الذي عاش في الكوفة  كان له تمثال في قرطبة لأن كتبه ودراساته اشتهرت في الأندلس ، وترجمت إلى اللاتينية وبقيت تدرس في أوروبا لقرون عديدة “.
    • وابن حزم الأندلسي صاحب كتاب طوق الحمامة ، والشاعر ابن زيدون، وولادة بنت المستكفي، وغيرهم كثيرون مشيرا لمكانتهم وأعمالهم، وتأثيرهم ،وتقدير المستعربين الإسبان لهم، ولا ينسى أن يستعين بأبيات من عذب الشعر  لا سيما شعر ابن زيدون وولادة بنت المستكفي. هذا ابن زيدون يقول مخاطبا ولادة من مدينة الزهراء القريبة من قرطبة:

    إنــــــــــي ذكــــــرتـــــــك بالــــــــــزهــــــــراء مُشـــــــــتاقــــــــا              و الأفــــق طَـــــلقـــــــــا ومـــــرأى الأرض قـــد راقـــــــــــا

    و للــــنــــــســـــيم اعتلال فــــــــي أصـــــــــــائـــــلــــــــــــــه            كــــــأنـــه رق لــــــــــي فاعــــــــــــتـــــــــــــــــــــــلَّ إشفــــــــــــــــاقــــــــــــــــــــــــــا

    • وصف الكاتب العديد من الأماكن التي زارها وصفا يقرب صورتها للقاريء، ويعطيها نوعا من الخصوصية في الوصف، يشعرك بأن هذه العبارات إنما جاءت نتاجا لتفاعله مع ما وصف، تفاعل كل الحواس التي أنتجت هذه الصورة: كأن يقول: “جلت ببصري في أنحاء المدينة كلها، فوجدتها مستديرة، تقع على ضفتي نهر الوادي الكبير” – يقصد مدينة إشبيلية.
    • ولا ننسى ما ورد في الكتاب من معلومات حول أنواع من الفنون اشتهرت بها تلك المدن أبرزها “الفلامنكو”، إضافة إلى العديد من أنواع الطعام و الحلويات .
    • يفتح الكتاب آفاقا واسعة للتعرف على العديد من الكتب والفنون و الأعمال الفنية التي تستثير رغبة المتابعة و الإطلاع على بعض هذه الأعمال أو ربما كلها، ويخلق جوا محفزا على البحث و الإستقصاء، للتزود ببعض مضامين هذه الأعمال، و أنا أقرأ هذا الكتاب قفزت إلى مخيلتي كتب قرأت بعضها، وبدأت أعد قائمة بما لم أقرأ من الكتب ذات العلاقة بالموضوع،  فعلى سبيل المثال لا يمكن أن تقرأ مضامين هذا الكتاب دون أن تقفز إلى مخيلتك أعمال مثل ثلاثية غرناطة للأديبة الراحلة د.رضوى عاشور،  أو المخطوط القرمزي لأنطونيو غالا أو  “علي – قصة رجل مستقيم ” لحسين ياسين وغيرها
      كتاب جدير بالقراءة بل والإقتناء كمرشد في تلك الدروب أو مدخلا إلى حدائق الفكر  والكلمات.

    نشر في (الرأي الأردنية)
    30-7-2020