قراءة في رواية “أحلام مبعثرة بين عمّان ويافا” لرولا عصفور

قراءة في رواية “أحلام مبعثرة بين عمّان ويافا” لرولا عصفور


class="inline-block portfolio-desc">portfolio

text

    هازار محمد الدبايبة

    ظلَّتْ الروايةُ العربيةُ -منذ وقتٍ طويل- وفيَّةً للاتجاه الواقعي؛ نتيجة الصراعات الفكرية والاجتماعية والسياسية التي تحكمُ الكاتبَ العربي، وتَضَعُهُ في حيِّزِ المحاولةِ الدائمة للدفاعِ عن مواقفه وبلورتها، لا سيما أنَّ هذه الصراعات لا تجدُ حلولًا منصِفة، وتتأزمُ مع مرورِ الوقت.

      “أحلام مبعثرة بين عمّان ويافا” هي رواية واقعية، صدرتْ عام ٢٠١٦، عن دار “أزمنة للنشر والتوزيع.
    العنوان يحملُ الفضاءاتِ الكُليَّةَ التي تقومُ عليها أحداثُ الرواية، ويجهِّزُنا لها قبل الدخولِ إلى بنائها، كما يفتحُ بابَ التساؤلاتِ عن ماهيةِ هذه الأحلام، وأسبابِ بعثرتِها وعدم وقوفها على أرضٍ ثابتة، فهل هي أسباب أيديولوجية سياسية، أم أسباب ذاتية تحكُمُها الصراعاتُ النفسية.

      تحكي الرواية قصة (رؤى) البنت الوحيدة لأمِّها وأبيها، وما تواجهه من تحدياتٍ بعد مرضِ والدتها الذي يجبرُهما على السفر من أجل علاجها، ولقائها بقيس: شاب يهودي، يختلف عنها في كلِّ شيء: في المعتقد، والانتماء، والفكر، والبيئة.. وانجرافُ مشاعرِها نحوَه -بالتزامن مع تأزُّمِ حالة أمِّها الصحية- يُمَثِّلُ الذروةَ في القصة، والذي يضعُ الكثيرين أمام صدمةِ إمكانيةِ هذه العلاقة التي لا تتوافقُ مع اعتباراتِ المجتمع، فالبطلة تعيشُ صراعًا بين أحلامِها التي تحاولُ الانعتاقَ من الأُطرِ الجغرافية والفكرية، والخوض في تجربةٍ جديدةٍ للحب بغض النظر عن اختلاف الانتماءات، وبين مبادئها التي تُجبرُها على التراجعِ والتسمُّرِ في مكانِها.

      تحكمُ الروايةَ رؤيةٌ سردية من الخلف؛ فالراوي الغائب يعرفُ كلَّ شيء، ويدرسُ دواخلَ الشخصيات، وعوالمَها النفسية، وصراعاتها الجُوانية، وتجري الأحداث بإيقاعٍ هادئ، وفي تسلسلٍ دراميٍّ تقليدي؛ فالبداية تُمهِّدُ للأحداث وتُعرِّفُ بالشخصيات، وتركِّزُ على شخصية “رؤى” كونها بطلة العمل، فتعالجُ هذه الشخصية من أبعادها الثلاثة: (الجسمانية، والاجتماعية، والنفسية) فرؤى فتاة شرقية الملامح، ذات بشرة سمراء، وعيون غجرية، درستْ في كليةِ الأعمال في إحدى الجامعات الحكومية، وتوظَّفتْ في أحد البنوك المشهورة، تمتلكُ شخصيةً مستقلة تختلفُ معاييرُها عن معاييرِ المجتمع، كتومة، ذات طبع حاد.. ويُلاحَظ أنَّ الكاتبةَ تهتمُّ بالبعدِ النفسي أكثر من غيره كونه ركيزة أساسية تستندُ عليها أحداث الرواية، وتتصاعدُ الأحداثُ لتصلَ إلى ذروتها المتمثِّلة بمرض الأم، ولقاء الحبيب المستحيل كما عبَّرتْ عنه رؤى: “هل يمكن أنْ ألتقيَ بمَن انتظرته طويلًا ليكونَ مستحيلًا”، ثم تبدأ الأحداث بالهبوط لتصل إلى الانفراجة والحل المتمثِّل بموت الأم، وسفر قيس، وتُوازِنُ الكاتبة بين الحكي والعرض، أي بين كلام السارد وكلام الشخصيات، مما يصرفُ القارئَ عن حالةِ المللِ التي قد يعانيها في ظلِّ كثافة السرد على حساب الحوار.

      تتعدَّدُ الأصواتُ داخلَ الرواية على اختلاف معتقداتها ومرجعياتها، وتمنحُ الكاتبةُ الشخصياتِ مِساحتها دون أنْ تفرضَ عليها مواقِفَها الأيديولوجية وأحكامَها المسبقة؛ فالسارد كان يُعلِّقُ على الأحداث، ويصفُ مشاعرَ وهواجسَ الشخصيات دون أنْ يتبنى موقفًا معيَّنًا، أو يحاولَ الدفاعَ عن وجهةِ نظر.

      كان اختيارُ الكاتبةِ لاسم (رؤى) دقيقًا جدًّا؛ فرؤى هي الشخصية المحورية في العمل، والتي تُمثِّل رؤى الشباب العربي وتطلعاتهم وأحلامهم، وكيف تصطدمُ هذه الرؤى مع الواقعِ المُعاش، أما (كنعان) -وهو زميل رؤى- فيُمثِّل صوت القضية الذي لا يخفت؛ فهو دائم الدفاع عن حقِّ كلِّ فلسطيني بالعودة إلى أرضِ الأجداد، ويرى أنَّه حقٌّ غير مشروط.

      تناقشُ الروايةُ الكثيرَ من القضايا الاجتماعية المعاصرة: غلاء المعيشة، الرسوم الجامعية المرتفعة، إقبال الشباب على السفر لتأمين متطلباتهم، نظرة المجتمع للأنثى وإحساسه الدائم بأنَّها ناقصة ما لم يُكمِّلْها رجل… كما تناقشُ بعضَ الأفكار الجريئة بشجاعة دون أنْ تتكبدَ عناءَ التلميحِ لها، وتبرزُ القضيةُ الفلسطينية كمحورٍ أساسي تتبناهُ الرواية؛ من خلال الحديث عن صعوبة السفر إلى الأراضي الفلسطينية، الإجراءات المكثفة التي يتخذُها الاحتلال للموافقة على إدخالِ أصحاب الأرض إلى أرضِهم، التضحية التي برزتْ في موقف الأم الرافض لفكرة نقلِ دمٍ إسرائيلي إلى جسدِها -في حالتها الصحية الحرجة- وتفضيلها الموت على ذلك… وقد جعلتْ الكاتبة في رفضِ الأم، واحترام الأب لهذا الرفض حين قال: “اختارتْ الموتَ بكبرياء، لن أسامحَ نفسي إذا عاشتْ وهي تحتقرُ ذاتها” جوابًا واضحًا عن تساؤلات رؤى حول رأي العائلة بعلاقةٍ تجمعُ ابنتهما بشاب يعملُ في السفارةِ الإسرائيلية.

      فيما يخصُّ اللغة فقد بدأتْ الكاتبةُ كلَّ فصلٍ من فصول روايتِها بومضةٍ تحكُمُها لغةٌ شعريةٌ إيحائية، تنعتقُ منها داخل العمل إلى لغةٍ سلسلة واضحة، ذات جمل متوسطة مفعمة بالتفاصيلِ التي تُغني المشهد، بالإضافة إلى بعضِ الإضاءاتِ الدينيةِ هنا وهناك: “حب أسمى مِن أنْ يشكِّكَ فيه الملحدون”، “شعرتْ برغبةٍ في السجود لتُعانقَ أرضَ وطنها”… وتبرزُ بعضُ التعابيرِ التي تُلمِّحُ لمعانٍ أعمق مِن تلك التي يُصرِّحُ بها النص، كما في قول رؤى وهي في “تل أبيب” تنظر لفتاة مع كلبها الصغير: “يبدو أنَّه يُسمَحُ للكلاب بالإقامةِ هنا”.

      كما لم تنسَ الكاتبة تسليطَ الضوءِ على الوحدة الوطنية، بتعابيرَ تؤيِّدُ التلاحم الأردني الفلسطيني: “أنا أردنيةُ القلب بروحٍ فلسطينية”، “محل الإقامة المؤقت للثنائي القادم من بلده إلى بلده”، “أحضرتُ من بحر يافا الذي عاش في وجدانِك؛ ليكونَ شاهدًا على قرار تضحيتك بروحك النقية غير الملوثة ما يليقُ بعشقك للأردن الذي يحتضن جسدك كأبٍ حنون”.
    وفي النهاية نرى بطلة العمل (رؤى) تجلس على شاطئ البحرِ الميت وتنظرُ إلى فلسطين، لتغلِقَ أخيرًا بابَ التساؤلاتِ بقولها: “رحيلُ قيس بعثرَ الألم، ونثره بين عمّان ويافا”