“فستق عبيد” لـسميحة خريس.. المتخيل السردي وتحولات الشخصية الروائية

“فستق عبيد” لـسميحة خريس.. المتخيل السردي وتحولات الشخصية الروائية


class="inline-block portfolio-desc">portfolio

text

    د. وجدان الصائغ
    (كاتبة وأكاديمية/ قسم دراسات الشرق الأوسط – جامعة ميشيغان)

    لا يمكنك أن تقرأ رواية “فستق عبيد” للروائية سميحة خريس دون أن تستدعي ذاكرتك الأسلوب الأنيق للروائية توني مورسن في روايتها “العيون الأشد زرقة” (The Bluest Eyes) وهي تجوس بجرأتها مسكوتات شائكة في مجتمع غلفته العبودية بهالة من الصمت وتحريم الغوص في تفاصيل الوجع الإنساني الكامن خلفه.

    فسميحة خريس استطاعت بهذه الرواية أن تشطب على السائد المكرور لأنها فتحت بمنجزها بوابة تاريخ العبودية والرق المسكوت عنه تماما.. فهي تضعك فقط أمام حقائق تاريخية موثقة لأحداث جسام تخطف ذاكرتك باتجاه التاريخ العميق لهذا الجرح الناغر في جبين الإنسانية حين تم تشييء الإنسان وسلب كرامته، بل إنها حفرت بعيدا داخل العلاقات الاجتماعية الملتبسة التي تربط الذين وقعوا في شرك العبودية وفي إطار درامي متنامٍ متقن يتحرك على فضاء مكاني متسع تتنقل فيه كاميرا النص بين السودان والجزائر والرأس الأخضر.. إلخ، وعلى أفق زماني يستدعي تفاصيل الثورة المهدية وأيام الاتجار بالبشر واستعبادهم.

    هي رواية رائدة مختلفة تجعلك تطرح تساؤلات عدة منها: هل الغوص العميق في تاريخ العبودية عبر وثائق تاريخية مسكوت عنها، يستدعي إدراجها فيما يسمى “الأدب الأسود” (Black Literature) لأنها عالجت دراميا ما يضج به مجتمع أصحاب البشرة السوداء من إشكالات اجتماعية مركبة من جانب ومن جانب آخر أدانت الحيف الذي حلّ بهم؟ وكيف استطاع المتخيل السردي أن ينسج فضاءاته من تنامي شخصيات الرواية التي تباينت بين أقصى البياض وأقصى السواد، وبين أقصى العبودية وأقصى التحرر؟ وهل أن الوقوف عند شخصية واحدة سيعطي انطباعا عن هذا المنجز المتميز؟

    هذه الأسئلة وغيرها كثير قفزت إلى ذهني وأنا أتابع شخصية “كامونقة” المركبة، الذي شكلت حكاياته محوراً للرواية برمتها حين نجح في التحرر من عبوديته، وكذلك وأنا أتابع علاقته المربكة بـ”اللمون”، ووجدت أن المتخيل السردي منحه سانحة إعطاء الرواية عتبتها الأولى/ العنونة (فستق عبيد). تلك العتبة المخاتلة المشاكسة التي قال عنها “كامونقة” مبررا تسمية (فستق عبيد) وهو يسترسل في سرد حكاياته:

    “تذكرت كيف كان الجلابة وقطاع الطرق يقتنصون الصغار الجوعى عارضين عليهم ملء أكفّهم حفنات من الفول، مستغلين جوعهم وهم يختبئون وراء الأشجار مادّين أكفّهم لطفل جائع يهمسون: (مجاوة.. مجاوة). تغري حباتُ المجاوة في أكفهم الأطفالَ الجوعى، هكذا اختطفوا السذج في الماضي، وأنا أردت تحصين أولادي من غواية الفول، الذي يسمونه في أماكن كثيرة (فستق عبيد)، إنه الفستق الذي يمكن أن يوقعك في العبودية، قلت لنفسي أزرعه، فيشبع الأولاد ولا يذهبون إلى العبودية بأقدامهم”.

    فأنت إزاء وعي “كامونقة” الحاد بمحنة العبودية بوصفها فعلا قدريا يصيب الأطفال الجوعى (الجيل الجديد) بسبب قناصة الصيد وتجار البشر (الجلابة وقطاع الطرق)، وعمله الجاد لإبعادها عنهم بزراعة المجاوة/ الفول/ فستق عبيد.

    ولكي نفهم التنامي الحاد في شخصية “كامونقة” يتحتم علينا ملاحقة شخصية “اللمون” التي بدت مرآة ناصعة تعكس الطبيعة النفسية المتناقضة له، تأمل المشهد التالي منعكسا على وعي “كامونقة” ومن خلال تقنية الارتجاع الفني ولاحظ كيف برع المتخيل السردي في وصف لحظة وقوعه بشرك العبودية فضلا عن ترسيم ملامحه الخارجية:

    “عندها كنت فتياً قوياً، شهيتي مفتوحة لاقتحام العالم، خرجت باحثاً عن رزقي وقدري، لا أنتظر معجزة سماوية، ولكني أتعامل بحماقة مع الدنيا. أجّرتُ ساعدي لمن يطعمني حيناً، وسخّرتُ خفتي وجسارتي لتطعمني حيناً آخر، أسطو على ما تناولته يدي خلف أسوار بيوتات المزارعين الصغيرة، باتوا ينادونني (كامونقة) نسبة إلى قبيلتي. ولأني صغير مغرور غشيم فقد تهت وسط المعمعة وانسحاب الجيوش ودخول أخرى واختلاط القبائل، ابتعدت عن أهلي وضعْتُ بين قيزان وهضاب دارفور، أُوشك على اقتحام قدري الكبير تحت حر الشمس الأفريقية، أمرّ في لحظة الظل التي ستغير مجرى حياتي، شريداً وحيداً وهدفاً ثميناً للصيادين الباحثين عن طرائد قبضوني جائعاً أحاول القفز فوق سور مزجَّج لبيت في (كردفان)، جرّوني بعد مقاومة خرقاء إلى زريبة الرقيق حيث الفتية الهاربين من مطارحهم، والنسوة الضائعات اللواتي لم يعرفهن الحظ، هناك اكتشفت وضاعتي، روّضوني وكسروا زهوي، في غفلة عن نفسي والدنيا؛ بتُّ عبداً. ضاعت الأحلام هباءً، وانفطرت النفس وخضعت الروح كسِيفة وراء قضبان الزريبة الخشبية التي حُبست فيها. زعق النخاس في بوق (أم بايه) يجمع صوته الناس مفتتحاً السوق في يوم شديد الحرارة قائظ، عرضوني على منصة البيع أتصبب عرقاً، عارياً إلا من خرقة ربطت حول خصري وتدلت لتستر عورتي عن العيون، ينتصب جسدي بعنفوان شبابه، لكن الكبرياء كسيرة منحنية”.

    من الواضح أن المتن يستبطن نفسية “كامونقة” في زمنين متضادين، الأول: زمن حرية “كامونقة” حيث غياب الأخلاق والقيم حين سولت له نفسه تحت سياط الجوع انتهاك حرمة الأمكنة المحصنة بدلالة (أسطو على ما تناولته يدي خلف أسوار بيوتات المزارعين الصغيرة) و(أحاول القفز فوق سور مزجج لبيت في كردفان)، وقد عززها اعتراف “كامونقة” الصريح (اكتشفت وضاعتي). والزمن الآخر زمن عبودية “كامونقة” وانفراط كرامته (بت عبداً… روضوني وكسروا زهوي… عارياً إلا من خرقة ربطت حول خصري… عرضوني على منصة البيع أتصبب عرقاً) بأمكنته المعادية التي تنزع عنه آدميته ليكون بمصاف البهائم؛ وهي أمكنة مغلقة (الروح كسيفة وراء قضبان الزريبة الخشبية التي حُبست فيها)، وأمكنة مفتوحة معادية (السوق… منصة البيع). والشخصيات المعادية (النخاس)، والأزمنة المعادية (تحت حر الشمس الأفريقية… في يوم شديد الحرارة قائظ).

    يعكس المشهد الروائي التالي ازدواجية شخصية “كامونقة” الذي كان يتذلل لمالكه التيجاني وهما يسيران في سوق بيع العبيد لكنه يبطش بأبناء جلدته الذين يقعون تحت رحمته: “واصل التيجاني سيره لأمتار وأنا إلى جانبه، وبعدت الأصوات لولا أني هززت ردن ثوبه الواسع بإلحاح، لا يجرؤ عبد مثلي على فعلتي، ولكني فعلت، فوقف. لم يفهم لماذا أعيده أمام منصة البيع وعلى وجهي تلك النظرة البلهاء كأن مسّاً أصابني، بَدون جميعهن في ناظريه إناثاً فائضات عن حاجة الكون، لكني أشرت إليها باستحياء. استهجن إشارتي: (الصغيرة الصفرا دي؟)، هتفت متحمساً: (– أأأي..أي…دي.). وقفت الصبية عارية تماماً إذ لم تصنَّف أنثى بالغة، كانت طفلة لا يستوجب سترها بقماش الدمور، تثير التعاطف حتى الحزن، تثني هيكل جسدها جانباً… في حين يتدلى رأسها واهناً فيدفعه البائع بين لحظة وأخرى بطرف عصاه، يذكّرها برفع هامتها ليراها المشترون الذين زحموا سوق بيت المال، لم تستوقف أياً منهم، لا يغري جسدها النحيل باتخاذها سرية استمتاع ولا عبدة خادم تنجز المهام الصعبة، رغم أنها لم تكن مشلخة أو مصابة بعلامة من علامات الكي والتشطيب التي تسم الإماء فتدل على هروبهن أو تبعيتهن لمالك بعينه، إلا أن وهنها والاصفرار الباهت الذي خالط خضرة جسدها أبعد المشترين. ضحك التيجاني لحماستي”.

    عكست الشخصيات الثانوية (الطفلة المعروضة للبيع والمالك/ التيجاني) بعدين متضادين في شخصية “كامونقة”، فهو الشبق الذي يستثيره جسد الطفولة الغض وعبر تفاصيل دقيقة لتلك الطفلة الـ “عارية تماماً… لا يستوجب سترها بقماش الدمور… لم تصنف أنثى بالغة… تثير التعاطف حتى الحزن.. تثني هيكل جسدها جانباً… في حين يتدلى رأسها واهناً… جسدها النحيل… لم تكن مشلخة أو مصابة بعلامة من علامات الكي والتشطيب… وهنها والاصفرار الباهت الذي خالط خضرة جسدها)، وهو العبد الذي يعرف حدوده تماما مع سيده التيجاني إلا أنه تجرأ على هتكها (لولا أني هززت ردن ثوبه الواسع بإلحاح… لا يجرؤ عبد مثلي على فعلتي… ولكني فعلت).

    ويتوغل المتخيل السردي في استبطان شخصية “كامونقة” المركبة، إذ يرد من خلال وعيه: (أنا العبد اليافع القوي أكاد ألتهم الصبية في وقفتها اللينة، لم يشق ثدياها طريقهما في الصدر النحيل بعد، مع ذلك فضحني تغرغر حدقتيّ عيني بدمع أمسكه، وهزة اللهفة الطفيفة التي لا أقوى على كبحها في وجنتّي. أيقن سيدي أن الدافع الذي حمل الشاب الأسود الغرباوي على نسيان مقامه لوهلة ليشد ردن سيده لافتاً نظره إلى بضاعة المنصة لهو سبب عظيم لا يجدر تجاهله. ساوم البائع ليبتاعها بسعر طفلة، لكن البائع صنفها شابة فرخة لا مالك لها، عبدة شاردة لا تتبع أحداً صادها في رزية، وادعى أنه إذا لم يجد لها مشتريا ستتم مصادرتها منه وردّها إلى بيت المال. لم يطل البائع المساومة، كان متهاوناً متعجلاً الخلاص من عبئه، وقرع قلبي كما طبل الغارة، أصابتني هواجس مضنية”.

    من اللافت أن المتن يستبطن وعي “كامونقة” الذي يعلم علم اليقين بأن “اللمون” طفلة (لم يشق ثدياها طريقهما في الصدر النحيل بعد)، لكن الانزياح الاستعاري تارة يشيؤها (بضاعة المنصة) وتارة يجسمها (فرخة) لتتضح أخلاقيات الغاب في متعة “كامونقة” بالتهام “اللمون” (ألتهم الصبية) ونشوة غريزته في افتراسها (وهزة اللهفة الطفيفة التي لا أقوى على كبحها في وجنتّي… قرع قلبي كما طبل الغارة)، وهو التهام يستدعي في مسكوتاته بشاعة دموع التماسيح (فضحني تغرغر حدقتيّ عيني بدمع أمسكه).

    تأمل مثلا المشهد التالي الذي ضج بتساؤلات مريرة لـ “كامونقة” المملوك وهو يترقب الانقضاض على فريسته (الفرخة/ اللمون): “ماذا لو انصرف سيدي ولم يبتع الفرخة السوداء المصفرة؟ ماذا لو استكثر هدر نقوده من أجل أنثى تبدو ضعيفة لم تبلغ مبلغ النساء؟ هل سأتركها أنا أيضاً وأمضي وراء سيدي مستسلماً؟ أم سأرابط عند منصة العرض لتكون البنت لي؟ ماذا لو ابتاعها لنفسه وسخر من نبض قلبي؟”.

    من الواضح أن مرايا النص نجحت في أن تعكس الملامح الخارجية لـ “اللمون” الطفلة المستلبة حين يكرر المتن وصفها تارة بـ (الفرخة السوداء المصفرة) وتارة (أنثى تبدو ضعيفة لم تبلغ مبلغ النساء)، لكن في الطرف الآخر تنزع عن “كامونقة” إنسانيته ليغدو مفترسا باحثا عن فريسته، وقد كثف هذا البعد تساؤله المرير (ماذا لو ابتاعها لنفسه وسخر من نبض قلبي؟). هو تساؤل يفضح من جانبٍ استلابَ “كامونقة” أمام سلطة السيد (التيجاني)، ومن جانب آخر يعكس تحول “اللمون” إلى جسد مُعْدٍ للافتراس.

    بل إن المتخيل السردي في المشهد التالي يمعن في تكثيف الصورة الذوقية التي تكرس ملامح “كامونقة” المفترسة لتضفي على “اللمون” ملامح الفريسة حين تتأكد ملكيتها لـ “كامونقة”: “تمالك جسده وعاد إليه وعيه وقد أنهى السيد الصفقة، غادرا سوق ساحة البقعة في أم درمان مصطحبين معهما البنت التي استحقت اسم (اللمون) لفيض الرائحة التي غمرت المكان فصحّت ذكورته وروحه المغيبة، هذه (اللمون) الواهنة تبعته كغنماية دون أن يقتني حجاباً، هذه الضعيفة قادرة على زلزلة جسده بالقشعريرة كلما رفعت ناظريها إليه”.

    يكرس جسد “اللمون” (الواهنة/ الضعيفة) البعد الإيروتيكي لفحولة “كامونقة” المتقدة (تمالك جسده… فصحّت ذكورته… قادرة على زلزلة جسده بالقشعريرة)، بل إن الانزياح الاستعاري منح “اللمون” إهاب الغنمة لتتسق وشبق “كامونقة” الذي انتشى بجسدها العاري (دون أن يقتني حجاباً).

    ويتقصى المتخيل السردي محنة “اللمون” من خلال وعي “رحمة”، الحفيدة المولعة بحكايات جدها “كامونقة” التي تلمح ذلك الشبق العارم، إذ يرد: “تضحك (رحمة) في وجه جدتها (اللمون) ويعجبها بريق عيني جدها (كامونقة) وهو يصف كيف سار بمحاذاة الفرخة فتخالسا النظرات وراء ظهر السيد الذي تخلى عن عمامته الكبيرة الملتفة حول رأسه، ورماها للبنت تلفها حول وسطها ساترة عورتها، لم تعرف وهي تفك قماش العمامة ثم تنشغل بلفها حول جسدها العاري وتخالس الفتى مفتول العضلات النظرات كم فرح بها حتى أوشك أن يطير”.

    من الواضح أن المتن يسلط الضوء على الفارق الجسدي الواضح بين جسد “كامونقة” (مفتول العضلات) وجسد “اللمون” النحيف الواهن (العاري) المتماهي انزياحياً مع (الفرخة)، بل إن المتن يضع التلقي في مأزق تأويلي آخر حين يعكس على مراياه إنسانية المالك (التيجاني) الذي عفّ عن النظر إلى “اللمون” ليتركها وراءه وليزيح (عمامته) بكامل مسكوتاتها الرمزية ليستر بها عورة “اللمون” التي لم ينجُ جسدها الغض من نظرات “كامونقة” النهمة منتشية الفرحة حد أنه (أوشك أن يطير).

    وتنعطف كاميرا المتخيل الروائي لتضيء عمق الهوة النفسية التي تفصل “اللمون” التي انتهكت طفولتها عن “كامونقة” الذي بقي مولعا بجسدها ومرددا في حكاياته تفاصيل لقائه بها. تأمل مثلا المشهد التالي الذي يرد من خلال وعي “رحمة” الحفيدة الشغوفة بحكايات جدها “كامونقة” عن جدتها “اللمون”:

    “تضحك (رحمة) حين يصف جدها لقاءه الأول بجدتها (اللمون)، تكركر هازئة متأكدة من أنه يهلوس ويتخيل. فمن هي تلك الفتاة الصغيرة النحيلة التي يتحدث عنها ويفوح منها أريج الليمون وتكاد تنكسر لو طوّق رجل خصرها؟ لا تراها في المرأة الطاعنة الماثلة أمامها كومة عظام تعبق بعطن الشيخوخة الحامض، ترتعش وقد انكمش رأسها وتوزعته شعرات قليلة شعثاء، واحتل الأنف الوجه كله حتى وارى العينين الصغيرتين، تتنفس بصعوبة، يغيب عنها الكلام ولو كان عنها، تسمع الحكاية كأنها لا تخصها ولم تكن فيها. ماذا فعل الزمان بها؟ وأين ذهبت (اللمون)؟

    من الواضح أن المتخيل السردي يمنح الحفيدة “رحمة” تأشيرة الدخول إلى طقوس النظام الأبوي لتكون جزءاً منه حين تنفصل نفسياً عن معاناة “اللمون” التي وجدت نفسها في شرك عتمة “كامونقة” (تكركر هازئة متأكدة من أنه يهلوس ويتخيل. فمن هي تلك الفتاة الصغيرة النحيلة التي يتحدث عنها)، بل إن المخيال السردي عاقب “كامونقة” الذي أباحت له غريزته الفحولية أن يحبس “اللمون” في قفص الجسد حين انفصلت “اللمون” عنه نفسيا (يغيب عنها الكلام ولو كان عنها، تسمع الحكاية كأنها لا تخصها ولم تكن فيها).

    يمهر المتخيل السردي في أن يجعل التلقي قبالة معادلة مقلقة مربكة، حين ينجح في أن يتحرر “كامونقة” من عبوديته بعد أن أصبح مقاتلا في الثورة المهدية، وتنجح “اللمون” في أن تكسر عبوديتها من “كامونقة” بأن تبني حاجزا نفسيا صفيقا تموضعه فيه، تأمل المشهد التالي: “لم تهلع (اللمون) لابتعادي عنها، أصبحت امرأتي الصغيرة الضعيفة امرأة قوية ثابتة يعوَّل عليها، منشغلة بحملها وما همّها لو نقلوني إلى مقدمة جيش تسير هي فيه في المؤخرة برفقة الخدم والعائلات”.

    تستبطن الجملة السردية السابقة طبيعة الانسلاخ النفسي بين “اللمون” و”كامونقة” (لم تهلع اللمون لابتعادي عنها.. وما همها لو نقلوني إلى مقدمة جيش). من اللافت أن المتن يعكس تضادا حادا بين شخصية “اللمون” (أصبحت امرأتي الصغيرة الضعيفة امرأة قوية ثابتة يعول عليها) وبين شخصية “كامونقة” الذي بدا رغم تحرره مستلبا لأنه تحول من عبد لمالكه التيجاني إلى عبد لقيادة الثورة المهدية، كما أنه بدا منزوع السلطة الفحولية، رفضته “اللمون” تماما فلم تبالِ به حين كسرت قالب المرأة المستلبة الضعيفة لتغدو قوية رافضة لتبعيتها لـ “كامونقة” وسلطته الذكورية.

    بل إن المتخيل السردي يمعن في تعرية العلاقة المهترئة بين “اللمون” و”كامونقة” في سياقات تنزع عن “كامونقة” صولجان القوة ليغدو جريحا كسيرا: “حُملت إلى مؤخرة عسكرنا لأطبَّب قبل عودتي إلى موقعي، نظفَت (اللمون) جراحي صامتة رغم وهنها، ولم أنبس ببنت شفة”.

    من اللافت أن التحول النفسي الذي عصف بالشخصيتين (اللمون وكامونقة) عكس تناميا حادا في كليهما، فأنت إزاء “اللمون” (الطفلة منتهكة الجسد) وقد تحررت تماما من إسار كامونقة الذي تحرر من عبوديته ورقّه ولكنه أصبح أسير “اللمون” التي آثرت أن تسدل ستار الصمت وتغلق منافذ الحوار معه.ط

    وتصعّد الجملة السردية في المشهد التالي وتيرة الإحساس بالذنب عند “كامونقة”: “أمسكَت عن البكاء بل العويل، فقد عادت إليّ فكرة أني رجل عبد، رجل عبد ميت، خنقتني الأحاسيس، كيف أعتذر للمرأة التي تبعتني كالغنماية وجررتُها إلى جحيمي؟ كيف أشبع جوعها وجوع طفلي القادم”.

    من اللافت أن وعي “كامونقة” الحاد بالفاصل النفسي بينه وبين “اللمون” وصعوبة فتح كوة في جداره الصفيق يتعزز في أكثر من موضع في الرواية. كما يعكس عزوف “اللمون” عنه بشكل لافت إلى آفة النظام الأبوي التي تبرر انتهاك الجسد الأنثوي وسلب طفولته متناسيا المخلفات النفسية العميقة لذلك، زد على ذلك أن اعتراف “كامونقة” بعبوديته يعكس ذروة الهزيمة النفسية (أني رجل عبد… رجل عبد ميت… خنقتني الأحاسيس) وذروة إحساسه بالذنب الذي لم ينجح في أن يكفر عن خطيئته. تأمل مثلا المشهد التالي منعكسا على وعي “كامونقة”: “حرصت على وداع مقتضب خالٍ من الانفعالات الحمقاء، كذلك فعلت زوجتي، لم تعد قادرة على الانفعال وهي تُرفَع على محفة فوق الناقة، نظرتني بعينين غارقتين في محجريهما، كأنها لا تعرفني ولن تنتظرني، ورحلت مع التيجاني”. من الواضح ان المشهد الروائي يسلط الضوء على عمق الهوة النفسية بين “كامونقة” و”اللمون” التي حولتها سلطة الاستعباد الجسدي إلى مستهلكة صموت.

    خلاصة القول، فإن الروائية سميحة خريس في رواية “فستق عبيد” نجحت في أن تصوغ شخصيات مركبة تحركت تحت مظلة أحداث ملتهبة بالرق والعبودية، إلا أنها استطاعت أن تنزع عنها عبوديتها وتتحرر منها في سياقات مختلفة، فـ “كامونقة” الذي وقع في شرك العبودية بسبب لونه استطاع أن يتحرر منها حين أصبح مقاتلا في جيش الثورة المهدية، لكنه كمستهلك لثقافة الاستعباد قد أصبح منتجا لها حين استعبدت غريزته “اللمون” تحت مظلة النظام الأبوي، فانتهك حرمة جسدها وسلبها طفولتها، ولكن في المقابل فإن “اللمون” نجحت في أن تحرر نفسها من تلك العبودية حين انفصلت عنه نفسيا وبنَت بوعيٍ منها فاصلا شاهقا لم ينجح “كامونقة” رغم حكاياته الشيقة في اجتيازه.