هاني علي الهندي
من سوء حظي أنني لم أقرأ للروائي والقاص إبراهيم غبيش قبل مجموعته القصصية (أيوب في حيرته)، ربما تقصير مني، ولكن كما يبدو فإن غبيش لا يحب الأضواء والترويج لنفسه كما يفعل بعض الكتاب؛ لأنه يؤمن أن الإبداع الحقيقي يروج نفسه بنفسه، ولم يلتفت النقاد لما يكتب، فكلنا نعرف أن النقد عندنا يقوم على المجاملات والعلاقات الشخصية، وكما ذكر الدكتور محمد عبيد الله فإن كتاباته لم تروّج لها الصحافة الثقافية التي تقوم أكثر ما تقوم على جهد الكاتب والمؤلّف نفسه.
عند قراءتي الأولية لمجموعة (أيوب في حيرته) انتابتني الحيرة والدهشة، الحيرة فيما سأكتب عن المجموعة، عن التقنيات الفنية أم عن البناء المعماري أم عن المضامين..؟ أما الدهشة فكانت في الأسلوب واللغة الشفيفة البسيطة المشحونة بحرارة العاطفة.
أيوب، عفوا إبراهيم غبيش طبيب اشتغل في الأدب كبقية الأطباء الأدباء، ولنقل الأدباء الأطباء؛ مثل أنطون تشيخوف صاحب مقولة «الطب زوجتي والأدب عشيقتي» ويوسف إدريس وعبد السلام العجيلي وغيرهم، تميزوا بإنتاج أدبي رفيع المستوى، استفادوا من تجربتهم الحياتية العملية والسياسية والأدبية.
فقد أثرى غبيش نصوصه القصصية بتجارب من حياته العملية في مجال الطب، فكتب مجموعة من القصص بشخوص مرضى وأطباء مثل قصة: (قائمة خليل وعودة ومرور السيدة ودكتور كشكول وعنبر الأطفال.. وغيرها)، امتازت هذه القصص بتشخيص الحالة المرضية دون الإخلال بالعناصر الفنية للقص. ومن ذلك ما ورد على لسان الراوي في قصة قائمة خليل:
ـ «السكري يأكل جسدك، عينيك لا تساعدك كثيرا على الإبصار، عجز جنسي، وآلام أطرافك لا تحتمل». ص14
كما تناول في قصصه تجربته السياسية في الحزب الشيوعي، ومعاناة المناضل السياسي اليساري بشكل عام، ومنها قصة (شيوعي هارب ص67) و(فني طباعة ص75) ولعل قصة (أخذت علما، ص21) تجسد هذه المعاناة، عندما لا يجد هذا المناضل له مكانا حتى في وطنه: «في أحد المطارات قال له الضابط: الدولة التي قدمت منها لا تريدك أن تعود إليها.
.. تابع الضابط ببطء، والدولة التي أصدرت وثيقة سفرك لا تريدك».
وظلت المأساة الفلسطينية ترافق نصوصه، يحمل في وجدانه صورة الخيام والمخيم مكان سكن لا مكان إقامة، ويحلم بالعودة: «النزيل 44 ناصر الدين يهذي، يريد حقيبته، يقول إنه سيعود للوطن.
أمسك بيد السيدة الكاريبيَّة.
أين الحقيبة؟
هاتفي أخي برهم، سيأخذني إلى المخيم، بيت المخيم. (عودة، ص18)»
كما كشفت المجموعة عن قدرة القاص على التعامل مع التقنيات الفنية للقص بفنية عالية، أظهرت براعته في توظيفها بشكل يجعل من سرده نكهة خاصة، وسأكتفي بالإشارة إلى تقنيتين لضيق الوقت:
1ـ الشخصيات: اختار القاص شخوصه من الطبقة المسحوقة، المطاردة، المشردة، التي لا تجد قوت يومها، تعيش في المنافي والمخيمات، من هذه الشخصيات؛ سلمان بائع الأقمشة متجول، غجر سعداء، أيوب بائع البليلة، أجير في محل بقالة، هذه الشخصيات المقهورة تعيش واقعها المأزوم أرخت حزنها على كامل المجموعة، وهي بالضرورة تعكس الحالة النفسية للقاص.
2ـ التناص:
من أبرز السمات الفنية المرتبطة بالقصة القصيرة عند (جوليا كريستيفا) تقنية التناص، التي يقوم بها المبدع لتخصيب نصه لإثارة المتلقي وفتح دلالات على نصوص أخرى لتأكيد وتوضيح وخدمة فكرته، على ألا يكون استعراضٌ لثقافة القاص، فقد خصب إسماعيل نصوصه القصصية بهذه التقنية في أكثر من نص قصصي.
فمن النظرة الأولى لعنوان المجموعة (أيوب في حيرته)، تحيلنا مباشرة إلى قصة النبي أيوب في محنته، ولعله أراد أن يشير إلى معاناة الفلسطيني المشرد في دروب الغربة.
ويتجلى التناص الديني من القرآن الكريم في قصة (رقم) حيث ربط حالة الغياب بينه وبين ابن يعقوب التي أدت إلى العمى من كثرة البكاء بعد غياب أكثر فيقول: «وقفتُ أمامها في باحة المخيم. أحسَّت هي بحركة: من هناك؟
وأدركتُ أنها لا ترى. لا قميص أرميه على وجهها لتسترد النظر». ص5
يحيلنا إلى قصة يوسف في النص القرآني «اذهبوا بقميصي هذا فالقوه على وجه أبي يأت بصيرا» [سورة يوسف: 93] لكن قميص القاص لن يعيد للأم بصرها الذي فقدته بفعل الغياب. وفي قصة حمود ص114 يقول: «زمن آخر أتى، وأتيت أنا من زمن قديم إلى زمن المستقبل.. سرت بين الأماكن، الناس، شعرت بغربتي، غربة عميقة، حدثت حروب كثيرة، حركات، موت وموت. يبدو أني كأهل الكهف». بمجرد سماعك أهل الكهف تستحضر حكايتهم. والفترة الزمنية التي مكثوا فيها داخل الغار حتى إذا خرجوا وجوا أن الزمان غير الزمان.
وفي وصف معاناة الفلسطيني أينما كان حتى في يوم الحشر قال في قصة (أبو رجب): «حلمت أنني بين الجنة والنار، بشر كثيرون يوم الحشر، تقدمت ببطء، لكن جعلوني أنتظر، ذهب بشر إلى الجنة وآخرون إلى النار، تقدمت وتمتمت: لم أفعل شرا في حياتي! لكني وجدت نفسي في مخيمات، نعم مخيمات كالتي نعيش فيها. بين الجنة والنار». ص120، تحيلنا إلى الآية «يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا ونسوق المجرمين إلى جهنم وردا» (سورة مريم: 85 ـ 86)
ومن الواضح في نصوص غبيش أنه لا يقحم الموروث الشعبي وبالتحديد الأغنية الشعبية على نصه القصصي، وإنما جاءت بعفوية خالصة مندمجة مع بنية القصة، وتخدم الفكرة، فقد ستدعي أغنية (يا زريف الطول) لنصها الحرفي دون تبديل أو تغير
«يا ظريف الطول وقف تقولك.. رايح ع الغربه بلادك أحسن لك
خايف يا ظريف تـــــــروح وتتملك.. وتعاشــــــر الغير وتنساني أنا» ص63
لكشف الحالة النفسية التي يعانيها ظريف/ الفلسطيني في رحلة الشقاء إلى هندوراس وغيرها من بلاد الغربة.
كما استدعى بعض النصوص من الأدب العربي مطلع قصيدة الجواهري التي يقول فيها: «لم يبق عندي ما يبتزّه الألم» للتعبير عن حجم الوجع والمعاناة الناتج عن كثرة المصائب التي تذوقها حتى أصبح لا يبالي بما يصيبه منها في قصة تاجر خردة ص79
وفي قصة موسى اليوسفي أثناء حواره مع الممرضة تسأله: لماذا لم يزرك أحد؟
ـ لي أخت، توفيت بعد زوجها، لم ينجبا.
ـ آسفة، لم تتزوج؟
ابتسامة شفيفة: هذا ما جناه أبي علىَّ وما جنيت على أحد. ص 34، فقد كشف التناص مع مقطوعة شعرية لأبي العلاء المعري عن عدم رغبة الراوي بالزواج حتى لا يظلم أولاده من بعده، كم ظُلم هو في حياته.
كما ضمن بعض قصصه بأغان حديثة لام كلثوم « الأمل لولاه عليَّا.. كنت في حبك ضحيَّه» وأغنية «ودّع هواك» لعبد المطلب ص 70، و»أنا من ضيع بالأوهام عمره»
بقي الكثير.. المفارقة، الحوار، الجملة القصيرة، البدايات والنهايات، السرد، الوصف المقتضب، التكرار، وغيرها، عناوين تستحق الدراسة في تجربة إبراهيم غبيش.
ملاحظات لا بد منها:
* جمع القاص في مجموعته خمسين قصة ما بين القصة القصيرة والقصة القصيرة جدا، تمنيت لو تم الفصل بينهما، إلا إذا كان القاص لا يؤمن أن القصة القصيرة جدا جنس أدبي لا يمكن الفصل بينه وبين القصة القصيرة.
* يُعتبر عنوان الغلاف من أهم العناصر النصيّة التي تستدعي المتلقي إلى نار النصوص الداخليّة، وهو عتبةٌ أساسيّةٌ محفّزةٌ لاقتحامهِ والولوجِ فيه للكشف عما في داخل المجموعة وما لفت انتباهي في غلاف أن القاص وضع اسمه قبل عنوان المجموعة وبمحاذاته بخط أصغر من خط العنوان، وكأني به يريد أن يقول: د. إبراهيم غبيش أيوب في حيرته.
* ضمت المجموعة قصصا وحكايات واقعية تطرح قضايا اجتماعية مشرّبةً بالوجع والهم الذاتي والعام، التقطها القاص من الشارع العام، فحولها من الحدث العادي إلى سرد قصصي وإن كان بعضها لا يخلو من الرمزية.
* المجموعة تستحق القراءة والدراسة، وتحتاج إلى مزيد من القراءات؛ لأنها محملة بإيحاءات ودلالات تستحق الدراسة.