قراءة في رواية «العربة الرمادية» لبشرى أبو شرار

قراءة في رواية «العربة الرمادية» لبشرى أبو شرار


class="inline-block portfolio-desc">portfolio

text

    فاطمة نصير 

    هل للسرد أن يقوم بمعزل عن ما تختزنه الذاكرة؟!،هذا سؤال يعلو صوته بين أسطر وصفحات رواية «العربة الرمادية» من أولها إلى آخرها،فالساردة منذ بدء الرواية ألمحت بأنّ ما تسرده هو اغتراف من مخزون الذاكرة وإشارة ذلك في صدارة الرواية حيث تـقول: « كان ذلك المساء علامة فارقة، لمرة أخيرة أقود فيها سيارتي الرمادية، يوماً يشبه ما سبقه من أيّام…» ، مُباشرةُ فعل السرد باستذكار وقرينة ذلك» كان» التي هي فعل ماض ناقص، يدلّ على تعويل السّاردة من البداية على الذاكرة وتداعياتها، وإعلان موارب وغير صريح بأنّ الأحداث والشخصيات والأسئلة والهموم التي تحملها الرواية مختزنة مسبقاً في الذاكرة .
    تخوض الكاتبة الفلسطينية «بشرى أبو شرار» في رواية «العربة الرمادية» في هموم المرأة الكاتبة وتفاصيلها، وهي تقترب بذلك من خط الذاتية، بعد أن كانت في رواياتها وقصصها السابقة أقرب للكتابة عن أسئلة مشتركة ذات صفة إنسانية، ويمكن للقارئ العودة إلى عوالمها السردية وملاحظة ذلك عن كثب، إذ تطفو على سطح سردياتها هموم الفلسطيني والقضية الفلسطينية وكثير مما تعلّق بها كلاجئة ضمن مجموعة كبيرة من اللاجئين الفلسطينيين المنتشرين في المنافي والشتات، وقد كانت بسردياتها المتتابعة تثبت في كلّ مرّة أن الأمكنة تسكنها وإن لم تتواجد فيها، فالمكان محفور في الذاكرة ومنه تتداعى سردياتها، ومن منابع الذاكرة المتدفقة تسيل مياه الحنين.
    روايات عديدة في رصيد الكاتبة « بشرى أبوشرار»، منها ( شهب من وادي رم ،دورا، من هناوهناك…وغيرها)، كلّ رواياتها يحضر الوطن تيمة لا مناص منها، بل منه وفيه ولأجله تنسج خيوطها المطرّزة بناستالولجيا مهيمنة على خطاب الساردة في كل مرّة .
    في رواية «العربة الرمادية» يصعب الفصل بين السارد والكاتب تداخل كبير بين الوظيفتين، ثمة التصاق حدّ التماهي يحيل القاريء إلى وضع النّص بالمجمل في خانة»الرواية السيرية»، فما ورد فيه ليس مجرّد فصول سردية تخيلية، بل هي فصول من حياة امرأة عربية،فصول كاملة بشتائها البارد الذي يحرّض على الحنين لكلّ ما فُقد أو غاب، وخريف مليء بالأغصان الجافّة والأوراق الصفراء اليابسة،وصيف تتكاثف فيه ساعات الخيبة ويتمدّد فيه الحزن داخل النّفس،وربيع تذبل أزهاره في كلّ مرّة بتتابع النكسات العربية والخيبات الذاتية.
    المطّلع على تجربة الكاتبة «بشرى أبو شرار»، يلحظ ثمّة اختلاف في منطلقات الكتابة وتشكّل التجربة السائرة في درب مغاير منذ البدء، فهي لم تبدأ تجربتها في الكتابة السردية بالبوح وسرد خلجات النّفس كما الكثير من الكتّاب لا سيما الكاتبات،فبشرى أبو شرار انطلقت من كتابة العوالم الخارجية في كلّ أعمالها الأخرى أما الذات فتظهر طيفاً باهت اللّون في منعرجات الحكي، إذ غلب على كتاباتها الانشغال بالقضية الفلسطينية بصفتها الركيزة الأولى الواقعية والتخييلية في رواياتها .
    لكن مع»العربة الرمادية» تعود الكاتبة إلى الذّات وهمومها وأسئلتها وقلقها، الذات الأنثوية المثقلة بالآمال والأحلام والانكسارات والخفقات،تعود الكاتبة إلى ذاتها، تسرد لقارئها مآزق متعدّدة وتروي تفاصيل كثيرة ملقاة في أجندة أُمّ مسؤولة عن بيت وأولاد تحاول التنسيق بين متطلبات أبناء متطلبين وزوج غير مبال ومُنشغل بكلّ شيء عدا أسرته التي تستحق مساحة من وقته واهتماماته، والقراءة الكتابة وتبعاتها من جهة أخرى كتلك الندوات التي كانت تحرص على حضورها تقول:» في مرات كثيرة وحين تدقّ الساعة في يوم الاثنين تعلن عن بدء موعد الندوة بتوافد الأبناء للبيت، والجميع يطالبني بالتزامات لا يتّسع لها الوقت المتزامن مع وقت النّدوة، أحدّث نفسي في نزق:(كلّما جاء موعد هذه النّدوة تتوالى المهمّات مابين استقبال الضيوف، تحضير الوجبات، أزمات تصيب أحد الأبناء، وكأنّ هناك من يطارد مواقيت أحبّها …)» .
    الحنين الجارف في رواية «العربة الرمادية» أضفى على كل ما هو عتيق وكلّ ما هو قديم هالة من الجمالية التي لم يتمكّن الزّمن بمخالبه الحادّة من تشويهها، إذ تحنّ الساردة لأشياء مضت ولأمكنة غادرتها وأزمنة انقضت، ولعلّى ذلك يضيء جانباً من جوانب العنوان،فالعربة الرمادية ليست تلك السيارة التي تحنّ إليها فحسب بل هي كل قديم ظلّ راسخاً في الذاكرة، «العربة الرمادية» هي كلّ ذكرى عتيقة تجرفها رياح الحنين فيندلق عطرها في أرجاء النّفس، وقد يكون اختيار العربة تحديدا دون غيرها من الأشياء إحالة إلى الزمن المتسارع كعجلة العربات والسيارات، أمّا اللون الرمادي فهو إشارة لاضمحلال لون الذكريات والأشياء بفعل الزّمن وصروفه.
    الحنين الذي يتدفّق من جيوب الذاكرة يحضر بقوّة في الرواية، حنين للأمكنة، حنين للأشخاص، حنين للأشياء وغير ذلك مما تختزنه الذّاكرة أو تختزن أجزاء منه أو مما يهطل بفعل محرّض خارجي،الحنين كان يحاصر الساردة/ الكاتبة ويأتي على حين غرّة من نماذج الحنين للأشخاص ما جاء في سياق استحضار ذكرى والدتها، تقول :» حين فتحت جهاز الحاسوب وجدت رسالة تذكّرني بتاريخ وفاة أمي، انتفض قلبي، غامت روحي، وكأنّي أقرأ شهادة وفاة مرسلة الآن..أغلقت شاشة الحاسوب، أحوم في الدار ، أبحث عن مرآة قلبي من روح أمي، تيقّنت أنني هي، تجلّت صورتها في كياني،يوم استقبلت ابنتها العائدة من سفر طويل ورأت على ملامح وجهها تعب الرحلة قالت: عدت وعادت البهجة إلينا من جديد …لم تكن أنا، بل كانت أمي السّاكنة في قلبي تظهر حيناً وتغيب كثيراً …كلّما ظهر الإنسان في داخلي تكون هي ولا أحد سواها …» .
    أمّا عن سرديات الحنين للأشياء فقد حضرت بقوّة وسطوع لا يقلّ عن ما هو عليه الحنين المتعلّق بالشخوص، فذاكرة الساردة تحتفظ بالأشياء كما الأشخاص تماما، ثمّة التصاق بما هو ممتلك وبما هو محبّب للذات تأبى الذاكرة نكرانه أو نسيانه أو حتى إسقاطه، وإن كان يبدو ليس على قدر من الأهمية بمكان بالنسبة للكثيرين ممن حولها، على سبيل المثال حقيبة يد قديمة «هي حقيبة يدي التي كلّما نظرت في كلّ مرة أطلقها من سجن قبضتي، أجدها الأكثر بهاءً ونقاءً، وسيور ذهبية،منديل ذهبي وقد عقدت أطرافه على مقبضها، حقيبة يدي هي الهدية الأولى من ابنتي،لها جيوب عميقة، ومساحات منظّمة، ما إن أفتحها حتى تظهر لي حاجياتي بوضوح، ألتقط منها ما أنشده وأترك ما لا أرغب فيه، حقيبة هي الهديّة الأجمل من ابنتي، وأنا التي يندر أن تجذبها حقيبة يد ترتاح في التعامل معها فكم حزن قلبي لحقائب لازمتني فترات طويلة، ورحلت عنّي لأنّها تهالكت …» .
    رواية « العربة الرمادية» للكاتبة الفلسطينية بشرى أبو شرار، رواية المرأة وهمومها، رواية الذاكرة وتداعياتها، رواية التفاصيل الأنثوية، رواية الناستولوجيا الجارفة التي تحاصر الذات لا سيما الذات الكاتبة التي يسكنها السؤال المستديم والقلق المتجدّد.
    يمكن اعتبار هذه الرواية نقلة عكسية في كتابات «بشرى أبو شرار»، فهي تعود للذات بعد أن أسّست وأثّثت سردياتها السابقة من عوالم خارجية وهموم وأسئلة تمسّ شريحة أكبر، وبهذا فهي تسير في خط عكسي تماما، هذا الخط منحها فرصة التوغّل في أعماق الذات والتفتيش في الذاكرة التي ما أن طرقتها حتّى تفتّحت أبوابها المغلقة وانهمرت مياه الحنين حاملة معها صورا كثيرة من جزر متاخمة للحاضر هي صور من ماض مضى بشخوصه اللاّمعة وأشيائه التي أضفى عليها الزّمن هالة من الجمال حتى وهي عتيقة محنّطة في أدراج الذاكرة، أفليس الإنسان هو ذلك الذي ينكر زمنه ويضجّ بكلّ ما حدث ويحدث فيه، وإذا ما مضى وانطوت صفحاته وصار ذكرى بعيدة وصفه بالزّمن الجميل ؟!!.

    * ناقدة من الجزائر