عبد الغني صدوق
(كاتب جزائري)
منذُ أن سلك صنّاع الأدب طريق الرواية عبر محطّاتها الزّمنيّة في الشّرق والغرب، كان الدمار أحد موادها الخام، ينهلُ من رُكامه الكّتّاب وأهل الفن قاطبة، وعندما نتحدّث عن الدّمار في نوعه الطبيعي سواءً وقع ذلك بأمر كُن أو بآلة تخريب الكون، فإنّه يترك أثراً في الذاكرة المؤهلة للكتابة، لا تتخلّص من صُداعه إلّا ببُنيان نصٍّ مرصوص يستحملُ همومها وتتناقشُ من خلاله مع الآخر، رغبةً منها في الخلود والتداول.
وإذا ما تمعّنا في شكل النصوص المُنبعثة من الخراب، فمن البديهي أنْ نلاحظ إيقاعاً قلقاً ينمّ عن أُمنية في قول كلّ شيء دفعة، ممّا يجعلُ المتلقي المُعتاد على المُتعة الفورية متذمراً من أسلوب الكتابة، فلا عجب؛ لأنّ هذه النصوص تتطلّب قراءة وراء قراءة لتؤتي أكلها، فهي كعظم مكسور يستوجب أثناء جبره مشاهدته بالأشعّة الضوئية.
“غايكوب” للكاتبة السعودية أمل الجبرين رواية من هذا الفصيل، عنوانٌ مُبهم، يثير الفضول، تقنيّة اختصار فيها جماليات، تصلح إذا تمّ التفسير خلال المتن كمكافأة للمتلقي على الحضور. لقد قدّم لنا السارد أسرة البطل في الصفحات الأولى مستدرجاً إيّانا لحياة الشخصية المحورية يعقوب، ثم يعقبها برسم مكان ميلادها -بيولوجيّاً- (أم النّخيل) ليضعنا في أجواء الرواية، ثمّ تُطرح الأسئلة علّنا نكون أكثر اندماجاً ومسايرة لتصاعد الأحداث.
فعندما نسمع مثلاً “لماذا تصر الأم ألّا ألبس العقال يوم الجمعة؟ ولماذا يمنعني أبي سعيد الإمام من أنْ أخالط بناته؟”.. هُنا يجبُ أن نتريّث عند كلمات “الأم” و”العقال” و”أبي سعيد الإمام”.. كلمات تغنينا ولو للحظة توقّف وتأمل عن متابعة القراءة، ففي هذين السؤالين ترانا أمام إشكال من إشكالات الثالوث المحرّم في الرواية، إذ الاشتغال على نوع واحد منه فقط قد يكون سبباً في نجاحها أو فشلها.
وإذا ما طالعنا النّص سنرى أنّ القرية كمكان أوّل تنطلق منه القصّة، هي معمار يعود له السّارد مستعملاً تقنية الاسترجاع كلّما جال بنا في أمكنة أخرى، وهي احتواء لكلّ الوقائع والأفكار التي يتناوب عليها السُّراد لإيصال معنى الألم والأمل.
إنّ تعدّد الأصوات في “غايكوب” التي هي في الأصل صوت واحد، يرينا مشاهد فانتازيا، هي أنجع سبيل لحبكة سليمة تتماشى مع سرعة السرد، حتّى إنّ الحوار شبه مفقود من البداية، إمّا متعمّداً لتغطية أزمنة الرواية ورصد التحولات لتثبيتها في ذهن القارئ، وإمّا سهواً لأنّ القلق يجبُ أنْ يُنقل إلى النفوس يبدٍ مرتعشة.
ولأنّ البطل جاء للدنيا نتيجة اقتران عرقين مختلفين، ظلّت أزمة الهويّة تلاحقه في تنقلاته الفكرية والجغرافية، ممّا يجعله في تناقضات محلّها حلبة الأنا والآخر، الصراع الأبدي الذي يُفترض ألّا يعيشه المنتمون لسلالة الإسلام، لكن للسياسة رأي آخر ساري المفعول إلى حين، فالأمّ والأمّة روح واحدة، الأولى لا تفرّط في أيّ من أبنائها مهما تمردّ أو فسد، والثانية متحدّة لأجل المنفعة العامة ناظرة إلى المصير نفسه. نقتبس من النّص في هذا الصدد: “كلّ أمّ مهما اختلفت عن ابنها تفهمه تماماً، حتّى وإن ارتدى ألف قناع”.
نستنتج مما سبق أنّ لهويّة الأمكنة أدوراً مهمة في القَص، إذ تنعكسُ مباشرة على أخلاق الشخوص والقيّم الكائنة في النّص، فجبل طارق في غايكوب مكان تتعايش فيه هويتان، هنالك الإسبان والبريطانيون، ومع ذلك يُنظر إلى المنفعة الجارية جري السّفن ولا شقاق. ونحن نكتشف الرواية المطرزة بالعجائبية، يتجول بنا السارد بين عواصم العالم بخفّة، ينسلخُ من شخصه ليتلبّس شخصاً آخراً يواصل الرحلة، لكنّه ينبّهنا بِمَ فعل، “أن تخرج للحياة ليس لديك ما تفقد” فهو خروج من عقل إلى عقل ومن عالم إلى عالم.
ثمّ نشتبك مع النّص اشتباكاً وطيداً ونحن في قمّة السّرد، نطرح على ذواتنا أسئلة غير مكتوبة، ما الذي جعل الرواية تتنامى بهذا الشّكل؟ نسقٌ تمكّن من اصطيادنا وبِتْنا نبحثُ عن مخرج يُريحنا من تعب القراءة، وما تزال كلمة غايكوب هاربة بين السطور، كأنّ القصّة في القرآن، من سورة يوسف عليه السلام ألقت بفتيل إلهام على تكوين الرواية، فغايكوب من يعقوب؛ من الغياب، إذْ غاب الولد أربعين سنة وقيل ثمانين، وهو شبيه الغياب عن (أمّ النخيل) في المتن، وغاية المرأة المنسلخة من شخص البطل، هي غايته كذلك في تبليغ الرسالة، فكان حرف الغين مناوباً لحرف الجيم في اسم جيكوب التي شاهدها البطل لعجمي في فضاء الإنترنت، حيثُ الإلحاد والكفر والنصرانية.. كما الشخوص كلّ يُغنّي بليلاه، لقد وُفّق السارد في إقامة علاقة تقاطع الأفكار من النّص القرآني إلى نصّه الروائي، وإنّه لواقع بحقّ هذا الانفصام في عالم النّت، مؤمنون في الصباح كافرون في المساء، فأم النخيل ببغداد بطلة عظيمة وُظّفت كمركز احتماء من تقلبات الأزمنة وتأثير الأمكنة، نقتبس في هذا الحال: “دخلتُ المعسكر ذكراً وخرجتُ منه أنثى ألبسُ الحُلّة العسكرية”.
وإذا ما فتّشنا في حافظتنا الذهنية، سنعثر على أنّنا اعتدنا القول “الغاية تبرّر الوسيلة”، أي من أجل بلوغ الهدف سننظرُ إلى الطريق الأسهل والأقل تكلفة، ثمّ سنرى المادّة المُعينة على الوصول، بصرف النظر عن أنّ كلمة “غاية” اسم عربي أصيل.
ولأنّ غايكوب مسبوكة بتقنية العارف بعلم الرواية، تتخللها آراء مشفرّة علينا ملامستها، يمكنُ تصنيفها في حيّز إبداع الراسخين وهو غير متاح لأي كاتب؛ بمعنى أن تدير نظرية فلسفية في نصٍّ روائي قائم على أفكار محدّدة وتستحضر المراقب لزلاتك فتبرر مدى الإرهاق، لجدير أنْ يُعطى نصّك شيئاً من الاهتمام، فالرواية المنقولة من الواقع ليست الرواية المبذول في بنائها خيال جامح وغرائبية مُدهِشة، قد تكون عصيّة الفهم على المتعبين من القراء، لأجل هذا قال السارد: “صعبٌ أنْ أرسم هذه اللوحة، أنْ ترسم وجهاً أمرٌ سهل، أن ترسم الطبيعة ليس سوى نسخ لإبداع دون الاستعانة بك، أمّا أن ترسم معركة فهو أمر يستنزف كلّ طاقتك، كيف ترسم المكر، والخداع، والحيلة؟”.
غايكوب الصادرة عن “الآن ناشرون وموزعون” بالأردن، ثيمة لا تُبخس، ولغة رصينة، لا أستبعد أن أقرأ نصاً أخراً امتداداً لمشروع أمل الجبرين الروائي وقد استدركت الكاتبة خصائص سردية أجود اشتغالاً وأبعد تصوراً.