“العرب” اللندنية
قاسم توفيق، روائي وقاص أردني من جذور فلسطينية، نشر العديد من الأعمال الروائية والقصصية بدءًا من مجموعته القصصية الأولى “آن لنا أن نفرح” عام 1977، ليستكمل مشواره الأدبي ذا الطابع المُميز والخاص الذي يُصر على أن يتحرّك من خلاله بحريّة كاملة ودون مراعاة لقواعد رقابية استبدادية.في حديثنا حول روايته الأخيرة “ميرا” الصادرة عن دار “الآن ناشرون وموزعون”، والتي تجري أحداثها في تسعينات القرن الماضي، في مكانين رئيسين هما: مدينة “عمّان”، ومدينة “نوفي ساد” في يوغسلافيا القديمة، حيث قيام الحرب الأهلية التي تدفع أبطال الرواية للهروب إلى الأردن. يقول قاسم توفيق “لا أستبعد أن يكون المكان هو من أقحم نفسه في الرواية، فهو غير قابل للتشابه ولا للثبات، بل هو دائم التحوّل بدءًا من تشكُّله في ذاكرتي مرورًا بتحوُّلاته عند القارئ. أماكن الرواية هي جزء من صنعتها ومقوّماتها مثل الشخوص والأحداث والأزمنة؛ التي تبعثها كلها للوجود الفكرة. وما يشكِّله الكاتب هو المكان الروائي وإن كانت مدلولاته ومسمّياته مشابهة لبقعة ما على الأرض”.
إعلان موقف
يشير توفيق إلى أنه لا يتذكر تحديدًا كيف راودته فكرة رواية “ميرا”، هل صنَعَتْها أزماتنا العربية الدموية الأخيرة، أم هي ذكرى جارة يوغسلافيّة طيّبة عاشت وماتت في الأردن قبل عقود، أم أنّها بُعثت من الغضب الذي يتلبّسه منذ سبع سنوات لما يجري من حولنا دون أن يجعله قادرًا على التقاط أنفاسه، يتابع قائلًا “ما أعرفه أني قد وجدتُ متنفَّسًا لإعلان موقفي من مسألة نفي الآخر، هذه الفكرة المَرَضيّة التي صارت تحتلّ جزءًا مهمًّا من ثقافتنا وسلوكنا وأخلاقيّاتنا”.في ظل تشعّب الفضاءات داخل هذه الرواية وتعدّد المعاني، اختار الكاتب اسم بطلة العمل “ميرا” ليكون عنوانًا للرواية وهنا يقول الكاتب “اسم ميرا في جميع اللغات التي تستعمله يحمل معنىً جميلًا، فهو في لغتنا العربية يعني الرائعة، وفي اللغة السلافية يعني السلام، وفي لغتي يعني الجارة الطيبة. المسألة ليست في دلالة الاسم، بل في مضمون الفكرة التي أردتُ كتابتها منذ بدأتُ أرسم خطوط الرواية في عقلي”.ويضيف “يجب أن أذكر بأني ومنذ اللحظة الأولى التي أجلس فيها أمام اللابتوب، وأبتدئ في الكتابة، يكون أول ما أكتبه هو عنوان الرواية. لم يحدث أن بدَّلت أيا من عناوين رواياتي كلها التي أبتدئ فيها الكتابة؛ باستثناء رواية ‘نزف الطائر الصغير‘. كل ما في الأمر أنّني أكون عالِمًا إلى أيّ أراضٍ وأحداث وأفكار أنا ماضٍ. لقد كنتُ عالِمًا بما ستكون عليه رواية ميرا وأين ستلقي بمراسيها، فجاءت شخصية ميرا لتضع لبنة في بنية السرد. العنوان جزء متداخل جدليًّا في اكتمال صورة الرواية، لم أكن أريد له أن ينزلق في سذاجة الكتابة الرومانسية التي تتكئ على المسمّيات لتوصيل الفكرة”.يؤمن الكاتب الأردني بأن على الكتابة الأدبية أن تتجاوز التابوهات دائمًا. يقول “إنَّ فتح المجال لخلق تابوهات هو إعلان استبدادي وقمعي لإغلاق باب التفكير، وحكم لا يصدر عن المجتمعات أو الثقافات، بل يصدر عن القوى المتحكِّمة، وهذا بطبيعة الحال نفي لأبسط قواعد التفكير. إنَّ الحظْر والمنْع لعنة قديمة وليست وليدة مرحلة، ولا هي عربية بامتياز، بل هي نتاج الرغبة في التسلّط والسطو على الآخر منذ بدء البشرية. فالتابوهات هي صناعة الحكومات ورأس المال لكي تدجّن الناس وتفرض عليهم الرضوخ، وهي قابلة للتحوُّل دائمًا وبحسب ما تصنعه الظروف، وبمشيئة الأنظمة”.ويضيف “إنْ كان اسم مدينتي عمّان واحدًا من التابوهات، وحُظر استعماله في الفنون والآداب في وقتٍ ما؛ فلن يكون غريبًا أن تصير الكتابة عن الحب تابوهًا. لقد تم تطوير مفهوم المحظور واستعماله لغويًا لإعطائه صفة القداسة بإطلاق صفة ‘التابو‘ عليه، والتابو قدسيّة بشريّة شموليّة بدائيّة كونها نتاج مجتمعات ما قبل الأديان، وهي مرتبطة بـِ‘الطوطم‘ والأرواح الشريرة التي تُبعث عند محاولة الإنسان تجاوزها، لذلك لا أفترض أنه يجب أن يستمر استخدامها في هذا العصر، ولا أن يكون هناك تابوهات يجب تحطيمها، إنَّ المطلوب هو فتح سقف الحرية ليطاول السماء. فمثلًا: كيف تكون الكتابة في الجنس واحدة من التابوهات في عصر الموبايل والنت والفضائيات؟”.
الصراخ والهمس
ما بين عمله الأول في السبعينات من القرن الماضي وعمله الأخير هذا العام، يرى توفيق أنه باستثناء التطوُّر الطبيعي في وعيه وثقافته ولغته لا شيء جديد قد طرأ. الرّاهن العربيّ ليس مستحدثًا، بل هو في صيرورة ثابثة منذ عقود، هذه الحياة قد وَقَفَت في نقطة لا يمكن التَّزحزح عنها. يمكن القول -مع هذا الواقع الثابث- إنَّ شيئًا لم يتبدَّل سوى في تطوير أدواتي ونهجي في محاكاة هذه الحالة من الجمود في محاولة لتحريك الراكد وإنطاق الساكت، وإن كان ضمن عالم صغير محدود هو الرواية التي يكتبها. قائلا “لقد أصبح صوتي أكثر جهورية، لم أعد أكتفي بالكلام، لذلك صرتُ أصرخ”.ويستطرد توفيق “لقد كلّفني هذا القرار الكثير من المنع والرفض وعدم القبول، ليس من قبل الرجعيين فحسب، بل من قبل من يدّعون التقدميّة. هذا النهج ليس جديدًا ولا طارئًا على كتاباتي، فلقد مُنعت روايتي ‘أرض أكثر جمالًا‘ في ثمانينات القرن الماضي، ومُنعت روايتي ‘رائحة اللوز المرّ‘ في العام 2012 للأسباب نفسها، فقد تركتُ وظيفتي وتفرَّغت للكتابة من أجل هدف واحد؛ وهو إنجاز مشروع روائي يكون محوره كُنه هذا الوجود، هذا المحور يحتاج -لتحقيق جزء منه- التنوُّع والتوحد، لذلك فإنَّ أعمالي التي أصدرتها إلى الآن تنضوي تحت مظلة الوجود، لكن كل عمل منها لا يشبه إلا ذاته”.إن كنّا نتعامل مع الوجود البشري على أنه حقيقة، فإنّ كل ما ينتج عنه من علم وأدب وحضارة هو واقعي بالضرورةويتابع “تتعرّض رواياتي الست الأخيرة، والتي صدرت خلال الأعوام الثمانية الأخيرة، للحب والبلطجة والجنس والحرب والبحث عن الذات، كل رواية منها لها عوالمها وكياناتها وشخوصها الغريبة عن الأخرى، لكنها جميعها واحدة؛ البحث في كنه وماهيّة الوجود”.يشتغل توفيق في أعماله على معالجة قضايا واقعية، وهو يرى أن الواقعيّة الآن في نهاية العام 2018 هي كل المدارس الأدبية التي مرّت عبر التاريخ. هي التشكيل الذي تخرُج من تحت عباءته كل المناهج الفكرية والفلسفية والإبداعية. إن كنّا نتعامل مع الوجود على أنه حقيقة، فإنّ كل ما ينتج عنه من علم وأدب وحضارة؛ واقعيّ.يرى الكاتب في الرواية مساحة واسعة للصدى؛ يقول “عندما أكتب الرواية فإنَّني أصرخ، وعندما أكتب القصة القصيرة أهمس، عندما تعيش في مجتمع قمعي وكاتم للصوت يحاصركَ من كل الجهات ويسعى بتصميم إلى إخراسك، لن تكتفي بالصمت أو بالهمس أو حتى بالكلام، لا بدّ لشدّة قهرك من الصراخ”.ويختتم قاسم توفيق حديثه قائلًا “يمكن القول إنَّني دائم الانشغال بعمل جديد. الآليّة التي أتعامل بها مع كل عمل لي هي: ما إن انتهي من كتابته فإنّي أغلق الملفّ، وأهجره دون أن أحاول مراجعته أو الالتفات إليه. من الممكن أن يطول هذا الهجر لسنة أو أكثر أو أقل، بحسب غيابه عن ذاكرتي”.