رواية ” في حيِّنا بطل” لربى صلاح الدين حب الرمان، هي رواية تستلهم القضاء والقدر وتغير الإنسان في مراحل حياته لدرجة الانحراف الحاد في بعض الأحيان، مع التسليم بأن التعليم في الصغر هو نقش على الحجر بالفعل، فكل المبادئ التي يكتسبها الإنسان صغيراً مهما حاد عنها فهو بالضرورة عائد إليها.
ويأتي عنوان الكتاب الصادر حديثًا عن “الآن ناشرون وموزعون” في الأردن في 110 صفحة من القطع المتوسط، ويضم واحداً وعشرين فصلاً مرقَّمة دون عناوين للفصول.
يحكي الجد “نافع” لحفيده صادق في الفصل الثاني قصة معبرة بعد أن اشترى الحفيد بلبلين وحبسهما في قفص، فتقول ربى صلاح الدين حب الرمان: “كان ياما كان في قديم الزمان، كان هناك عصفور صغير يعيش في أمان مع عائلته. لم يلبث أن يتعلَّم الطيران حتى داهم عشهم السعيد الهادئ رجل عملاق، وقام بخطف الصغير بلا رحمة. وضعه بقفص صغير، حاول الصغير مراراً الطيران والهرب، لكنه في كل مرة كان يصطدم بأسلاكه ويجرح نفسه حتى فقد الأمل تماماً عندما صار جناحاه مشوهين بالكامل، لكن العصفور لم يتوقَّف عن المحاولة، فالتجأ إلى حنجرته، صرخ بأعلى صوته، بألحان التمرُّد والغضب والكآبة، ولكنه في كل مرة كان ينتج فيها لحناً جديداً حصل إمّا على المزيد من الطعام أو نُقل إلى قفص أكبر مع طيور أكثر! لكن ذلك لم يزده إلا تعاسة، حتى اختفى صوته وأغلق عينيه يحلم بالتحليق بين أشجار الزيتون مع أمه وأبيه”.
ويأتي إثر هذا الموقف رد فعل الأب الهجومي على ولده حين ضبط الابن يفتح القفص للبلبلين ليحرِّرهما صائحاً: “تحرِّر العصافير؟ ماذا تحسب نفسك فاعلاً؟ الآن تحرِّر العصافير وغداً فلسطين؟ ها؟ (…) سامح الله من يملأ عقلك بهذه الأحلام، على كل حال، إن قمت بذلك، سأحرمك من المصروف لمدة شهر كامل”. فلم يكن من صادق سوى أن رضخ لمشيئة أبيه صاغراً، ثم هرب إلى غرفة جده، الذي هدأ من روعه قائلاً: ” لا عليك يا حبيبي، لكلٍّ منا جهاد، ما يذكِّرني بالهدية التي اشتريناها لك. هاتِ الهدية يا طالب”.
ومن ثم فقد أحضر طالب «صندوقاً خشبيّاً عتيقاً، لمعت عينا صادق لرؤيته وشعر بتأنيب الضمير لاعتقاده سابقاً أن جدَّه يفضِّل طالب عليه، وأن الهدية كانت له. فتح الصندوق ليجد دفتراً بغلاف سميك مزخرف بألوان الكوفلية والعلم الفلسطيني، وما إن دقَّق النظر في التفاصيل حتى وجد خريطة فلسطين. كان الغلاف تحفة بحق، لم يسبق له أن رأى شيئاً مماثلاً. في الصندوق أيضاً قلم خشبي غريب وأنيق وريشة وعلبة حبر صغيرة، وورقة صغيرة كتب عليها: “لكلٍّ منَّا جهاد ووسيلة، وجهادك قلمك، اكتب”».
صارت الكتابة هي ملجأ صادق حين تضيق به السبل، ووسيلته للتعبير عما يجيش بصدره في السراء والضراء.
وتأتي نصيحة الحاج “نافع” لابنته “أمل” في ختام الفصل الرابع بمثابة حث على السعي مع التسليم بقدر الله في النتائج: “تذكّري دائماً قوله سبحانه وتعالى: ﴿فَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا﴾، خذي بالأسباب ولكن دون تعنُّت وسخط، تأمَّلي وتفكَّري بتدبير ربك، توكَّلي عليه، ادعي بقلب واثق، سلِّمي، ومن ثم اخلقي لنفسك أفضل الفرص من المتاح”.
وفي بداية الفصل التاسع تصف المؤلفة ربى صلاح الدين حب الرمان الحالة النفسية لصادق، الذي يتذبذب بين الشك واليقين، فتقول: “ما إن بدأت الطائرة بالتحليق، حتى تخيَّل صادق همومه كالبيوت التي بدت وكأنها تنكمش شيئاً فشيئاً مع ارتفاع الطائرة، وما إن استقرت فوق الغيوم، حتى شعر بخفَّة في روحه تماماً كما لو أنها كانت غيمة سوداء مثقلة بالمطر، فما لبثت أن أفرغت ما في جعبتها من قطرات حتى سمت وعلت. دبَّ فيه الحماس أول ما حطَّت الطائرة في المطار بعد خمس ساعات في الجو، قضاها ما بين قراءة، وتأمُّل، وكتابة، الأمر الذي هوَّن عليه طول المسافة”.
انظر -عزيزي القارئ- إلى تلك الانفعالات التي اجتاحت “رين” في الفصل الثاني عشر بين إثر استماعها من “إيثار” إلى الآية الكريمة ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ ۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ﴾، فظلت تفكر في حياتها الماضية، تقول ربى صلاح الدين حب الرمان واصفة تلك الانفعالات: “سادت الجلسة لحظات من الصمت، كانت رين تفكِّر في كلام إيثار وفي علاقاتها السابقة قبل طالب. تذكَّرت كم مرة تعرَّضت فيها للاستغلال والتلاعب، وكم مرة كسر قلبها، الأمر الذي كاد أن يدمِّر حياتها لعزوفها عن الدراسة بسبب الاكتئاب لولا لطف الله فيها. تذكَّرت أقسى تجربة مرَّت بها عندما اضطرَّت إلى إزهاق روح بإجهاض جنينها الذي حملت به، والذي رفض الأب أن يعترف به، فلم تملك خياراً آخراً. تذكَّرت أيضاً الصدمة التي أودت بحياة صديقتها عقب اكتشافها صدفة أن الرجل الذي أحبَّت، والتي كادت تتزوَّجه بعد خمس سنوات، شقيقها من علاقة عابرة لأبيها في الماضي، لم تتحمَّل الأمر، فأصيبت بسكتة دماغية وتوفِّيَت في أثناء نومها. علق التشبيه في الآية التي تلتها إيثار في ذهنها وأذهلها، فهي مثال حي لكلِّ ما ينادي به الغرب من حريَّات الأفراد، حقوق الشواذ مثلاً، الحفلات الصاخبة، العري، وغيره الكثير مما لا تحمد عواقبه لا على المجتمع ككل ولا حتى على الأفراد. أسرها ضبط النفس الذي يدعو له الإسلام، والذي يتمتَّع به من يطبِّقونه حقّاً، فهذه اللبنة الأولى من لبنات إعمار الأرض، والذي لا تستقيم أي حياة من دونه”.
وتنتهي الرواية نهاية واقعية مأساوية متكررة، بكلمات على لسان “صادق” الذي أثرت فيه الأحداث فجعلته يلجأ إلى دفتره وقلمه ليكتب: “…
جبانٌ
ولكن قلمي الباسل البارّ أبى إلاّ
أن أكتب على نفسي الذاوية عهداً
بأن صدق الوعد أمرٌ عليَّ محتَّم
صادق الوعد”.
ومن الجدير ذكره أن ربى صلاح الدين حب الرمان هي صيدلانية و معلمة وروائية فلسطينية مواليد الأردن عام 1989. ظهر شغفها بالكتابة باكرا، بعمر التسع سنوات، و نشر لها عدة خواطر في صحيفة الغد في صفحة القراء قبل أن تتم الثامنة عشر من عمرها، و من ثم نشرت أول كتاب شعر باللغة الإنجليزية مع مجموعة من الطلاب الذين جمعهم حب الشعر. اقتصرت كتاباتها لاحقا على عدة مقالات تم نشرها إلكترونيا حتى صدرت لها أول رواية في العام 2018. شغفها بالعلم و الأدب في الوقت ذاته قادها لدراسة الصيدلة و من ثم التخلي عنها لاتباع شغفها الأكبر ألا و هو التعليم و كتابة الروايات الهادفة، فبعد روايتها الأولى “جدل”، صدرت لها رواية “ضجيج أبيض” في العام 2021 عن “الآن ناشرون وموزعون”.