“عطالله جبر”
تعتمد معالجتي للرواية أسلوبَ القراءة الذاتيّة أو قراءة التقبُّل التي تستثمرُ النصّ مَتْنًا قابلًا للاستقراء والانفعال، بمعنى أنّني سأحاول إضاءةَ النصّ مِن داخله دونَ أنْ أقسرَ عليه نظريّةً أدبيّةً بعينها، تنظر إليه من زاوية واحدة، بل سأعطيه إمكانيّةَ البَوح، ممّا يحوّله إلى نصٍّ مفتوحٍ قابلٍ للتأويل قدرَ المستطاع، وأسمح لزَخَمِه وثرائِه أن يبرزا ويؤثّرا، وسيتخلّلُ ذلك تعليقاتٌ وتوضيحات ومحاورات تُضفي عليه مدلولاتٍ وجماليّات، وتجعلني مُتقبِّلًا مُنتِجًا لا مستهلِكًا.
أعتقد – وبعدَ قراءةٍ متكرّرة للنصّ – أنّه بحاجة إلى معالجةٍ متأنّيةٍ تدخل إلى مساربه، وترصد إشاراتِه الثقافيّة، وتلمُّ خيوطَه المتعدّدة، وتكشف بنيتَه وأبعادَها، وتستجلي أسلوبَ السرد المتميّزَ الذي وظّفتْهُ الكاتبة، من خلال الرسائل الحاسوبيّة أوِ الحكايات أوِ الليالي، لإبرازِ الأيديولوجيا الفكريّةِ التي يُراد إيصالُها.
يمكنُ – مِن أجل التسهيل – تقسيمُ العمل الأدبيّ إلى قسمَين كبيرَين:
1 – كلُّ ما جاء قبلَ “الليالي” حتى الصفحةِ الخامسةَ عشْرةَ.
2 – نصُّ “الليالي” أوِ الحكايات أوِ الرسائل، ويبدأُ مِنَ الصفحةِ السابعةَ عشْرةَ.
القسم الأوّل: المقدِّمات
نجد في كثيرٍ منَ الأعمال الإبداعيّة مقدّمةً تُصوِّرُ طريقةَ عملِ المبدع، وتوضِّحُ مَنهَجَهُ أوْ أقوالًا مأثورة ذاتَ علاقةٍ بالعمل الأدبيّ، أوْ إهداءً أوْ ما شاكل ذلك، لتهيئةِ القارئ وإدخاله إلى النصّ مُدخَلًا حسنًا. في هذا الإطار أفاضَتِ المؤلّفة، فقدْ جعلتِ التمهيدَ في ستّةِ محاورَ، وكأنّي بها قد جعلتْهُ نقطةً حاسمةً لانطلاقٍ حقيقيٍّ نحوَ “المتن”:
1 – الغلاف: ويحوي اسمَ المؤلِّفة، العنوانَ “حكاياتُ الليدي ندى”، ملاحظة “تمّتْ سرقةُ الرسائل بعون “هاكر” ذكيّ”، نوعُ النصّ “روايةٌ” وصورةُ الغلاف. يسترعي الانتباهَ مصطلحان وردا وهما: حكاياتٌ – رسائلُ، يُفهَم منَ العنوان والملاحظة أنّ الحكاياتِ الواردةَ هي عبارةٌ عن رسائلَ أُرسِلت في الحاسوب ثمّ سُرِقت وتحوّلت إلى حكاياتٍ بُنِيَ عليها النصُّ الروائيّ بعدَ نشرها بواسطة ذلك السارق. إذا ما دخلْنا إلى “المتن” أوِ “الليالي” لنلاحظَ ماهيّةَ المصطلحاتِ الواردة فسنجدُ أنّ المؤلّفة تستغني عن مصطلح حكاياتٍ الوارد في العنوان، وتستعمل بدلًا منه “ليالي” وقد كُتِب في أعلى الصفحة “الرسالة الأولى”، وفي الأقسام التالية لا نجدُ “رسائل” بل يُكتَفى بمصطلح “ليالي”. إذن هذه “ليالي ندى” التي تذكّرُنا بِ “ليالي شهرزاد” في “ألف ليلة وليلة” الشهيرة. أمّا صورة الغلاف التي صمّمها الفنّان بسّام حمدان، فتتّخذ من ندى محورًا هامًّا لبثّ حكاياتها للبحر، وهذا ما يربط الإنسان بالمكان، ولكنّ المشهدَ لا يُلغي بُعْدَ الزمان الذي نجدُه في الثوب الذي ترتديه الليدي، هذا الثوب الذي لا يمتّ إلى ألبسة عصرنا بصِلة، ففيه تكمنُ عجائبيّةُ الامتداد الزمنيّ، إنّه يذكّرنا بالماضي البعيد، وفي نفس الوقت يجعلنا نخال المستقبلَ الأكثرَ بُعدًا.
2 – الإهداء: مُوَجَّهٌ لمخترعي الحاسوب الذين “جعلوا حياتنا أسهلَ وساعدوا على كشف سرِّ الهوى المكنون والعيب المستور”، وإذا ربطنا الإهداءَ بالملاحظة الواردة على الغلاف فسوف نتيقّنُ أنّ المؤلّفةَ تُحبِّذُ هذه السرقةَ التي ساعد الحاسوب على حصولها وكشفِ خباياها، وأنْ لا اعتراضَ عليها. فلو كان الأمر عكسَ ذلك لما كان الإهداءُ موجَّهًا لمخترعي الحاسوب الذين يجلون المخبّأَ منَ الأمور سلبًا أوْ إيجابًا.
3 – الاقتباسات: وهي أقوالٌ مأثورة لكلٍّ مِن يوهان فولفغانغ غوته، ألبير كامو، ستيف جوبز ونوستيو أوردن. جاءت هذه الاقتباساتُ طويلةً، وكان الأَوْلى الاكتفاءُ بالاقتباس عنِ سْتيف جوبز لسببين: لأنّ جملتَه هي الأكثرُ ارتباطًا بالجرأة التي تطرحُها المؤلّفة في روايتها، ولأنّه ثانيًا مؤسِّسُ شركة “أبل” للأجهزة الإليكترونيّة المتطوّرة، لذا كان الاقتباسُ عنه ملائمًا لروح الرسائل الحاسوبيّة التي بُنيت عليها الرواية، وللإهداء الوارد قبلَه. أمّا بالنسبة للاقتباسَين الأوّل والثاني فأرى أنّهما يخصّان القارئَ وطريقةَ تعامُلِه معَ النصّ ومدى حيويّة النصّ ونجاحه في توصيل شحناته. وهنا كان المفروض أن يُترَكَ النصُّ للقارئ ليقرأَه ويتفاعلَ معه حسبَ قدراتِه وثقافتِه وإمكانيّاتِ تقبُّلِه. كذلك يطرح الاقتباسُ الرابع عدمَ جدوى الأدب والفنّ مقارنةً بالأمور النفعيّة، وهي فكرة معروفة متداوَلة، مع أنّه من المفروض أنّ النفعيّة درجات، وإذا لم يتطوّر الفكر بواسطة قِيَمِ الفنّ والأدب فعندها لن تتحصّلَ للنفعيّة الماديّة أيّةُ قيمة. تُشكِّلُ هذه الاقتباسات توقيفاتٍ تؤثّرُ على القارئ، وتُدخلُه إلى عالم “الليالي” بأفكارٍ مُسبَقة، والأَوْلى به أن يبدأَ القراءة دونَ هذه الأفكار، وعلى نصّ “الليالي” بالمقابل أن يقولَ ويؤثّر.
4 – ملاحظة: وهي بمثابة تهيِئَة أخرى لأجواء “الليالي” تشرح المؤلّفة خلالَها نوع كتابتها، فترفضُ الحبكة التقليديّة، بل ترى أنَّ بنيةَ الزمن المؤثّرةَ هي الأهمُّ بما تُتيحُه منَ القفز أوِ التقَوْقُع ليس في الزمان فحسب، بل في الأمكنة أيضًا. تقول: “إنّني أكرهُ أن يوضَع عملي داخل قالب ما.” مع أنّ ما كُتِب على الغلاف “رواية”. والمؤلّفة لا تسمّي عملها في ملاحظتها حكايات أو رسائل أو رواية بل “ليالي” وتتيح للقارئ إمكانيّة أن يبدأَ القراءة مِن حيثُ يشاء. إذا كان للقارئ أن يقرأَ مِن حيثُ يشاء، فلماذا وجب ترقيمُ الليالي مِنَ الليلة الأولى وحتى الثلاثين – كما يردُ في النص؟ وهل هو لمجرّد التسهيل؟ وبالمقابل أتساءل: هل للترتيب مدلولٌ معيَّنٌ أمِ استُعمِل لاحتياجاتٍ نصيّة؟ وبالتالي: هل هناك ضرورةٌ لقراءة النصّ قراءةً ترتيبيّةً تتابُعيّة – كما جاء بحسب ترقيمِ صفحاتِه وتتابُعِ لياليه- دونَ قفزاتٍ أوْ نقلات كما تُلاحِظ المؤلِّفة؟ هذا ما سأحاول الإجابةَ عنه في القسم الثالث مِن هذا البحث.
5 = تمهيد: لعلّ أبرز ما يثير الاهتمامَ في التمهيد هو اسمُ كاتبتِه وتوقيعُها، فقد جاء هكذا في بداية التمهيد: “أنا الموقّعةُ أدناهُ إسراءُ بنتُ عيسى بنتُ موسى الشوبكي”. قرأته مرّتين فظننتُ أنّي أخطأتُ القراءة، أوْ أنّ ثَمَّ سقطةً مطبعيّة، فحوّلتُ النظرَ إلى التوقيع فوجدتُه يُصِرُّ على حَرْفيّة الكتابة بلا أدنى تغيير. وإذا ما سلّمنا بذلك فإنّ إسراءَ هي، وفي نفسِ الوقت، ابنةٌ لأبوين، وهذا غيرُ معقول. والملفِتُ للنظر هو ما تُمثِّلُه مدلولاتُ اسمها: اسمُ إسراءَ يُعيد القارئ إلى سورة “الإسراء” وإلى النبيّ محمد صاحب الإسراء وشاهده، واسما والدَيها عيسى وموسى هما اللذان يمثّلان المسيحيّة واليهوديّة، وبذلك تكون قد جمعت في اسمها أنبياءَ الأديان الثلاثة الموحِّدة، ويُضاف إلى ذلك اسم العائلة “الشوبكي”: وهو اسمُ آلة يُرَقّ بها العجين فيتّخذ شكلَه المستديرَ أيِ الأرغفة، واسمُ العائلة، إلى ذلك، يوحي بتغيير المفاهيم وتشكيلها على صورةٍ مغايرة، وهذا ما تطلّعت الأديانُ إلى تحقيقه في المجتمع البشريّ.
تعترف إسراءُ أنّ علاقتَها بندى (كاتبةِ الرسائلِ أوِ الحكاياتِ أوِ الليالي) مبنيّةٌ على رسائلَ متبادَلةٍ عبرَ الماسينجر، ولا تقوم على معرفةٍ شخصيّةِ وجاهيّة، فندى – من جهتها – أعجِبت باسمِ إسراءَ ومدلولاتِه، تقول إسراءُ إنّها تُشفِق على ندى لأنّها “لا أصدقاءَ ولا صديقاتِ لها تراسلهم”، فتعتبر نفسَها تعويضًا لها عنهم، وهو سببٌ وجيه للتقارب بينَهما. أمّا السببُ الثاني فهو إعجابُ إسراءَ بصورة حفيدة ندى التي عمرُها سنتان، وتتوقّع ندى أن تولدَ مع القطط في شباط عام 2030. وهذا هو اللامعقولُ الآخرُ الظاهر هنا. فكيف توجد لهذه الحفيدةِ صورةٌ وهي لم تولَدْ بعدُ؟ وسوف أتناول إشكاليّة الزمن لاحقًا. نحن أمامَ شخصيّتين في حالةِ تواصُلٍ عبرَ رسائلَ ماسينجريّة، إحداهما ندى تكتب رسائلَ مستفيضةً والأخرى إسراءُ التي تتدخّل عندَ اشتدادِ الأزمات، لتستحثَّ ندى على الاسترسال في البوح والتعبير عن مكنونات النفس، وقد تعامَلَتْ معها “من زاوية المتفرِّج أوِ القارئ لمذكّراتِ امرأةٍ وحيدةٍ تبحثُ عنْ حفنةِ اهتمام”. وكما تقول إسراءُ فإنَّ رسائلَ ندى فجأةً توقَّفَت، وقد مضى شهران على ذلك، فقرّرت أنْ تنشرَ هذه الرسائلَ لأنّها اعتبرت ذلك دَينًا عليها إرجاعُه، ولكنّها اكتشفت أنَّ أحدَ مخترقي الحاسوب سرقها وتصرّف في نصوصها على ذوقه ونشرَها مُعتبرًا أنّها ِمن مُؤلَّفاته!!
معنى الملاحظة السابقة أنّ إسراءَ لا دخلَ لها بما سيُسرَد على لسان ندى، ولا بما سيُسرَد حتى على لسانها، فهي تتبرّأُ مِنَ العبارات الواردة على لسانها، وتعترفُ أنّها “لم تكتبْ أيَّ عبارة مما يلي ولا دخلَ لها بالمضامين”، أيْ أنَّ قارئ هذه “الليالي” لا يستقبلُ سردَ إسراءَ أوْ ندى بشكلٍ مباشر، بل مبنيًّا على التغييراتِ التي أدخلها ذلك السارق على نصوصهما، أو ما أضافَهُ إليها مِن عندِيّاته أوْ حذَفَه منها بحسب أهوائِه وطبائعِه. يذكّرُنا هذا الأسلوب – على الرّغم مِن أنّه يعتمدُ الحاسوبَ الحديثَ أساسًا – بأساليبِ رواية القصص والطُّرَف والأحاديث في أدبنا العربيّ القديم والمعروف “بالعنعنة”، فالراوي الثاني أوِ الثالث أوِ الأخير قد يتدخّلُ في القصّة مُضيفًا أوْ حاذفًا أو صابغًا النصّ بأهوائه، كما فعل ذلك السارقُ الحاسوبيّ. ولكنّ الاختلافَ بينَ الحالتين قائم، لأنّ الماسينجرَ الحديثَ يستعملُ الكتابة والتوثيق، بينما “العنعنة” تعتمدُ الشفاهيّة.
كان بإمكان إسراءَ أن تتدخّلَ أوْ تُعلِّقَ على نصِّ ذلك السارق بَدَلَ أن تكتفيَ بالإعلان عن عدمِ مسئوليّتِها عنْه، وتبرئةِ ذمّتِها منه. إذا اعتبرنا الساردَ الأوّلَ هو ندى فإنَّ إسراءَ هي الساردُ الثاني، لأنّها ليست مجرّدَ مُستقبِلَةٍ لسرد ندى بل مُشارِكةٌ به ومُضيفةٌ إليه وراغبةٌ بنشرِه، وأنَّ السارق الذي أصبحَ راويًا لكلتَيهما، وأتيحت له إمكانيّاتُ التدخّل في النصِّ وتغييرِه، دونَ أدنى اعتراض، أضحى راويًا ثالثًا وأخيرًا، وكأنَّ هناك مؤامرةً بينَ الرواةِ الثلاثةِ (ندى، إسراء والسارق) بمباركةِ الكاتبة. استُعمِلت في هذا النصّ تقنيّةُ تعدّدِ الرواة، ولكنَّ الكاتبةَ هيَ مَن تحرّكُهم عنْ بُعدٍ دونَ أنْ تتدخّلَ بهم بشكلٍ واضح، أو تميلَ إلى رأي أوْ تُعَلِّقَ على موقفٍ سوى في مواضعَ قليلةٍ سأتناولُها لاحقًا. يطرح مُستقبِل نصٍّ يُوَظِّفُ مثلَ هذا النوعِ منَ السردِ على نفسِه أسئلةً متعدِّدة:
- هل يُعتَبَرُ ما يطرحُه النصّ حقيقةً أم خيالًا بسببِ تعدُّدِ الرواة؟
- أينَ حدودُ الواقع وأين انطلاقُ الخيال؟
- مَنْ نُحاسِبُ حولَ أيِّ موقفٍ حاصل؟
- أنحاسبُ السارقَ أمْ ندى أمْ إسراءَ أمِ الكاتبة؟
إنَّ هذا النصَّ مبنيٌّ على رؤًى متنوِّعةٍ ووجهاتِ نظرٍ متعدّدة، تُتيحُ للقارئ التعامُلَ معه بزوايا ذاتِ مرايا متعاكسةٍ تُمثِّلُ وجهاتِ نظرٍ قابلةٍ للتأويلِ ودافعةٍ للتفكير، وتجعلُه نصًّا منفتحًا ذا رؤًى تستجلي خباياه ومقاصدَه، وتعطيه حيويّةً كبيرةً وإمتاعًا أعظمَ.
6= باب التعارف: حيثُ تُعرِّف ندى عنْ نفسِها: الاسمُ: ندى بنتُ عبدِ الرحمن (يُلاحظ انّ كتابة الرحمن بحسب ما وردت في سورة الفاتحة) العجّان: يحمل اسمُ ندى معنى اللطفِ بما يمثّلُه الندى مِن قطراتٍ ناعمةٍ شفّافةٍ متلألئةٍ تعبقُ بالروائحِ الطيّبةِ المنبعثةِ عن امتزاجِها بالزهور والورود صباحًا مع انبعاثِ الشمسِ صباحًا. وهي ابنةٌ لعبدِ الرحمنِ الذي يبدو، للوهلة الأولى اسمًا عاديًّا وواقعيًّا، ولكنَّ “الرحمن” – كما هو معروفٌ – اسمٌ مِن أسماءِ اللهِ الحُسنى، ويأتي اسمُ عائلتِها العجّان أي الذي يصنعُ العجينَ كلُقمةِ عَيشٍ للمخلوقات. يُلاحُظ أنَّ العجّانَ يتناسبُ مع مدلولاتِ “الشوبكي”، فندى تعجنُ وإسراءُ ترُقُّ العجينَ لتعطيَه استدارتَه المتكاملة، ومحمود الصبّاغ (زوج ندى) يصبغُه بألوانٍ محمودةٍ وجميلة ممّا يتيحُ للأسماء أن تتكاملَ لتعطيَ أبعادًا مرصودة. تعترفُ ندى، بوضوح، لماذا اختارت إسراءَ صديقةَ مراسَلةٍ وبَوح: اسمُ العائلتين ذو تكامُل، وكذلك صورةُ إسراءَ أثارت إعجابَ ندى، وجعلتْها تعتقدُ أنّها مثقّفةٌ مثلها. أعتقدُ أنّ ما قالتْه إسراءُ في التمهيدِ وما قالتْه ندى في التعارفِ يثيرُ تساؤلًا هامًّا يشيرُ إلى عمقِ العلاقةِ بينَهما، وكأنّهما وجهان لعملةٍ واحدةٍ بما تمثّلانه مِن تشابهٍ حدّ التطابق – بالرغمِ منَ الإنكار مِنْ جهةِ إسراءَ – وأنَّ واحدتَهما مكمِّلةٌ للأخرى، فلا وجودَ لندى بغيرِ إسراءَ، والعكسُ صحيح!!
إضافةً، تُصرِّحُ ندى عنْ مكانِ سُكناها وهو “إحدى قُرى الشمال”. ومِن نصِّ الليالي نعرفُ أنَّها قريةُ عين ماهل بالقرب منَ الناصرةِ العليا (ص20). ويسترعي الانتباهَ عندَ ذِكرِ المكانِ طريقةُ وصفِه التي تتشكَّلُ بأسلوبين: الوصف الذاتي المحفِّز: “إنّ قريتَها تتمتَّعُ بطبيعتِها الخلّابةِ وأزهارِها منزوعةِ الأوراقِ وأشجارِها التي تنتظرُ أنْ تُثمِرَ في يومٍ منَ الأيّام” (ص15). يثيرُ هذا الوصفُ أسئلةً كثيرةً لدى القارئِ ويُهيّئُ لكلِّ ما سيأتي، فلماذا أشجارُ القريةِ لا تُثمِرُ؟ ولماذا أزهارُها منزوعةُ الأوراق؟ أليست هذه بمثابةِ سابقةٍ لما سيأتي تخدمُ السردَ وتكشفُ أعماقَ الشخصيّة؟
الوصفُ المحايد (الموضوعيّ): تقول ندى: ” يقعُ بيتي قربَ محطةِ البنزين التي تقوم إلى جانبِها حاويةٌ كبيرةٌ للنفايات. ” ممّا يعطي النصّ واقعيّتَه وجماليّتَه. وهذا التراوح بين النوعين الوصفيَّين يستمرُّ على مدى النصّ. أمّا توقيعُ ندى على التعارف فقد جاءَ على الشاكلةِ التالية:
امرأةٌ لا فائدةَ منها/ منزوعةُ العملِ الصحفيّ/ مسلوبةُ القيمةِ الاجتماعيّة. يتساوقُ هذا التوقيعُ معَ الوصفِ الذاتيِّ المذكور، وقد شكّلَ الوصفُ معادِلًا موضوعيًّا لندى مِن خلالِ ما عرّفَتْ به نفسَها في هذا التوقيع. إذن ندى امرأةٌ مُهمَّشة. ولأنّها وحيدةٌ وضائعةٌ فإنّها تلجأُ إلى الكتابةِ مُحاوِلةً التنفيسَ عَن أزمتِها التي قد تنجحُ فيها فتنعمُ بحياةٍ كريمةٍ تستعيدُ ذاتَها وتحقِّقُ إرادتَها، وقد تفشلُ فتتحوّلُ أزمتُها إلى مأساة، فتعبِّر عَن مرارةِ عيشِها وتُشرِك المتلقّي وتُعمِّق مشاعرَه ليتحوّلَ إلى صانعٍ للنصِّ لا مجرّدَ قارئٍ مُحايِدٍ له، وغيرِ مُتفاعِلٍ معه.
قبلَ الدخول إلى عالم “الليالي” يجب إلقاءُ بعضِ الضوء على بعضٍ مِن عجائبيّاتِ النصّ، وأبرزُها توظيفُ الزمن، حيثُ يُلاحَظ أنّه زمنٌ استثنائيٌّ وغيرُ عاديٍّ أقربُ إلى اللامعقول، ولتوضيحِ الأمرِ نسأل: متى كُتِبَتِ الرسائل؟
تشيرُ إسراءُ في نهايةِ التمهيدِ إلى تاريخِ كتابتِه: 6-6-2023، وقالت فيه إنّ رسائلَ ندى إليها توقّفَت قبلَ شهرَين مِن ذلك التاريخ، أي بتاريخ 6-4-2023. وإذا انتقلنا إلى الرسالةِ الأولى مِنَ “الليالي” والمؤرّخة على النحوِ التالي 22-11-2022، مُضافًا إليها الساعةُ والدقيقة، بخلافِ بقيّةِ الرسائلِ التي تتجاهلُ ذكرَ التاريخ، فإنّنا -حتمًا – سوفَ نتحقّقُ مِن أنَّ هذه الرسائلَ قدِ استمرَّت فترةُ كتابتِها 135 يومًا في زمنٍ مستقبليٍّ يمكنُنا أنْ نطلقَ عليه تعبيرَ الزمنِ الروائيّ، أوْ زمنِ الشخصيّة، لأنّ الشخصيّةَ هي التي اخترعتْه وتصوّرتْه، ويقابلُه الزمنُ الحقيقيّ.
إنّ لجوءَ الكاتبةِ مِن خلالِ شخصيّاتها إلى زمنٍ روائيّ، لا يهدفُ إلى إثارةٍ وغرابةٍ وعجائبيّةٍ وتشويقٍ لدى المتلقّي فحسب، وإنّما، حتمًا وإضافةً، لا بدَّ أنَّه يؤكِّد على همٍّ مضمونيٍّ ترصدُه الكاتبة، كما سيتّضحُ لاحقًا.
يُلاحَظ أنَّ عناصرَ العجائبيّة متعدّدةٌ في النصِّ السابقِ للّيالي: مدلولاتِ الأسماءِ وتناسبَها، صورةَ حفيدةِ ندى ذاتِ السنتين التي لم تولَدْ بعدُ، اسمَ إسراءَ ذاتِ الأبوَين الذكريَّين، والإشارةَ إلى زمن ِكتابةِ النصّ. إنّ هذه العناصرَ مرشَّحةٌ للمزيدِ منَ العجائبيّة معَ الدخولِ إلى عالمِ “الليالي”، ممّا يعطي هذا العملَ الأدبيَّ نوعًا منَ الفانتازيا تُثريه بالخيال، وهو خيالٌ لا يستهدفُ الهروبَ منَ الواقع بقدرِ ما يُعمِّقُ الإحساسَ به وإدراكَهُ بغيةَ تخطّيه.
إنَّ الوقوفَ عندَ هذا “المفتَتَح” لا يعني وجودَ نصَّين مُنفصلَين، لأنَّ “المفتتح” و “الليالي” عبارةٌ عَن نصٍّ ذي نسيجٍ واحد، يُمَهِّد فيهِ الأوّلُ للثاني. وإنّما آثرتُ التقسيمَ لتسهيلِ القراءة، وإقامةِ فهمٍ عميقٍ للمَدخَل مِنْ أجلِ دخولٍ واعٍ إلى عالم “الليالي”.
القسم الثاني: الدخول إلى عالم “الليالي”
يُلاحِظ قارئ “الليالي” أنّها تحوي أكثرَ منْ حكايةٍ واحدة، وأنَّ هذه الحكاياتِ تتداخلُ ببعضِها، وأنَّ الواحدةَ منها تُروى في أكثرَ منْ ليلة، وأحيانًا بشكلٍ مُتقطِّع في ليالٍ مُتباعِدة، كما تُصرِّحُ المؤلّفةُ في ملاحظتِها: ” نحنُ نعيشُ معظمَ الوقتِ في داخلِنا .. نقفزُ أحيانًا، نتقوقعُ، نتجمَّدُ، نتقدَّمُ ثمَّ نتراجعُ أحيانًا أُخرى، في الزمانِ والمكانِ دونَ قيدٍ أوْ شرط… (ص11).
يمكنُ التمييزُ بينَ نوعَين من الحكايات:
النوعُ الأوّل:
ويشمل حكايات أسرتَي ندى وإسراء.
ا- حكاية ندى، وأسرتِها: الأب: عبد الرحمن العجّان. الزوج: محمود الصبّاغ. الابنة: سماح. زوج سماح: ويليام الأمريكي.
ب- حكاية إسراء، وأسرتِها: الأب: (عيسى/ موسى). الأم. الأخ: جعفر. صديق الوالد: توفيق. ويمكنُ أن نُضيف معلِّمةَ إسراءَ التي تلجأُ إليها عندَ الشِّدَّة: زهرة.
النوع الثاني:
ويشمل حكاياتِ عائلة ندى وأصدقائِها وجيرانِها أوْ مَنْ سمعتْ حكاياتٍ عنهم.
ا- حكاية ميساءَ وزوجِها أبي حسّان. (الليلة الأولى والثانية).
ب- حكاية أبي عاصي وابنِه عاصي الذي تزوّج ساشا الروسيّة. (السادسة).
ج- حكاية زيارة “نوّارة” عمّةِ ندى لفلسطينَ بعدَ معاهدةِ السلامِ مع الأردنّ. (الثامنة والتاسعة).
د- حكاية الجار الذي أُصيبت زوجتُه بالباركينسون. (العاشرة).
ه- حكاية الجارة ميريام، وأهلِها: عوفرا وخليل. (21+24).
ز- حكاية المرأة الأمريكيّة التي عاشت وحيدةً وماتت بشكلٍ مُريع. (29).
و- حكاية معلّمة الموسيقى كاتيا اليهوديّةِ مِنْ أصلٍ روسيّ، وابنِها، وعلاقتها بعليّ. (23).
إزاءَ هذه الحكاياتِ المتداخلةِ والمتنوِّعَةِ لا بدَّ مِن طرحِ أسئلةٍ تُحدِّدُ طريقةَ كتابةِ النّصّ، وتساعدُ على قراءتِه، بغيةَ فهمٍ مُتعمِّقٍ لمضامينِه:
ا- هل توجدُ علاقةٌ بينَ الحكاياتِ الواردةِ أمْ لا رابطَ بينَها؟
ب- هل جاءَ ترتيبُ الحكاياتِ عشوائيًّا دونَ علاقاتٍ داخل-نصّيّة؟
ج- هل كانت عمليّةُ التداعي السرديِّ سببًا لوضعِها على الشاكلةِ الواردةِ داخلَ النصِّ المكتوب؟
لكي أُجيبَ عن ذلك سألجأُ إلى فنِّ الرسمِ لتوضيحِ الأمر:
هنالك نوع منَ الرسمِ يُعرَف باسمِ (كولاج)، وهو عبارةٌ عَن تجميعٍ لقُصاصاتٍ وصُوَرٍ مِن مجالاتٍ متعدّدةٍ يُلصِقُها الفنّان بطريقةٍ مُعيَّنةٍ لتُشكِّلَ لوحةً فنّيّةً مُتكامِلةً ذاتَ أبعادٍ عميقةٍ ومقاصدَ مرصودة. إنّ عملَ هذا الفنّانِ يحوي داخلَه عمليّاتِ إبداعٍ متعدّدة: اختيارِ الملصَق/ مساحتِه/ لونِه/ مضمونِه/ مجاورتِه أوِ ابتعادِه عنِ الملصقاتِ الأخرى، وهكذا يستمرُّ عمَلُه حتّى الانتهاءِ منَ الملصقات، وحتّى يتوصّل إلى مدلولاتِ اللوحةِ مُتكامِلةً. وعلى الرغمِ مِنْ أنَّ كلَّ مُلصَق مُنفرِدًا يحملُ مدلولًا خاصًّا به، إلّا أنّه لا يمكنُ قراءةُ هذا المدلولِ إلا داخلَ اللوحةِ الكولاجيّةِ المتكاملة.
إذا كان عملُ الكاتبةِ قد جرى بطريقةِ الكولاج المتّبَعةِ في الرسم، فماذا يمكنُ أنْ نقولَ عَن حكايتَي ندى وأسرتِها وإسراءَ وأسرتِها؟ وهل تدخلان في إطارِ الكولاج؟
لا أعتقدُ ذلك، لأنّ هاتين الحكايتين هما العمودُ الفقريُّ للنصّ في بنيتِه الأساسيّة، وما الحكاياتُ الأخرى إلّا انبثاقاتٌ عنهُما، ترويها ندى في رسائلِها راسمةً مِن خلالها حركيّةَ حياةِ جيرانِها أوْ أصدقائِها أوْ أسرتِها الكبرى أوْ مَنْ سمعَت عنهم، وكأنّها حكاياتٌ تتناسلُ بعضَها بعضًا في نسيجٍ مُتكامِل، تُمسِكُ أطرافَ خيوطِه أناملُ ندى التي تَحيكُها لتُبدِعَ مِن خلالها ” ليالي الليدي ندى “، كما حاكت مثلَها شهرزادُ في إبداعِ “ألف ليلة وليلة”.
يُلاحَظ أنَّ الحكايةَ تبدأُ بعددٍ قليلٍ مِنَ الشخصيّاتِ التي تأخذُ بالازديادِ معَ استمرارِ السرد، فيصبحُ لكلِّ شخصيّةٍ منها حكايتُها الخاصّةُ بها والتي تمثِّلُها، ولكنَّها تتشكَّلُ في إطارِ الحكايةِ الأساسيّةِ بلْ وتُروى، في مُعظمِ الحالات، مِنْ وجهةِ نظرِ ندى، في الأساس، أوْ مِن خلالِ سردِ إسراءَ وأخيها جعفر اللّذَين شاركا ندى في السرد.(سوف أتناولُ أساليبَ السرد في القسم الثالث). لذا فإنَّني أعتبرُ ما جرى داخلَ أسرتَي ندى وإسراءَ الهيكلَ الأساسيَّ للنصّ. وأعتبرُ حكاياتِ الشخصيّاتِ الأخرى انبثاقاتٍ تسردُها ندى مِن خلالِ ما يتداعى إلى ذهنِها مِن أحداثٍ أو ظروفٍ جرت حولَها لهدفٍ مرصود، وهو إلقاءُ أكثر ما يمكنُ إلقاؤه منَ الضوءِ على حكايتِها (البؤرة)، ويتيحُ لها مصداقيّةً، وهي تكشفُ عَن دوافعِها وآرائِها. ويعطي القارئَ، وهو يدخلُ النصَّ مِن أبوابٍ مُتعدِّدة، إمكانيّةَ تشكيلِ نظرةٍ منفتحةِ التأويلِ ومُعايِشةٍ للشخصيّةِ ومتعاطفةٍ معها إلى أبعدِ الحدود.
ذكرتُ عندما تحدّثتُ عنْ مداخلِ النصِّ أنَّ هنالك تشابهًا يصلُ حدَّ التطابقِ بينَ إسراءَ وندى. ولعلّي لا أبتعدُ عنِ الصواب، إذا قلتُ إنّهما اثنتان في واحدة. وسوف أحاولُ أنْ أُثبِتَ ذلكَ منْ خلال مُعطَياتٍ واردةٍ داخلَ النصّ. الإنسان عقلٌ وعاطفة، وأحدُهما يُكملُ الآخرَ ويوازنُه، فإذا ما تمادى أحدُهما، داخلَ الإنسان، على حسابِ الآخر، رَدَّهُ الآخرُ إلى ما هو مفروضٌ بهِ أنْ يكون: أيْ إلى حالةِ اتّزان. وهما، حتمًا، في حالةٍ مُستمِرّةٍ منَ الجدلِ الذي يتفجَّر، عادةً، بشكلٍ مُبالَغٍ به في الأزمات.
تبرزُ إسراءُ – ومنذُ الليلةِ الأولى – ذاتَ عاطفةٍ مشبوبةٍ توجِّهُها نحوَ حبٍّ للإنسانِ والوطن (ص17). بينما ترى ندى في نفسها العقلَ الذي يعجزُ عنِ الحبّ في زمنِ القهرِ والاغتصابِ وخيبةِ الأملِ منَ الربيعِ العربيّ: “أعيشُ زمني عاجزةً عَنِ الحبّ” (ص18). وفي الليلةِ الثالثةِ تبادرُ إسراءُ بإرسال نصٍّ مِنْ إبداعِها تتغزَّلُ فيهِ برَجُلٍ أجنبيٍّ ذي عينَينِ زرقاوَين ولكنَّهُ يرفضُ أخذَها لبلادِه، لأنَّ لهُ زوجةً وطفلًا، ممّا جعلَها ترتدُّ نحوَ الشرقِ وغروبِ شمسِه النازفة (26)، وهذا يمثِّل جانبَ العاطفةِ والحلمِ داخلَ إسراء، فأيُّ ردِّ فعلٍ كانَ لندى على ذلك؟ تردُّ عليها ندى باللوم، إذ كيف لها أن تنجَرَّ وراءَ عاطفةٍ في عصرٍ تكثرُ فيهِ عمليّاتُ تفجيرِ الكنائسِ والمساجد؟ (26) ومع كلِّ اللومِ الذي توجّهُهُ ندى لإسراءَ بسببِ خيالِها المفرطِ وحلمِها المستبعَد، إلّا أنَّ هذا الخيالَ الحلميَّ أوِ الحلمَ الخياليَّ المبنيَّ على العاطفةِ يتحقَّقُ بحذافيرِه، وبمفارقةٍ نصيّةٍ مُعبِّرة، لدى ندى عندما يتزوَّجُ ويليامُ الأمريكيُّ الأشقرُ ذو العينينِ الزرقاوَينِ ابنتَها سماح، دونَ أنْ تحاولَ مَنْعَه أوْ رَفْضَه بشكلٍ عَلَنيّ.
والسؤالُ المطروح: كيف كانَ ردُّ فعلِ ندى (العقل) على هذا الزواج؟ ترى ندى أنَّ الجمالَ الغربيَّ الذي يتمتَّع بهِ ويليامُ وأمثالُه يلقى قبولًا كبيرًا مِن جانبِ العرب، ولكنَّهُم يُنكِرونَه مُفَضِّلينَ عنهُ الجمالَ الشرقيّ. ولتتحدّى هذِه الازدواجيّةَ فإنّها تختارُ أن تقفَ إلى جانبِ ابنتِها في أمرِ الزواج :”معها حقّ سماح أن تعشقَ هذا الأمريكيّ، فهو يشبهُ الممثِّلَ التركيَّ كيفانش تاتليتوغ” (22) ولكنَّها إذ تقفُ إلى جانبِ ابنتِها عاطفيًّا، لا يتركُها العقل بل يُلِحُّ عليها ويستمرُّ بقرعِ ناقوسِه دونَ توقُّف: “لا أفهمُ حتى اليومِ كيف انجذَب (ويليام) لابنتي السمراءِ ذاتِ الشَّعرِ الأسودِ الحالكِ القصيرِ وجسمِها الهزيلِ الذي يقتربُ في شكلِه منْ جسمِ الصبيان؟” (23) ويَقرعُ ناقوسُ عقلِها ثانيةً لتنعتَهُ بصفاتٍ سلبيّةٍ متكرِّرةٍ مثلِ المخبولِ والمهبولِ ابنِ المهبولِ لأنّه تزوَّجَ ابنتَها غيرَ الجميلةِ التي لو بَقِيَت في قريتِها لعنَّسَت، ولم ينظرْ إليها أيُّ شابٍّ ويتزوّجْها. أو تستغربُ أيضًا مِن تلكَ المعاملةِ الرائعةِ التي يهيِّئُها ويليام لسماحَ والمشتملةِ على العطفِ والاهتمامِ وكأنَّهُ يعوِّضُها عنِ الأبِ الذي فقدَتْهُ وهيَ صغيرة. (23) يُلاحَظ ممّا وردَ سابقًا مدى تحكُّمِ العقلِ في توجُّهاتِ ندى، إلى درجةٍ تصلُ بها حدَّ الغيرةِ منَ ابنتِها: “أتساءلُ أحيانًا وأنا أخافُ الإجابة: هل يُعقَل أن أشعرَ بالغيرةِ منَ ابنتي؟” (33)
وتسألُ إسراءُ ندى في رسالةٍ أخرى عنِ العشقِ وهل جرَّبَتْهُ وشعرَت بتداعياتِه؟ تجيبُها ندى أنّها عشقت كأيّةِ امرأةٍ حمقاءَ، ثمَّ تُفلسِفُ العشقَ وتُرجعُه إلى الجنونِ لدى الإنسان، فالإنسانُ العقلانيُّ لا يستطيعُ أنْ يُحِبَّ. (27) هذا ما تفكّرُ به ندى بشكلٍ عقلانيٍّ وتنطُقُه بالكتابة بشكلٍ مباشر، فهل نفَّذَتْهُ حقًّا وكيف برزَ الأمرُ مِن خلالِ النصّ؟
سأتوقف عندَ تجربتَين مرَّت بهِما ندى في هذا المجال: الأولى: أحبّت ندى أوّلًا واحدًا مِنْ زملائِها (عليّ) الذينَ يدرسونَ الموسيقى عندَ المعلّمةِ الروسيّةِ كاتيا في الناصرةِ العليا، تعترفُ أنّها مُعجَبَةٌ بعينَيه “أحببتُ دومًا النظرَ إلى عينَيه السوداوَينِ الواسعتَينِ برموشِهِما الكثيفة” (96)، وتعبِّرُ عنْ غيرتِها مِنْ معلِّمتِها لأنَّها اختطفَت مِنها عليًّا: “صارَ عليٌّ حبيبَها (كاتيا) بالخفاء. بعدَ أنْ توقّفَ عَن دروسِ البيانو، حسدتُها، بل حقدتُ ونقمتُ عليها، لأنّني كنتُ أتمنّى لمسةً مِن يدِه أوْ نظرةً مِنْ عينَيه اللتَين عشقتُهما” (98).
الثانية: تقعُ ندى بلا مقدِّماتٍ بحبِّ شابٍّ يهوديٍّ كانَ جالسًا، مصادفةً، أمامَها في أحدِ المقاهي على شاطئِ بحرِ حيفا “لا أعرفُ لماذا شعرتُ بانجذابٍ غريبٍ إليهِ وأنا قدِ اقتربتُ منِ الخمسين” (89)، حيثُ تتغزّلُ بجمال عينَيه وثيابِه، وتركِّزُ نظراتِها عليه (90)، وعندما شَرِقَتْ بالكابوتشينو كانَ هوَ مَنْ ساعدَها وقدَّمَ لها الماء (91)، وفي الليلةِ الثلاثينَ كانَ هو مَنْ يحرِّكُ كبسولتَها لتعبُرَ فضاءاتِ الخيالِ نحوَ زمنٍ مُستقبَليٍّ غرائبيٍّ (128) وهو مَن يقودُها ليخلقَ معَها ومِنْها وبها “ندى” جديدةً مُناقِضةً لندى الواقعيّة.
يُلاحَظُ في الحالتَينِ السابقتَين أنّ تجربةَ ندى في الحبِّ بقيَت في إطارِ الإعجاب (الأولى) (سأتناولُ أبعادَ هذه التجربةِ عندما أتناولُ حكايةَ كاتيا)، وفي إطار العجائبيّة (الثانية)، ولم تتحوّلْ أيٌّ منهما إلى حبٍّ حقيقيٍّ ذي لحمٍ ودم، ولهذا أسبابُه كما سيتّضحُ لاحقًا. وإذا كانَ وراءَ الحالة الأولى مِنَ الإعجاب والاندفاع “جنونٌ لفتاةٍ حمقاءَ” أوْ لأهدافٍ في عقلِ ندى الباطنيّ، فإنَّ وراءَ الحالةِ الثانيةِ المكلّلةِ بالفانتزيِّ العجائبيِّ “عقلانيّةٌ” واعيةٌ أشدَّ الوعيِ، تستهدفُ تحدّيَ الواقعِ وتجاوزَه زمكانيًّا لسوداويّتِه، ولانسحاقِها هي ومَنْ شاكلَها.
لا يتوقّفُ الأمرُ لدى إسراءَ وندى عندَ جدليّةِ العقلِ والعاطفة، بلْ يتعدّاها إلى التشابهِ في بنيةِ الشخصيّتين: كلتاهما تعرَّضَتا للاغتصابِ أوْ محاولةِ الاغتصاب، فندى اغتُصِبَت في العاشرةِ مِنْ عمرِها (الليلة الخامسة) عندَ عودتِها مِنْ درسِ الموسيقى، وإسراءُ تعرَّضت لمحاولةِ اغتصابٍ وهيَ في الحاديةَ عشرةَ مِن عمرِها مِنْ قِبَل توفيق، صديقِ والدِها وبتشجيعٍ منه في (الليلة السابعة) (40). وفي النصِّ الأوَّلِ منَ النصوص الخارجة عنِ الليالي، يعترفُ جعفر أنّه رأى والدَه يحاولُ اغتصابَ أختِه إسراء، دونَ أنْ يفعلَ إزاءَ ذلك شيئًا. وقَبْلَها، وهو في الخامسةِ يتذكّرُ كيف كانَ أبوه يمارسُ الجنسَ مع أمِّه بطريقةٍ أقلَّ ما يُقالُ عنها إنّها جنونيّةٌ واغتصابيّةٌ دونَ أن يستطيعَ أن يفعلَ مِنْ جانبِه شيئًا. (72-73) وهو يُواجِهُ الأمرَ بانكفاءٍ وانطواءٍ إلى أن تتفجّرَ حالتُه إلى فشلٍ بإقامةِ علاقةٍ سويّةٍ بامرأةٍ، وعجزٍ تامٍّ عنْ ممارسةِ الجنسِ وانغلاقٍ أسودَ يُظلِّلُ مستقبلَه، ممّا دفعَه إلى إحراقِ كُتُبِه. (82)
إذا كانَ الأمرُ اغتصابًا (ندى) أوْ محاولةَ اغتصابٍ (إسراء) فإنّ تأثيراتِ ذلك على الضحيّةِ متشابهة، لأنّ الاغتصابَ إهدارٌ للحرّيّة الإنسانيّةِ وانسحاقٌ للذّاتِ على شتّى مستوياتِها، وارتدادٌ وانكفاءٌ واحتلالٌ وإحباطٌ يستدعي الهروبَ منَ الواقعِ المعادي إلى عالمٍ آخرَ مارستْه إسراءُ منْ خلالِ جموحِ عاطفتِها وخيالِها، وعاشتْه ندى بالموسيقى والسفرِ والغيرةِ مِمَّن حولَها. ولا يظنَّنَّ أحدٌ أنّ اغتصابَ صغيرتَين بريئتَين يمرُّ مرورَ الكرام، لأنّ مؤثِّراتِه عليهِما، على المدى، كانت موجعةً فاجعةً:
فما كانَ على ندى إلّا أن تنظرَ إلى الحبّ كعاطفةٍ مرفوضةٍ لا تعترفُ بها، وأنَ تتزوّج، في الحصيلة، أرملًا، وأنْ تبتكرَ عالَمًا عجائبيًّا خياليًّا تتحدّى به واقعَها المعيش (الرسائل وعالم الليالي وتوأم الروح: إسراء)، وتواجهَ مستقبلًا غامضًا قد تُقرَأُ نتيجتُه مِنْ عنوانِه.
وما كان على إسراءَ إلّا أن تلجأَ إلى خيالٍ جامحٍ لا يرتبطُ بالأرض، بل بعاطفةٍ مشبوبةٍ تحلمُ بأجنبيٍّ ذي عينَين زرقاوَين ينتشلُها منَ الواقع ومرارَتِه. وتلجأُ، إضافةً، إلى رسائلِ ندى بُغيةَ شفاءِ الغليلِ والمشاركةِ في المأساة، على اعتبارِ أنّ مَنْ عايشَ مآسيَ الناسِ هانَ عليه مُصابُه، ولكن في حالتَي إسراءَ وندى لا تهونُ المصيبة، بل تشتدُّ ويزيدُ ألَمُها لأنّ علاقتَهما مبنيّةٌ على محاولاتٍ مُتكرِّرة مِنهما لمعايشةِ المأساةِ الآخذةِ بالتضخُّم.
ندى وإسراءُ تمثّلان الإنسانَ الباحثَ عنِ الحريّة في أسمى مفاهيمِها، وعنِ الإنسانيّةِ في أرقى مثاليّاتِها، ولكنَّهُ يصطدمُ بواقعٍ لئيمٍ لا يرى في المرأة إلّا مجرّدَ عاهرةٍ أوْ مِمْسحةٍ (39)، ليس لها أيُّ دور اجتماعيٍّ أو سياسيٍّ أو فكريّ، بل إنّها خُلقَت للمطبخِ والسريرِ لا غير. وقد حاولتْ ندى أنْ تتحدّى ذلكَ الواقعَ باللجوءِ إلى المطلقِ المستقبليِّ والعجائبيّةِ في الليلةِ الأخيرةِ بعيدًا عنِ الأرض، مِن أجل خَلقِ حياةٍ جديدةٍ مختلفة، تُبعِد الإنسانَ عنِ القهرِ والقمعِ والاحتلالِ والاغتصابِ والتمييزِ والتهميش، وتستردُّ حريّتَه وقيمتَه وإنسانيّتَه، وتزرعُ أرضَه ببذورِ المحبّةِ والسلام.
ويُناظرُ الابتعادَ إلى المطلقِ العجائبيِّ في دهاليز زمنٍ مستقبليٍّ، اقتلاعٌ مكانيٌّ وإقصاءٌ إراديٌّ مفروضٌ على أرضِ الواقع: تَمثَّلَ ذلك بانفجارٍ غاضبٍ لأهلِ عين ماهل على ندى لطردِها مِن قريتِها ومَسقَطِ رأسِها، بسببِ زواجِ ابنتِها سماحَ مِن ويليامَ الأمريكيّ، واعتبارِهِمِ الفِعلةَ خارجةً عَن عاداتِهِمِ الاجتماعيّة، واعتبارهمْ سماحَ مجرّدَ عاهرةٍ كأمِّها: لقد تكالبتْ على ندى، بعدَ هذا الزواج، عائلةُ زوجِها وعائلتُها هي، فحُرِمَت منَ الميراث وأُقصيَت عنِ القرية، وهُدِّدَت بقتلِ ابنتِها سماح لأنّها عاهرةٌ وكافرةٌ ومُخِلَّةٌ بشرفِ العائلة. (106-107). لا تشيرُ ندى إلى المكانِ الذي سكنَتْه بعدَ هذا الاقتلاع، ولكنَّ القارئَ يستطيعُ أن يستنتجَ أنّها حيفا التي يتكرّرُ ذكرُها، وخاصةً في الليلةِ الثانيةِ والعشرين. وكذلكَ في الليلةِ الأخيرةِ عندما تعودُ ندى إلى الوطنِ فإنّها تعتبرُه حيفا وليس عينَ ماهل، بالرغمِ مِن حالةِ الاغتصابِ العامّةِ للوطن.
ولكن كيف تنظرُ ندى إلى حقيقةِ حيفا؟ عبّرتْ ندى عن ذلك بما قالتْهُ للشابِّ اليهوديِّ الذي أُعجِبَت به وأحبَّته مِن خلال منولوجِها: “أشبهُكَ في حبّي لهذه المدينةِ، لكنَّه عشقٌ قديمٌ قبلَ أن تولدَ وتأخذَ مكاني”، “ثُمّ نظرتُ إليهِ مِن جديدٍ فعادت صورةُ ذلك الشابِّ الأسمرِ قبلَ حوالي أربعين سنةً تُزعزعُني. ولم يعرفْ أحدٌ هُويَّتَه ومِن أيِّ مكانٍ أتى، فبقيَ حُرًّا طليقًا دونَ عقاب” (91-92). أتوجدُ غُربةٌ أبشعُ مِن هذا القهرِ لروحِ الوطنِ المغتصَب ولهذا الجسدِ المنتهَب؟ فإذا كان الأول قد تمَّ بفعل الصهيونيّ،ِ فإنَّ الثانيَ قد حصلَ قبلَه بفعلِ العربيّ. وعندما يصلُ الحال إلى هذا الحدّ، ولا يعودُ هنالك أيُّ فرقٍ بينَ اغتصابِ الأرضِ وانتهاكِ العِرضِ يتجلّى الانسحاقُ بأعلى مستوياتِه، ويرقصُ المغتصِب على جثثٍ مقهورةٍ تتحرّكُ بلا حياة، ويبقى حرًّا ولا يُسأَل، مِن أيِّ أحد، عن جرائمِه وأفعالِه القذرة.
قامت ندى – حسبَ سردِها – بزيارتَين لابنتِها في الولاياتِ المتّحدة (سان خوسيه وبوسطن)، مُحاوِلةً تجاوزَ واقعِها أوِ الهروبَ مِنه، حيثُ تصفُ جمالَ الطبيعةِ بحدائقِها وغزلاِنها، ويُؤثِّرُ فيها المكانُ مثلما أثّرَ فيها بحرُ حيفا وكرمِلُها، ولكنّها لا تشعرُ بأدنى انتماءٍ لهذا المكان. أمّا اللجوءُ إلى المطلقِ في محاولةٍ للهروبِ والابتعاد، فقد برزَ بوضوحٍ عبرَ الكبسولةِ التي ُتمثِّلُ زمنًا مستقبليًّا مُطلَقًا ومكانًا مُجرَّدًا لا حدودَ له، فهل بالعجائبيّةِ الزمكانيّةِ ستُحقِّقُ ندى ما لم تُحقِّقْهُ على أرضِ الواقع؟ وهل ستكونُ رحلتُها معَ اليهوديِّ الذي قابلتْه في أحدِ مقاهي حيفا وتحوّلَ –حسبَ هلوساتِها- إلى ويليامَ الأمريكيِّ صانعةً لمستقبلٍ أفضلَ؟ وهذا يتيحُ للقارئ أن يُعمِلَ فكرَه ومخيِّلتَه، ممّا يعطي النصَّ قابليّةَ التأويل.
أمّا إسراءُ فترى أنّه: “لا مكانَ لي ولا زمان، فقد تشابهَتِ الأمكنةُ ولم تختلفْ فيما بينَها إلا بالاسم، وتشابهَتِ الأزمنةُ عبرَ العصورِ لتُؤكِّدَ على أنَّ الإنسانَ يتفوَّقُ على الوحوشِ المفترسةِ بأساليبِه المُبتكَرةِ في التعذيبِ والتنكيل.” (63) تعترفُ إسراءُ، مِن جهتِها، أنّ الزمانَ والمكانَ هما حالةٌ مستمرّةٌ مِنَ القهرِ والتعذيبِ والمعاناة، وإذا كانت تميلُ إلى التلميحِ لحالِها، بعكسِ ندى، إلا أنّها أحيانًا تُوضِّحُ هذِه المعاناة، وقدِ اتَّضحَ ذلكَ عندَ سردِها عن لجوئِها إلى بيتِ معلّمتِها “زهرة” إثرَ محاولةِ توفيق اغتصابَها. (الليلة 18) هذا هو الفضاءُ الذي تتنفّسُ فيه ندى وإسراء، ألا يحقُّ لهما أن تبحثا عنِ الحلمِ والمطلَق؟ ألا تحصلُ أعجوبةٌ تنتشلُهما مِن هُوَّةِ الانسحاقِ والتهميش؟
لقد بدت رسائلُهما، مع بدايتِها، ذاتَ حميميّةٍ وألفةٍ ولكنّها، بعد أسطر، نَحَتْ مَنحًى مُناقِضًا لتصبحَ مُستفِزَّةً ومُعبِّرةً عن مدى الغربةِ والقهرِ والموتِ والقتلِ والاستلابِ والانطوائيّة. أمّا قارئُها فيحتاجُ إلى أن يكونَ متحلِّيًا بالصبرِ ليسبرَ أغوارَ الكلماتِ المشحونةِ بذبذباتِ الذاتِ المتقلِّبةِ على جمرِ عذاباتِها، ولعلَّ ما يتّصفُ به النّصُّ مِن بوحٍ بخيلٍ ومُقتصِدٍ ومحسوبٍ وذي قفزاتٍ مُتتاليةٍ وفجواتٍ ذاتِ دلالاتٍ عميقة، يُرهِقُ القارئَ ويزيدُ مِن معايشتِه للمأساة، ومِن دخولِه إلى عنكبوتيّةِ مساربِها. والسؤالُ الذي يطرحُ نفسَه هنا هو: لماذا آثَرَت ندى أن تبوحَ لإسراءَ بحكاياتٍ عنِ الآخرينَ دونَ الاكتفاءِ بسردِ حكايتِها؟ وهل تضيفُ هذه الحكاياتُ جديدًا إلى ملامحِ شخصيّتِها؟ وهل تزيدُ في إبرازِ أبعادِ أسلوبِ السرد وما ترصدُه المؤلّفة؟
يُلاحَظ أنّ ندى في رسالتِها الأولى، وبعدَ حديثٍ قصيرٍ مع إسراء، بدأت بسردِ قصّةِ جارتِها ميساءَ المعبَّأَةِ بالمأسويِّة والقهر، أيْ بدأت بسردِ قصّةٍ خارجةٍ عنْ أسرتها، وتوقَّفت عنْ كلامِها المباحِ عندَ نقطةٍ مفصليّةٍ مشوِّقةٍ في نهايةِ الرسالة قاطعةً بذلكَ السرد. وفي الليلةِ الثانيةِ بدأت بسردِ قصةِ زواجِ ابنتِها سماحَ في أمريكا وحياتِها هناك، ولم تستكملْ بذلك سردَ قصّةِ جارتِها ميساء، مما دفعَ بإسراءَ إلى مطالبتِها بإكمالِ القصّة، ففي وسَطِ الليلةِ الثانيةِ بالضبطِ جاءَ على لسانِ إسراء: “ولكن لم تُكملي حكايةَ جارتِك ميساءَ .. ماذا فَعَلَتِ اليوم؟” (ص23)، ممّا حدا بندى أن تؤجِّل سردَ قصّةِ ابنتِها وأن تستكملَ حكايةَ ميساء.
أعتقد أنَّ هذا التنقُّلَ بينَ حَبكةٍ وأخرى دونَ إغلاقِ أيٍّ منْ هذه الحبكات، بل التأجيل المتكرِّر بدون إغلاق، يستهدفُ أمرين هامّين مرصودَين: فبالإضافة إلى التعالُقِ المؤثِّرِ بين الحبكات الذي يخلق تأثيراتٍ معنويّةً لكلّ واحدة من هذه الحبكاتِ بتأثيرِها على الأخرى، وخاصةً على حبكةِ ندى ومأساتِها، ويُبرِزُ التماثُلَ لدى كلٍّ مِن ندى وإسراءَ في استشعارِ مأسويّةِ حكايةِ ميساء، فإنَّه يُؤَطِّر سردًا مُتقطِّعًا مِن خلالِ حبكاتٍ متنوِّعةٍ تضربُ على نفسِ الوترِ المأسويّ، وتُوَلِّدُ لدى القارئِ تشويقًا ورغبةً في استمرارِ الكشفِ والاكتشافِ في حبكاتٍ متنوّعة تتكاثرُ وتتعالقُ وتتعمَّقُ كلّما أبحرْنا في النصّ.
قصةُ ميساءَ وزوجِها “أبو حسّان”: ميساءُ جارةُ ندى في عين ماهل، تعملُ بكدٍّ وشرفٍ لكسبِ لقمةِ العيشِ لأسرتِها، بينما زوجُها عاطلٌ عنِ العمل، يعيشُ مِن خلال ما تجنيه مِن عملِها، طلّقَها وقتلَها شرَّ قِتلةٍ وهرب. حكايةٌ تبدو عاديّةً في عصرِنا، ولكنَّها جاءت أوّلَ حكايةٍ مِن حكاياتِ ندى، ولا بدَّ أن يتساءلَ القارئ: لماذا لم تبدأْ ندى بسردِ قصّتِها هي أو قصّةِ أسرتِها وفضّلتْ أن تبدأَ بحكايِة ميساء؟ حكايةً ميساءَ -كما أرى – جاءت، أوّلًا، كتمهيدٍ لسردِ عذاباتِ ندى وابنتِها وزوجِها، وعذاباتِ إسراءَ وأمِّها وأخيها. فالسكّينُ التي استعملَها “أبو حسّان” وبشَّعَ في تمزيقِ زوجتِه ميساءَ بها، لا تختلفُ بالمرّةِ عنْ تلكَ الحاملةِ للقمعِ والقهرِ التي استُعمِلَتْ وفُرِضَت على ندى وإسراءَ وعلى كثيراتٍ مِن أمثالِهنّ.
وتبدو ندى من خلالِ سردِها عن ميساءَ مُتعاطِفةً معَها، بينما تظهرُ غاضبةً على “أبو حسّان”، تقول ندى: “أحبُّ جارتي ميساء” و “ألله يْعينها على هالعيشة” (19) “يا ويلي عليها. بِتْشَفِّق” و “كانت المسكينةُ بالكاد تتنفّسُ وجروحاتُها تنزفُ ظلمَ الماضي والحاضرِ والمستقبل.” (24) تستعملُ ندى في تناولِها لشخصيّةِ “أبو حسّان” السخريةَ التحقيريّةَ “وددتُ أن أسمعَ صوتَ المسكينِ كي أفهمَ سرَّ الخناقةِ والشتائم” و “أتخيّلُ “أبو حسّان” كعادتِه لا يُنهِكُ نفسَه حتّى بالردِّ على ميساءَ كي لا تتضرَّرَ أوتارُه الصوتيّة.” و “يتابعُ ألعابَ كرةِ القَدم” و”يُقرقِطُ الكثيرَ منَ الجزر.” (20)
ومنَ المفارقاتِ الساخرةِ أنَّ أداةَ القتلِ هيَ نفسُ السكّينِ التي تستعملُها ميساءُ لكسبِ لقمةِ العيشِ لزوجِها وأبنائِها، وبعدما سالت دماؤُها ضربَها زوجُها وقاتِلُها “بحذائِه الرياضيِّ الذي أهدتْه أيّاه في عيدِ ميلادِه الأخير.” (24) أظهرت هذه الحكايةُ الصورةَ البشعةَ للقهر، لإبرازِه وتعميقِ الشعورِ به وتأكيدِ استمرارِه مِنَ الأزلِ إلى الأبد. ولكي يحصلَ القهرُ فلا بدَّ أنْ يوجدَ قاهرٌ ظالمٌ شرِسٌ، ومقهورٌ يحاولُ المقاومةَ قدرَ المستطاعِ أمامَ عُتُوِّ القاهر، إنَّه الجرحُ الذي تتدفَّقُ دماؤُه، وقد عانت منه البشريّةُ وما تزالُ تعاني حتى يومِنا، ولا شكَّ أنَّ آتيَ الأيّامِ سيكونُ أكثرَ بشاعةً مما سلف. وجاءت هذه الحكاياتُ لتحاولَ أن تفضحَه أملًا في تجاوزِه، فهل ستنجح؟ ومِن ثَمَّ فإنَّ هذه الحكايةَ تضربُ على وترٍ حسّاسٍ في كيانِ كلٍّ مِن إسراءَ وندى، ولا أعتقدُ أنّ سردَ ندى ورغبةَ إسراءَ المتحفِّزة للاطِّلاعِ على تفاصيلِه كانا بغيرِ قصد، أو بقصدِ التسلّي بمصائبِ الآخرين، إنّهما انعكاسٌ لحالةٍ مأسويّةٍ تعايشانِها وتحاولانِ تمثُّلَها وتضخيمَها رغبةً في التخلُّص مِنها وتجاوزِها. وندى إذ تسردُ الحكايةَ لا تتطلّعُ إلى خلاصٍ فرديّ، بل هي في أقصى حالاتِ الوعي، من أجلِ الوصولِ إلى خلاصٍ جماعيّ، فمتى ينتهي القتلُ والإرهاب؟ متى يعيشُ الإنسانُ حرًّا مُستمتِعًا بالكرامة؟ يجبُ ألّا يُفهَمَ ممّا سبقَ أنَّ الرجلَ هوَ سببُ القهرِ للمرأة، قد يكونُ سببًا مِن أسبابٍ متعدّدة، وقد يكونُ مقهورًا بدورِه لأسبابٍ تسلُّطيّةٍ أخرى، كما سيُلاحظُ مِنَ الحكاياتِ التالية.
حكايةُ نوّارةَ عَمّةِ ندى:
تحكيها ندى في الليلتَين الثامنةِ والتاسعة، وتبدأُ سردَها بلحظةٍ مُتميِّزة، وهي توقيعُ معاهدةِ السلامِ بينَ الأردنِ وإسرائيلَ عامَ 1994، ممّا أتاحَ لعمّتِها نوّارةَ أن تأتيَ لزيارةِ فلسطينَ (عين ماهل)، لتلتقيَ بأقربائِها بعدَ قطيعةٍ استمرَّتْ ستّةً وأربعينَ عامًا، بينما رفضَ زوجُها وأولادُها مرافقتَها لأنَّهم يُعارضونَ المعاهدةَ، ويرفضونَ التطبيعَ مع إسرائيل. لا يَعتبِرُ والدُ ندى أختَه نوّارةَ مجرّدَ أخت، بل يعتبرُها بمثابةِ الأمِّ لفارقِ السِنِّ بينَهُما (12 عامًا)، فقد هُجِّرَت عندَ النكبةِ مع مَن فُرِضَ عليهمِ التشريدُ، وكانَ وقتَها ما يزالُ في الحضانة. يبكي والدُ ندى عندَ لقاءِ أخته لشدّةِ تأثُّرِه بعدَ طولِ الغياب، يبكي كما لم يبكِ مِن قبلُ إلّا في حالةٍ واحدةٍ عندما اُغتُصِبت ندى. تصرُّ نوّارةُ على زيارةِ قريتِها الأصليّةِ التي هُجِّرت مِنها، وحينَ تصلُ إلى “إيلانيا” تحضنُ الترابَ وتقبّلُه لشدّةِ شوقِها لترابِ الوطنِ وإنسانِه.
وبأسلوبِ الاسترجاعِ (فلاش باك) الذي يستحضرُ ذكرياتِ نوّارةَ وأفكارَها يقودُنا سردُ ندى إلى أيّار/1948 (تاريخُ قيامِ إسرائيل)، إذ كانت نوّارةُ عروسًا جديدةً لحبيبِها نسيم عاشقِ الأرض، الذي لم يتركْ زوجتَه إلّا لفترةٍ قصيرةٍ ليعتنيَ بأرضِه، ولكنّها كانت كافيةً ليرجعَ إليها محمولًا ومضمَّخًا بالدماء. لا يُفصِح النصُّ عَن كيفيّةِ قَتْلِ نسيم وعَن هُويّةِ قاتليه، ولكنَّ القارئَ يعرفُ جيّدًا أنّ الأعداءَ هُمُ الذين قتلوه ليسرقوا أرضَه، وهمُ الذين حوّلوا “الشجرة” إلى “إيلانيا” المغتصبة. حكايةُ نوّارةَ تُبرِزُ القَهر وتُكثِّفُه في بُؤَرٍ متعدّدة: فاستشهادُ نسيم دفاعًا عَن أرضِه ووطنِه كنموذجٍ لكلِّ مَنِ استُشْهِدَ ذودًا عنِ الأرض والعِرض، هو قمعٌ لرغبتِه بالعيشِ بعزّةٍ وكرامةٍ في بيتٍ زوجيٍّ هانئ، ولم يقفِ الأمرُ عندَ ذلكَ بل تعدّاهُ إلى اقتلاعِ أهلِ القريةِ وإبعادِهم إلى مناطقَ متعدّدةٍ داخلَ إسرائيلَ المُستَحدَثةِ أو خارجَها، وقد عمّقَ ذلكَ الاقتلاعُ الشعورَ بالغربةِ والمرارةِ في أعماقِهم، كما حصلَ للعمّةِ نوّارةَ في إجبارِها على التشرُّد. أيّةُ مرارةٍ وأيّةُ غربةٍ تلكَ التي تجبرُها على عودةٍ لا تقتصرُ إلا على تقبيلِ ثرى وطنِها مثلَ سائحة، ومعانقةِ أقربائِها لفترةٍ قصيرة، ثُمَّ ترتدُّ إلى ما وراء الحدود؟
أمّا غربةُ أهلِ القريةِ الذين بقُوا في إسرائيلَ فلا تقلُّ عَن غربةِ المشرّدين: إنّهم يرَوْن أجزاءَ وطنِهمِ المسروقةَ المغتصَبةَ يوميًّا ولايستطيعونَ الاقترابَ مِنها، إنّهم غرباءُ في وطنِهم، فأيُّ قهرٍ أعظمُ مِن ذلك؟! إنَّ العمّةَ نوّارةَ لم تستطعْ بعدَ أكثرَ مِن أربعينَ عامًا أن تنسى وطنَها وحبيبَها الأوّلَ وزوجَها لشهرٍ واحد، فقد أرغمَها شوقُها للوطنِ على تركِ عائلتِها في الأردنِ والعودةِ المؤقّتة. وإنْ دلَّ هذا الأمرُ على شيء،ٍ فإنّما يدلُّ على أنَّ الوطنَ مغروسٌ فيها رغمَ اقتلاعِها مِنه، فكيف يكونُ الشعورُ بالغربةِ ومراراتِها بالنسبةِ للفلسطينيِّ الذي يعيشُ داخلَ إسرائيل، ويشاهدُ يوميًّا مُغتصباتِهم التي كانت في يومٍ منَ الأيّامِ وطنَه؟! والسؤال الذي يطرح نفسَه: ما هي مدلولاتُ حكايةِ العمّةِ نوّارةَ وتأثيرُها على ندى؟
سألاحظُ ذلكَ مِن ثلاثِ زوايا:
تقول ندى: “كانت سماحُ طفلةً صغيرةً تحبو على الأرضِ عندما فُتِح البابُ لتدخلَ عمّتي نوّارة، وكادت أن تمعسَها مِن شِدّة لهفتِها على العودة” (41). وتقول أيضًا: “أرادت عمّتي أن تحملَ ابنتي لتضعَ في ” عُبِّها” دينارًا مِنَ الذهب، ولكنَّ سماحَ أدارت وجهَها نحوي وتمسّكت أكثرَ بثيابي” (43).
الاقتباسان السابقان يدلّان على نتائجِ التشريد، فالجيلُ الكبيرُ لا يعرفُ الأجيالَ التي وُلِدَت بعدَ النكبة، والإشارةُ واضحة، إذ أنَّ العمّةَ كادت “تمعس” سماح، وبالمقابلِ نلاحظُ رفضَ سماحَ الواضحَ للعمّةِ نوّارة، وتُعَلِّق ندى على ذلك: “لم أفهمْ ما أصابَها ولمَ هذا الرفضُ وهيَ طفلةٌ صغيرةٌ لا تفهم” (43). التفسيرُ البسيطُ لتصرُّف سماحَ هو أنّ هذا الوجهَ (العمّة) مجهولٌ بالنسبةِ لها، ولم تشاهدْه قبلًا بسببِ التهجيرِ والتشتُّت. ولشدّةِ قهرِها تتذكّرُ ندى، في تلك اللحظة، وتستحضِرُ صورةَ اغتصابِها:”يعودُ لي منظرُ الدمِ يُلطِّخُ فخذَيَّ وأنا أرقدُ عاريةً على حافّةِ الطريق.” (42) وكانَ أَوْلى بندى أن تكونَ في قمّةِ الفرحِ لزيارةِ العمّة، ولكنَّ هذه الزيارة، بالمقابل، فجّرَت داخلَها مكامنَ الجراح: جرحِ النكبةِ والغربةِ والاغتصاب. تقول ندى: “لم أشهدْ أبي يبكي سوى مرّتين، عندما انتُهِك جسدي الطفوليُّ، وعندما رأى عمّتي بعدَ غيابٍ طويل.” (42)
الحالة الأولى التي استدعت البكاءَ هي انتهاكُ العِرض، والثانية هي النكبةُ وما نتجَ عنها مِن ضياعِ الوطنِ والتشريد. إنّ ندى لا تحكي هذه الجملةَ جُزافًا بل تنزفُها مِن عُمقِ أعماقِ القهرِ الذي تُعانيهِ وتودُّ التخلُّصَ مِنه، فاغتصابُ الجسدِ كان تعبيرًا نَتج عَن تخلُّفٍ عربيّ، واغتصابُ الوطنِ نفّذَه الأعداء، وهكذا تكاملتِ المأساةُ على المستويَين: الشخصيِّ والوطنيِّ ممّا أطّرَ حياةَ الشخصيّاتِ بقالبٍ منَ المرارةِ والقهرِ والتهميش. يشيرُ استشهادُ نسيم زوجُ نوّارة مُضرَّجًا بدمائِه، وهو يدافعُ عَن فلسطين، في عامِ النكبةِ إلى ثيمةٍ متكرّرةٍ في ليالي ندى، ثيمةِ القتلِ وسفكِ الدماءِ حيثُ تتعانقُ دماؤُه بدماءِ ندى وبدماءِ ميساءَ وبدماءٍ كثيرةٍ أخرى تجعلُ الروايةَ قانيةً في فُحشِ لونِها.
مقتلُ محمودِ الصبّاغ زوجُ ندى وتأثيرُه:
إنّ هذا العنفَ المضمَّخ بالظلمِ والقهرِ الدمويِّ المفروضِ على ندى برزَ في حالةٍ أخرى، وهي مقتلُ زوجِها محمود الصبّاغ (الليلة 27)، إثرَ محاولتِه لإبعادِ تلميذِه خالدِ – الذي استكملَ دراستَه للطبِّ في إيطاليا وتزوّجَ مِن فتاةٍ إيطالية – عَن مُشاجرةٍ في عين ماهل، ولكنّه تلقّى الطعنةَ في صدرِه بدلًا مِن تلميذِه، ومات مُضرَّجًا بدمائِه قبلَ وصولِ سيّارةِ الإسعاف. كان تأثيرُ هذا الحدَثِ على ندى وابنتِها كارثيًّا، فقد عانت ممَّنْ حولَها: مِن أقربائِها وأقرباءِ زوجِها والمجتمعِ على حدٍّ سواء معاناةً مُؤلمةً دونَ أن تجدَ مَن يقفُ إلى جانبِها، فاضطُرَّت إلى تركِ قريتِها (الليلة 25)؛ واضطُرَّت ابنتُها سماحُ إلى الزواجِ مِن أمريكيٍّ يكبرُها بخمسةَ عشرَ عامًا، هروبًا مِن مجتمعِها القامعِ لرغباتِها، مُلتجِئَةً إلى عالمٍ آخرَ مختلفٍ تمامًا عَن عالمِها.
ويستمرُّ النصُّ أحمرَ مُنسابًا بدمويّتِه القانيةِ ليعبِّرَ عَنْ واقعٍ مريرٍ ولئيمٍ وفظيع.
تفجيرُ مطعمِ مكسيم في حيفا:
معلّمةُ الموسيقى كاتيا وابنُها أليكس وتلاميذُها العربز حدَثٌ حقيقيٌّ، وظّفَتْهُ الكاتبةُ لخدمةِ فكرةِ الرواية، وهو عبارةٌ عَن مذبحةٍ جماعيّةٍ امتزجَ فيها اللحمُ بالدمِ بالبارود، نجَمت عن عمليّةٍ فدائيّةٍ لفتاةٍ فلسطينيّةٍ في مطعمِ مكسيم بالقربِ من شاطئِ العزيزيّة في حيفا. وكان ضمنَ القتلى أليكس ابنُ كاتيا معلمةِ الموسيقى التي تدرِّسُ ندى، كان ردُّ فعل ِكاتيا على ما جرى موجَّهًا بالأساسِ إلى تلاميذِها العرب، حيثُ صبَّت جامَ غضبِها عليهِم، قالت لهم: “أكرهُكم، أنتمُ العربَ، أكرهكم جميعكم. حوّلتم بلادي إلى مستنقعٍ مُلوَّثٍ بالحقدِ وبالقتلِ بتفجيراتِكم الغبيّة، تريدونَ وطنًا لكم على حسابِنا؟ لقد وُعِدْنا بهذه الأرضِ التي تطفَّلتم عليها وشوَّهتموها بادِّعاءاتِكم الزائفة. ماتَ ابني الوحيد. وقد كان يشاركُ في ندواتٍ تُطالِب بالعدلِ والمساواةِ والحياةِ المشتركة.” (94-95) وقد أفاضت ندى بوصفِ الدمِ فشبّهَتْه بالنافورة، ووصفت أجزاءَ الأجسادِ وقد تقطَّعَت وشُوِيَت. ثمَّ وصفت رأسَ مُنفِّذةِ العمليّةِ هكذا: “لم يبقَ مِن جسدِ تلكَ الشابّةِ سوى رأسِها على الأرضِ ككُرةٍ مِن لهبِ شيطانٍ ماكرٍ مرتطمًا بأشلاِء الأطفالِ والصبايا والشباب.” (97) ولكي نضعَ الأمورَ في مواضعِها نعودُ إلى حكاية (كاتيا/ أليكس)، والراوي هو ندى التي لم تشهدِ الحدثَ بنفسِها بل نقلَتْهُ عن كاتيا: “كُنّا نتابعُ حكايةَ أليكس وعيونُنا على عليّ” (97)، وأتساءلُ هنا:
- هل كانت ندى وهي تسردُ الحكايةَ تتبنّى موقفَ كاتيا؟
- وهل كان تأثيرُ ما حدث متشابهًا بالنسبةِ لكلتيهما؟
قبلَ أن أُجيبَ عنِ السؤالَين عَلَيَّ أن أحاولَ تعبِئَة تجويفٍ في النصِّ لم تَحْكِهِ كاتيا، ولم يرِد له ذكرٌ مِن ندى. يقول النصّ:”كان أليكس يجلسُ وصديقه العربيّ من سكانِ حيفا. يتدارسان معًا كيفيّةَ التوصُّل إلى تحسينِ التعايُشِ بينَ العربِ واليهودِ في حيفا، بعيدًا عَن أشكالِ الطائفيّةِ والعنصريّة.” (96). ما لم يقُلْهُ النصُّ (كاتيا/ ندى) ماذا حصلَ للعربيِّ في المعادلةِ السابقةِ عندما حدثَ الانفجار؟ لا ذكرَ لذلك بل تجاهلٌ تامٌّ مِنَ الاثنتَين، إنْ دلَّ هذا على شيءٍ فإنّما يدلُّ على أنَّ هناك دمًا يوضَع على رُؤوسِ الأشهادِ، ودمًا آخرَ يُدفَنُ دونَ ذكر، فهل تقعُ مسؤوليّةُ ذلك على كاتيا الساردةِ الأساسيّة أم على ندى الناقلةِ عنها؟ ليستِ الإجابةُ بذاتِ أهميّةٍ لأنّها لا تغيِّرُ حقيقةً حصلت على الأرض، وفجَّرت نافورةَ الدمِ الذي امتزجَ فيها دفقُ قطراتِه اليهوديّةِ بالعربيّة، لتقول: إنَّ الاستثناءَ صارَ قاعدةً واستُبعِدتِ القاعدة، فبدَلًا مِنَ العيشِ بكرامةٍ وسلام، تتفجّرُ نوافيرُ الدمِ لتأخذَ في طريقِها مَن لا علاقةَ لهُم بذلك. فإذا كانت كاتيا تتماهى معَ ابنِها، ونعذرُها لأنَّ الحالةَ لديها ليست قوميّةً فحسبُ بل شخصيّة أيضًا، فإنَّ ندى لا تعترُض بل توافقُها، فالصمتُ في هذه الحالةِ دليلُ قبول.
وإذا ما سلَّمنا مع كاتيا – كما جاءَ على لسانِ ندى – بأنَّ رأسَ الشابّة التي فجَّرَت نفسَها “ماكر”، وأنَّ هدفَهُ القتلُ مِن أجلِ القتل، فإنّنا نظلمُ هذا الرأسَ ظلمًا فادحًا. إنَّ هذا الرأسَ الطفوليَّ “الماكر” أرادَ أن يُعلِنَ احتجاجًا على الاحتلال بطريقتِه الخاصّةِ تعبيرًا عَن عُمقِ الظلمِ الذي يتعرّضُ له الإنسانُ الفلسطينيُّ تحتَ الاحتلال، وبالتالي فإنَّ كاتيا وندى لا ترفضانِ الغايةَ التي رصدَها رأسُ الشابّةِ والمتمثِّلةَ برفضِ الاحتلال، بل ترفضانِ الوسيلة. فهل كانتِ الوسيلةُ “الحضاريّة” للتعبيرِ عَن رفضِ الاحتلالِ أفضلَ؟ يحدِّثُنا النصُّ عن عليٍّ وكاتيا:”صارا يرفعان عَلَمًا أسودَ كُتِبَ عليهِ بخطٍّ أبيضَ “كفى للاحتلالِ ولا لإراقةِ الدماء”، ولكن لم يساندْهُما سوى عددٍ قليلٍ مِنَ الناسِ معظمُهُم مِن كبارِ السنّ.” (97) فلا الوسيلةُ “الغبيّةُ” (الرأسُ الماكر) ولا الوسيلةُ “الحضارية” (التظاهرُ ورفعُ الشعار) بقادرتين على إنهاءِ الاحتلالِ واستمرارِ مُسَلْسَلِ سرقةِ الوطن، وتبقى الغايةُ واحدةً وهيَ رفضُ الاحتلال.
إنّه لَعالمٌ لا يتبنّى إلا الظلمَ والقهر، بينما تأتي مقاومتُهما ضعيفةً لا تصمدُ أمامَ جبروتٍ طاغٍ في عالمٍ مجنون. سيستمرُّ شلّال الدمِ وسيأخذُ في طريقِه مَن لا علاقةَ لهم، هذه هي بؤرةُ الروايةِ التي تجمعُ كلَّ خيوطِها، وتطرحُها ندى على شكلِ تساؤلٍ ذي مرمًى واضح: “لماذا يبقى الماكرون والسارقون وأصحابُ القوّةِ والنفوذِ والقاتلون على قيدِ الحياةِ ويموتُ الأبرياءُ والأنقياء؟” (94) السارقون في العالم لا حصرَ لهم ولكنَّ النصَّ يُشيرُ إلى أولئِكَ السارقين الذينَ سرقوا فلسطينَ مِن أهلِها، الذين قتلوا نسيمًا ومعسوا نوّارتَه وحوّلوا “شجرتَه” الفلسطينيّةَ إلى “إيلانيتِهم” الصهيونيّةِ المغتصبة، وسرقوا (صادروا) وما زالوا يسرقون أراضي عين ماهل وغيرِها. تقول ندى قربَ نهايةِ الرواية: “سنحكي عَن حبٍّ غُدِرَ بهِ وهو ما يزالُ طفلًا رضيعًا في المهد.” (133) إشارة إلى فلسطينَ وأهلِها وإلى نسيمٍ ونوّارة، فمَن هو الذي غدَرَ بهذا الحبِّ، وهو في مهدِه، واغتالَه وسرقَ وطنَهُ ونفى نوّارتَه، وحوّل أهلَهُ إلى غُرباءَ في وطنِهم مُحبَطينَ يائسينَ مُشتّتي الانتماءِ إنْ لم يكنْ ذلكَ السارقُ الماكرُ الغادرُ المغتصب؟
وإذا كان هذا الغادرُ هو السّبّاقُ فإنَّ ردَّ الفعلِ جاءَ ماكرًا وبرأسٍ ماكر، فالردُّ على الغدرِ كان بالمكرِ “والبادي أظلم”. إنّي على يقينٍ مِن أنَّ المكرَ والغدرَ ليسَ بمقدورِهما حلُّ أيّةِ مشكلة، ولكنّهما، وللأسف، هما المسيطران في عالمِنا المجنون. وعلى الرغم مِن سوداويّةِ الرؤيا إلّا أنَّ النصَّ يُعطينا في نهايتِه بصيصًا مِن أمل: “لن أكونَ بعدَ اليومِ عبدةَ الماضي، بل ملكة زمنٍ قادمٍ يحملُ معَه الحبَّ والعدلَ والنقاء.” (133). وأتساءل: هل تستطيعُ هذه المبادئُ الساميةُ أن تُرجعَ نسيمًا وما يمثِّلُه إلى نوّارتِه، أم أليكس إلى حضنِ أمِّه كاتيا، أم ميساءَ المضحّيةَ إلى الحياةِ في ظلِّ أسرةٍ كريمة؟ إنَّ هذه الروايةَ عبارةٌ عن حكاياتٍ تتناسلُ القهرَ والقمعَ والسيطرةَ والاغتصاب، وترضَعُ من حليب الظلم، وتطرحُ أسئلةً كثيرةً أهمّها: إلى متى؟
كان تأثيرُ مقتلِ أليكس على أمِّه كاتيا مأسويًّا، ولكنَّها اتَّخذت مِمَّنْ صبَّت عليهم جامَ غضبِها ملجأً ومُتَنَفَّسًا لمحاولةِ الخروجِ مِن واقعِها الرهيب، وقد تمثَّلَ ذلك بتلك اليدِ الإنسانيّةِ التي امتدَّت نحوَها – يدِ العربيِّ عليّ – وزوَّدَتها بالصبر، فبعدَ وقوعِ الحدثِ الأليمِ مباشرةً كان عليٌّ “يمسحُ دموع َكاتيا بيدِه ويشدُّها إلى صدرِه أكثر.” (97) ولا يتوقّفُ النصُّ عندَ هذا الحدِّ مِن مؤازرةِ الآخرِ بل يسترسلُ إلى أبعدَ مِن ذلك “صار عليُّ ابنًا لكاتيا.” (97) يؤمنان إيمانًا راسخًا أنَّ العنف مرفوضٌ ولا يمكنٌ أن يُعتَمَدَ في أيِّ حلٍّ، بل هو سببٌ لتدميرِ أيّةِ محاولةٍ للحلّ. وتتطوّرُ العلاقةُ بينَهما “صار عليٌّ حبيبَها بالخفاءِ بعدَ أن توقّفَ عن دروسِ البيانو.” (98) ويبقى البعدُ الإنسانيُّ هو ما يعوِّضُ الإنسان، ولو جزئيًّا، عن قِيَمِ هذا العالمِ المجنون.
لم تَعُدْ كاتيا تذكرُ اسمَ أليكس، وهكذا تعزّت بمتنَفَّسَين لتخرجَ مِن أزمتِها: تمثّلَ الأوّلُ بعليّ الذي عوّضَها عنِ الشعورِ بالفقدان، ووقفَ معها في مقاومةِ العنفِ والإرهاب، والثاني بممارسةِ الرقصِ فقد “صارت رقصتُها حزينةً. متقوقعةً.. هادئةً دونَ شغَف .. يداها بالكادِ تتحرّكان .. عيناها لا تنظران إلينا.” (98) وتنظر ندى إلى هذه العلاقةِ بينَ معلِّمتِها وعليٍّ فتغتاظُ غيظًا شديدًا: “حسدتُها، بل حقدُت ونقمتُ عليها، لأنّني كنتُ أتمنّى دومًا لمسةً مِن يدِه أو نظرةً مِن عينَيه اللتين أعشقُهما.” (98) ما سببُ الغيظِ والحسدِ والنقمةِ يا تُرى؟
إذا كانت كاتيا قد وَجَدت مَن يعزيها على مُصابِها بابنِها وفلذةِ كبدِها المقطّعةِ النازفةِ دمًا قانيًا في مطعمِ مكسيم، فإنَّ ندى لم تجدْ مَن يقفُ إلى جانبِها في مصابِها بشرفِها المدمّى والمقذوفِ على أحدِ الأرصفةِ إثرَ اغتصابِها وهيَ صغيرة، وما زال ينتظرُ مَن يقفُ إلى جانبِه ويمدُّ له يدَ العون (لمسة من يده)، ويتطلّعُ إليه بعينِ المواساةِ والمؤازرةِ والعاطفةِ (نظرة من عينيه). ومِنْ مآسي القدرِ أن يصبحَ الفلسطينيُّ في هذِه البلادِ تحتَ رحمةِ اليهوديّ، متأمِّلًا أن يحسِّنَ عَن طريقِه مستوى حياته – كما يظنُّ – بينما يقابلُهُ اليهوديُّ بالاحتقارِ الذي يصلُ حدَّ القرف. هذا ما ترويه ندى في (الليلة السادسة).
حكاية عاصي:
تصفُ ندى حارتَها بحارةِ الجنازيرِ التي يستعملُها السكانُ ليحافظوا على مواقفِ سيّاراتِهم، ولكنَّ عاصي (أحدَ سُكّانِ الحارة) ضجِرَ منَ الأمرِ لكثرةِ اعتداءِ الواحدِ مِنهُم على الآخر، فاضطُرَّ أن يتركَ الحارةَ والقريةَ (عين ماهل) وأهلَه ويتزوّجَ مِنْ يهوديّةٍ روسيّةٍ منَ الناصرةِ العليا ليضمنَ موقِفًا “مُحترَمًا” لسيّارتِه. تزوّجَها وهو يعرفُ أنّها تحترمُ كلبَها بينما تحتقرُ أهلَه. لقدِ استطاعت هذِه الروسيّةُ الحديثةُ العَهْدِ في فلسطينَ أن تسرقَ عاصي مِن أهلِه، مثلما سرقوا الأرضَ مِن نسيم، ومثلما سرقوا نسيمًا مِن نوّارتِه، ومثلما سَرقت كاتيا يدَ عليٍّ وروعةَ عينَيه ِمِن ندى، ومثلما سرق اليهوديُّ الأسمرُ حيفا مِن ندى، وذكّرَها باغتصاِبها الذي شكّل المقدِّمةَ والتمهيدَ لاغتصابِ فلسطين، ومثلما جرَّ معه مقتلَ أليكس. فبدونِ حلِّ المأساةِ مِن جذورِها لا يمكنُ أن يكونَ هناك انفراجٌ بل ستبقى حالةُ القهرِ مستمرّة. إنّ جميعَ محاولاتِ ندى في البوحِ بمأساتِها داخلَ فلسطين قادَتْها إلى طريقٍ مسدود، فقرّرت أن تتجاوزَ المكانَ متطلِّعةً إلى انفراجة، فسافرت مرّتين لزيارةِ ابنتِها في الولاياتِ المتّحدةِ، بحثًا عَن عالمٍ رُبَّما يكونُ مُغايرًا لمأسويّةِ عالمِها، ولكنَّها كانت كالمستجيرِ مِنَ الرمضاءِ بالنار، حيثُ مرَّت بتجربتين عمَّقَتا مشاعرَها:
حكايةُ الجارةِ ميريم:
ميريم الجميلةُ جارةُ سماحَ في أمريكا، ثمرةُ علاقةِ حبٍّ بينَ أبٍ عربيٍّ لبنانيٍّ (خليل) وأمٍّ يهوديّةٍ/ إسرائيليّة (عوفرا)، ورغمَ كلِّ محاولاتِ التفرقة بين الحبيبَين مِن قِبَلِ أهلِ الطرفَين بسبب العداء بينَ الشعبَين، إلّا أنَّ الحبَّ انتصر، وكان سيِّدَ الموقف، فتشكّلَت ميريم، ولكنَّها فقدَت والدَيها. تخبرُ ميريمُ ندى أثناءَ زيارة قامت بها ندى وابنتِها وزوجِ ابنتِها للجارةِ ميريم (العربيّة-اليهوديّة) عن مصيرِهما فتقول:”لماذا خسرتُهما؟ لماذا ماتا في تلكَ الحادثة؟ ألأنَّهما أطهرُ مِن كلِّ شعوبِ الأرض؟!” (104) النصُّ لا يبوحُ بأيّةِ معلومةٍ عن “تلك الحادثة”، ولكنَّ مجرَّدَ ذكرِ كلمةِ حادثةٍ يثيرُ في الذهنِ أنَّ ميتتَهما لم تكنْ طبيعيّةً بل كانت إمّا نتيجةً لحادثٍ عاديٍّ وإمّا اغتيالًا، وأنا أميلُ إلى الاغتيال، لأنَّ العلاقةَ قامت على العداء (عربيّ/ يهوديّة) والسؤال الإنكاريُّ الذي قيلَ على لسانِ ميريم بمرارةٍ يؤكِّد ذلك. إذ كيف امتدَّت نحوَهما يدٌ غادرةٌ لتقتلَ طهارتَهما؟ حاولت ميريم أن تعوِّضَ عن هذه الخسارةِ التي لا تُعَوَّضُ بثلاثةِ أمور: ممارسةِ الرياضة، تربيةِ القطط والعملِ كمهرِّجةٍ لتبعثَ الفرحَ الذي حُرِمَت منهُ في قلوبِ أطفالٍ مَرضى.
حكايةُ العجوزِ الأمريكيّة:
(الليلة 29) عجوزٌ أمريكيّةٌ هادئة بشوشة، تسكنُ في نفسِ العمارة التي تقيمُ فيها ندى وابنتُها سماحُ وزوجُها في بوسطن، فجأة اختفت، وحينَ بحثت عنها ميريم –كما حكت لندى- وقرعَت بابَها، فلم تكنْ هنالك إجابة، اضطُرَّت أن تستعينَ بالشرطة، وانكشف المشهد، حينَ دخل رجالُ الشرطةِ البيت، ليُبرزَ مأساةً حقيقيّة، إذ كانتِ الفئرانُ تنهشُ جسدَ العجوز، وفُتاتُ الخبزِ ينتثرُ على الأرضِ من كيسِها الممزَّق، ولكنّها كانت متمسِّكةً بورقةٍ هي آخرُ أملٍ لها بأن يعودَ لها ابنُها ليساعدَها، ولكن لا حياةَ لمن تنادي. الصورةُ مأسويّةٌ قاتمةٌ تدلُّ على مدى الانفراديّةِ والتوحُّدِ في المجتمعِ الأمريكيّ، ولا أعتقدُ أنّ ميريمَ تسردُ هذه الحكايةَ لندى جُزافًا، بل لأنَّ ميريمَ بدورِها تعيشُ أيضًا حالةً منَ الانفراديّةِ في عالمٍ لا يسألُ الواحدُ فيه عنِ الآخر.
وإذا كانتِ العجوزُ تتمسّكُ بورقةِ أملٍ بعيدٍ لعودةِ ابنِها، فإنَّ ميريمَ لن تجدَ مَلاذًا بعدَ موتِ أهلِها، وكأنّها ترى مصيرَها المأسويَّ المحتومَ مِن خلال مصيرِ هذه العجوزِ البائسة! وكذلك ندى التي تحاولُ الخروجَ مِن مأساتِها فلا تجدُ في كلِّ محاولةٍ إلّا ومأساتُها قدِ ازدادت عُمقًا، فسوفَ تعودُ إلى بيتِها بعدَ زيارةِ أمريكا، وسوف تعيشُ وحيدةً مُنتظرَةً مصيرًا مُشابِهًا. إذا كان المجتمعُ الأمريكيُّ يكرِّسُ الانفراديةَ والتوحُّد كنَمَطِ حياة، فإنَّ المجتمعَ الشرقيَّ يهتمُّ بالحميميّةِ وبالعلاقاتِ الاجتماعيّةِ بشكلٍ كبير، فهل يُقلِّلُ هذا النمَطُ الشرقيُّ للحياةِ مِن مأساةِ ندى أم يزيدُها عُمقًا؟ سأتوقّفُ عندَ تجربتَين تبوحُ بهما ندى في هذا المجال:
حكايةُ الجارةِ المصابةِ بالباركنسون:
(الليلة العاشرة) اضطُّرَّ زوجُ هذه المرأةِ إلى أن يتركَ عملَه، ليتفرّغَ لمساعدتِها بسببِ تفاقُم حالةِ مرضِها بالباركينسون، معَ العلمِ أنَّه يرضى بالعيشِ معها وهي لا تستطيعُ أن تُنجِبَ له طفلًا. هذه الحكايةُ على النقيضِ التامِّ لقصّةِ العجوزِ التي انتهت دونَ أن تجدَ مَن يمدُّ لها يدَ العون، وهذا يوضِّحُ الفرقَ بينَ المجتمعَين. ولكنّنا يجبُ أن نلاحظَ هذه الحكايةَ مِن وجهةِ نَظَرِ ندى التي ترى “أنّ هذا الرجلَ غريبٌ بسلوكِه ورقّتِه وحبِّه”(47)، وأنّه “كان بالنسبةِ لي لُغزًا أتحرَّق لفكِّ شيفراتِه وكشفِ مكنوناتِ صدرِه.” (48) تنظرُ إليه ندى وكأنّه حالةٌ استثنائيّةٌ مُستغرِبةً مِن تصرُّفاتِه: لماذا؟ لأنّه يختلفُ عن أكثريّة الرجالِ الذين عرفتْهم وأنشبوا فيها أظفارَهم ونهشوا جسدَها بأسنانِهم، بدايةً بمغتصبِها مرورًا بقاتلي زوجِها، وبلاعنيها وطارديها مِن قريتِها وانتهاءً بحكاياتها المتعدّدة التي جعلت الرجلَ مؤطَّرًا بنمطيّةٍ سلبيّةٍ ظالمة. وهي لا تكتفي بتضخيمِ هذه الحالةِ الاستغرابيّةِ مِن تصرُّفات هذا الرجلِ بل تعمِّقُها بكلِّ ما نقَلَتْه مِن أحاديثِ النسوةِ اللاتي يستهزئْنَ به، ويعتبرْنَه على حدِّ قولهنَّ:”صحيح إنو إهبل.” (48)
حكايةُ محمودِ الصبّاغ مع زوجتِه الأولى بسمة:
(الليلة العشرون) تسردُ ندى عن محمودِ الصبّاغِ الذي تزوّجَها بعدَ وفاةِ زوجتِه بسمة، كيف كانَ يعاملُ زوجتَه بسمةَ التي كانت مريضةً قبلَ وفاتِها، ويُظهِر السردُ مدى حبِّه لجسدِها الجميلِ الذي أخذَ مِنْهُ المرضُ كلَّ مأخَذٍ مُتلِفًا إيّاه تدريجيًّا، ولأنّه هو زوجُها محمودُ الصبّاغُ مَن كانَ يقومُ بالعنايةِ بها وبجسدِها، فقد عايشَ هذا التحوُّلَ المرَضيَّ القاسيَ الذي ذوَّبَ جسدَها خُطوةً خطوة. إنّها حالةٌ أخرى للقهرِ والعذابِ والمرارة، وعلى الرغمِ مِن إخلاصِ الرجلِ واستمرارِه بالمحافظةِ على مساعدةِ زوجتِه، لكنّهُ كان يتألَّمُ معَ ازديادِ توغُّل المرضِ في جسدِها. ولم يستطعْ أن يخرجَ مِن هذه الحالةِ المحبِطةِ إلّا بخسائرَ نفسيّةٍ رهيبة، ولم يكنْ زواجُهُ مِن ندى بقادرٍ على أن يُخرِجَهُ مِن كوابيسِه اللعينة، فحينَ تُكلِّمُهُ ندى وتنتظرُ جوابَهُ دونَ جدوى تستنتج: “بدا كأنّهُ لم يُصغِ إلى كلامي بل إلى هواجسِه.” (69) وتفاقمت هواجسُهُ إلى كابوسٍ “تظهرُ فيه بسمةُ وتقودُهُ إلى هاوية.” (54) أثَّرَ ذلك على صِحَّتِهِ التي تدهوَرَت، وعزتِ النساءُ سببَ ضعفِهِ إلى ندى، فاتَّهمْنَها باستغلالِهِ جنسيًّا بشكلٍ مُبالَغ فيه ولا يتحمَّلُه.(56)
نلاحظُ أنّ هواجسَ محمود وكوابيسَه، جعلتْهُ يتمسّكُ بندى باعتبارِها تعويضًا عن بسمةَ وملجأً له مِن كوابيسِها المتتالية، كان يقولُ لندى: “ضُمِّيني إليكِ ندى..أنا خائفٌ..أحبِّيني قدرَ استطاعتِك” (70)، ممّا يُظهِر الهاويةَ التي يريدُ الخلاصَ مِنها، ولكنّها لا تبرحُه بل تظلُّ تشدُّهُ إلى أعماقِها. إنّ ندى التي لا تريدُ أن تتوقّفَ عنِ السرد، وستظلُّ تحكي ما شاءت لها الأيّام، إنّما هي تضيءُ دهاليزَ آلامِها وعمقَ مرارتِها، وتصفُ ما تراه خارجيًّا كانعكاسٍ لما تستشعرُه في أعماقِها، لتعبِّرَ عن عصرٍ توهّجَت فيه الآلامُ لتعمَّ الكون، فكانت صادقةً في التعبيرِ عنِ اللحظةِ الحضاريّةِ الراهنة. والسؤال: أما مِن مَخرَجٍ مِن هذه الورطةِ الحضاريّة؟ طرحْتُ سابقًا بعضَ المحاولات، وسأطرحُ غيرَها، في القسم الثالث، الذي يتناولُ الأساليبَ الفنيّةَ في روايةِ حكايات الليدي ندى.
القسم الثالث: الأسلوب
الأسلوبُ هو مجملُ الاستراتيجيّاتِ التي يوظِّفُها المبدِع، والتي تُعبِّرُ عن حالتِه النفسيّةِ في لحظةِ الإبداع، مِن أجلِ إبرازِ المعنى الذي يريدُ توصيلَه، وتعميقَه. ويهدفُ بذلك إلى أنّ المعنى والأسلوبَ متلازمان كخَلْقٍ واحد، فلا معنى للإنسانِ كروحٍ بلا جسدٍ أو كجسدٍ بلا روح. وقد ركّزتُ في القسمَين السابقَين على تتبُّعِ المعنى والمقاصدِ دونَ أن أُهملَ الأسلوب، لاعتقادي أنّهما اثنان في واحدٍ متكامل، وأنّ الدراسةَ الأفضلَ للنصِّ الإبداعيِّ يجبُ أن تقومَ عليهما مُتلازمَين وبلا انفصال. ولكنّنا إذ نقومُ بذلك الفصلِ الشكليِّ فإنّنا نفعلُه مِن بابِ تسهيلِ الدرسِ النقديّ، وليس فصلًا بينَ روحِ النصِّ وجسدِه.
الحبكة:
أنقرأُ نصّ الليالي عموديًّا أم أُفُقيًّا؟: تقترحُ المؤلِّفةُ على قارئ الليالي أن يقرأَ النصَّ بشكلٍ عموديّ: أيْ أنْ يبدأَ مِن أيّةِ ليلةٍ يختارُها، ويتنقّلَ في قراءتِه وتقبُّلِه بينَها حسبَ اختيارِه، لأنّها كمؤلِّفةٍ لا تتَّبعُ الحبكةَ التقليديّةَ التي تتنامى عبرَ امتدادِ النصِّ أفُقِيًّا.(11) يتناسبُ ما جاءَ على لسانِ المؤلِّفةِ معَ الأسلوبِ الذي كُتِبت به الرواية، وهو أسلوبُ الرسائلِ الأليكترونيّةِ عبرَ الماسينجر، على اعتبارِ أنَّ كلَّ رسالةٍ قد تحملُ حبكةً قائمةً بنفسِها ومختلفةً عن غيرِها، فلا تتشكّلُ مِن أحداثِ هذه الحبكاتِ حبكةٌ واحدةٌ تقومُ على علاقةٍ سببيّةٍ تربطُ هذه الأحداثَ ببعضِها، لكي تنبنيَ حبكةٌ متماسكةٌ كما في الروايةِ التقليديّة، فروايةُ الرسائلِ تعتمدُ على إقامةِ حالةٍ مِن تراكُميّةِ الأحداثِ ذاتِ التوازي والتضادِّ والانعكاساتِ الكثيرةِ على شخوصِها مِن أجلِ التأثيرِ عليهِم أوّلًا وعلى قارئِها ثانيًا.
سأناقشُ هنا بنيةَ الحبكة، وقد لاحظتُ في القسمِ الثاني مِن هذه الدراسةِ أنَّ حكاياتِ ندى ذاتُ حبكاتٍ لا تُغْلَق بل تتعالقُ ببعضِها حتى ولو كان هذا التعالُقُ متباعدًا. سأحاولُ أنْ أُوضِّحَ هنا: لماذا القراءةُ الأفُقِيّةُ لهذا النصِّ أفضلُ مِنَ العموديّة، مِن خلالِ أمثلةٍ نصيّةٍ تطرحُها الرواية. نفترضُ أنَّنا بدأنا القراءةَ منَ الليلة الثانية، اعتمادًا على اقتراحِ المؤلِّفةِ بأنْ نقرأَ عموديًّا، حيثُ تروي ندى حكايةَ زواجِ ابنتِها سماحَ مِن ويليامَ الأمريكيّ، ولكنَّ إسراءَ تُرسلُ لها إشارةً عبرَ الماسينجر أثناءَ ذلك الحكيِ تقول:” ولكنْ لم تُكملي لي حكايةَ جارتِكِ ميساءَ..ماذا فَعَلَتِ اليوم؟”، مما جعلَ ندى تتوقّفُ عنْ حكايةِ ابنتِها لتستكملَ حكايةَ ميساء. أيْ أنَّ إسراءَ تسألُ ندى: وماذا حصلَ بعدَ ذلك؟ وهذا معناهُ أنَّ على الراوي أنْ يُكملَ ما بدأَه، وعلى القارئ أن يعودَ إلى ما رواه هذا الراوي في الليلةِ الأولى، ممّا يستدعي قراءةً تتابُعيّة.
في الليلة الثالثة تطلبُ إسراءُ مِن ندى أن تُبديَ رأيَها بالحبّ، فتعتمدُ في ذلك على موقفِ ابنتِها سماح منَ الحبّ، وتَستكمِلُ قصةَ سماحَ وزواجِها التي لم تُغلَق في الليلةِ الثانية. وهكذا نجدُ تناسُلاتٍ نصِّيَّةً تتابُعيّةً تستدعي قراءةً أفقيّة، تزيد القارئ مُتعةً وتوسِّعُ مداركَهُ. ولم تتشكَّلْ هذه القراءةُ إلّا مِن أعماقِ الراوي وانفعالاتِه وتداعياتِه وانعكاساتِ الأحداثِ عليه وعلى غيرِه مِن شخصيّاتِ الروايةِ ومقارناتِه واستذكاراتِه واسترجاعاتِه وغيرِ ذلك. هذا الأسلوبُ يُعمِّقُ العلاقةَ بينَ الراوي والقارئ، وأعتبرُه أهمَّ مقوِّماتِ هذا النصّ. تحكي ندى، في الليلةِ الخامسة، أنَّها كانت تسيرُ وحيدةً في إحدى ليالي الشتاءِ عندَ مغيبِ الشمس، وهذا حفَّزَها على تذكُّرِ ليلةِ اغتصابِها، وهي في العاشرةِ مِن عمرِها، تقول: “كنتُ أُسرعُ الخُطى بينما أسمعُ وقعَ حلقاتٍ حديديّةٍ تحتكُّ ببعضِها”، وبعدَ سطرَين تقول: “لكنَّ صوتَ احتكاكِ الحلقاتِ الحديديّةِ وهي تئِزُّ لم يتوقّف.” (34) وفي الليلة السادسةِ تتحوّلُ هذه الحلقاتُ إلى جنازيرَ، بحسبِ تداعياتِ ندى: “عدتُ إلى “حارة الجنازير”، وهذا ليس الاسمَ الحقيقيَّ للحارةِ بل هو مِنَ اختراعاتي.” (36)
إنَّ هذا التناسُلَ داخلَ النصّ، المبنيَّ على التداعي، يفتحُ المجالَ لسردِ حكايةِ أبي عاصي وابنِه. ويُهيِّءُ لإسراءَ التي استقبلَتْ رسالةَ ندى عنِ اغتصابِها في الليلةِ الخامسة، أن تكونَ المرآةَ التي تعكسُ ما جرى لها مِن محاولةِ اغتصابٍ أيضًا، كما وردَ على لسانِها في الليلةِ السابعة، وكأنَّ نصَّ ندى محفِّزٌ لإسراءَ على أن تبوحَ أيضًا بما لديها، وفي الليلةِ الثامنةَ عشْرةَ تروي إسراءُ كيف التجأَتْ لمعلِّمتِها “زهرة”، تحكي إسراء:”قصصْتُ عليها حكايتي .. رجوتُها أن تُبقيني عندَها تلك الليلة، فأنا أخافُ لسعاتِ أبي ولكماتِه بعدَ أن يكتشفَ هزيمةَ صديقِه معي.” (61) ولن يُدرِكَ القارئُ مقاصدَ إسراءَ إذا لم يكنْ على اطِّلاعٍ على ما حصلَ سابقًا، وحتمًا لن يُدرِكَ أيَّ معنًى لكابوسِها الذي تنتقمُ مِن خلالِه ممَّن حاولَ اغتصابَها. ولعلَّ الانعكاساتِ المرآويّةَ المتبادلةَ في ما جرى لكلٍّ مِن إسراءَ وندى تُظهِرُ أنَّ مصيرَهما لم يُقَيَّدْ بحلقاتٍ حديديّةٍ فحسب، بل بجنازيرَ حديديّةٍ تفرِضُ عليهما القهرَ والاغتصاب.
أعتقِدُ أنّ النصوصَ الثلاثةَ الخارجةَ عنِ الليالي والتي يرويها جعفر، وجاءت بشكلٍ تتابُعيٍّ، ولم توزِّعْها المؤلِّفة بينَ الليالي، تفترضُ سردًا تتابُعيًّا، يرتقي بجعفر تدريجيًّا منَ الاطِّلاع على ما يجري، إلى ردِّ الفعل، إلى اللجوءِ إلى الكوابيس، إلى إحراقِ كُتُبِه، إلى إعلانِه المستفِزِّ أنَّهُ سيُحاولُ أن يفهمَ الحياةَ التي لم يفهمْها سابقًا ولم يتَّخذْ مِن أخطائِها موقِفًا. قراءةُ هذه النصوصِ لا يمكنُ أن تتأتّى إلّا أفقيًّا. تقول ندى في الليلةِ الثلاثينَ (الأخيرة)، وعلى مستوى الحلمِ بالكبسولة، ومَن بداخلِها: “نظرتُ إلى عينَيهِ بلونِ البُندقِ المحمَّص، فسقطتُ بشِباكِ أهدابِه السوداء، إنَّه يشبهُه”(128)، يشبه من يا تُرى؟ هذا الوصفُ للشخصيّةِ يُعيدُ القارئَ إلى ما حصلَ في الليلةِ الثانيةِ والعشرين، حيثُ التقَت ندى بشابٍّ يهوديٍّ كان يجلسُ على طاولةٍ قُبالتَها في مقهًى بشاطئِ العزيزيّة (دادو) في حيفا، أُعجِبَت بعينَيهِ وباحَت بذلك: “عيناه بلونِ البُندُقَ المحمَّصِ تزيَّنَتا بأهدابٍ سوداء.”(90)
وقد وضَّحْتُ ماذا يمثِّلُ هذا اليهوديُّ بالنسبةِ لها سابقًا، وإذ تلتقي به ندى هنا في حُلمِها، فإنَّها تُصِرُّ على تذكيرِنا به بشكلٍ مباشرٍ لنُراجعَ لقاءَها به في الليلةِ الثانيةِ والعشرين، تقول:”أذكرُ جيِّدًا يومَ لقائِنا في ذلك المقهى على شاطئِ دادو في حيفا، لم نلتقِ بعدَها.” (130) واضحٌ أنّ الأمورَ متعلِّقةٌ ببعضِها ممّا يرجِّحُ كفّةَ القراءةِ الأفقيَّة. ولا يُفهمَنَّ مِن ملاحظاتي السابقةِ أنَّ أحداثَ الروايةِ مرتَّبةٌ كرونولوجيًّا، بل هناك حكاياتٌ تتناولُ مُجرياتِ الزمنِ الأقربِ لتعودَ إلى الأبعد، مثل حكايةِ العمّةِ نوّارةَ وزيارتِها لفلسطينَ بعدَ معاهدةِ السلامِ معَ الأردن عامَ 1994، وقد سردَت ذلك ندى في الليلة الثامنة، بينما عادت في الليلة التاسعة إلى أحداثِ النكبةِ عامَ 1948 مُوَظِّفةً أسلوبَ الاسترجاع.
وكذلك عندما حَكَت ندى عنْ زوجِها في الليلةِ الثالثة: “قبلَ أن تُقنعوني بهذا الأرملِ لأتزوّجَهُ بعدَ أن تجاوزتُ الثلاثينَ مِن عمري، يعني “عنَّست بالفُصحى”. صِدقًا لا أنكرُ فضلَه عليَّ فقدِ استطاعَ أن يجعلَني أُمًّا، لكنّني لن أسامحَهُ على مغادرتِهِ العالمَ بعدَ سبعِ سنواتٍ فقطْ مِنَ الزواج.” (30) هذه السابقةُ عن موتِ الزوجِ التي ذُكِرَت في الليلة الثالثة، لم تُغلَقْ، ولمْ تُعَدِ الإشارةُ إليها إلّا في الليلةِ السادسةِ والعشرين، مِن خلالِ سماحَ الصغيرةِ التي رأتْهُ على فراشِ الموت، دونَ ذكرِ السبب، ثُمَّ يليهِ سردُ ندى في نفسِ الليلةِ ليوضِّحَ طريقةَ قَتْلِهِ البشعة. نلاحظُ التعالُقَ بالأحداث، وهذا يَفترِضُ قراءةً أُفُقيَّة. إنَّ لذّةَ هذه الروايةِ تقومُ على قراءتِها قراءةً انسيابيّةً، محافِظةً على ترتيبِ الليالي الوارد، لأَّنها تَهَبُ النصَّ روحًا تتنامى، فيشعرُ قارئُهُ أنَّهُ أصبحَ يعيشُ داخلَهُ ويؤثّرُ فيه، بنفسِ المقدارِ الذي يؤثِّرُ النصُّ بدورِه فيه.
أنا لا أسلبُ الكاتبةَ حقَّها في توجيهِ القراءة، استنادًا لملاحظتِها في بدايةِ الرواية، لأنَّ بعضَ الحكاياتِ يمكنُ أن تُقرأَ عموديًّا، وإذا عُدنا إلى الكولاج في فنِّ الرسم، فإنّنا نعرفُ أنَّ الرسّامَ (الساردَ) يضعُ القُصاصةَ الكولاجيّةَ (الحكايةَ) في موضعِها الصحيحِ لتعطيَ مدلولَها الملائم. وإذا كانتِ الكاتبةُ قد أدخلَتْ حكاياتٍ معيَّنةً بينَ الحكايتَين الأساسيّتَين لأُسرتَي ندى وإسراء، فقد فعلَتْ ذلك بعدَ قراءاتٍ متعدِّدةٍ للنصّ، بحيثُ تتناسبُ هذه الحكاياتُ مع نفسيَّتِها أو نفسيّةِ الشخصيّاتِ وحكاياتِها، لتُؤَدِّيَ مدلولاتٍ فكريَّةً وجماليَّةً.
السرد
لا أعتقدُ أنَّ توظيفَ أسلوبِ السردِ بأنواعِه المختلفة: الخارجيِّ/ الداخليِّ، المباشرِ/ غيرِ المباشر، الأحاديِّ/ البليفونيِّ، المعَلِّقِ/ المحايدِ، زاويةِ رؤيتِه، لغتِه بجدِّيَّتِها وسُخريَتِها، وغيرِ ذلك مِن أساليبِ السردِ التي يبتكرُها الكاتب، يأتي كمجرَّدِ لعبةٍ فنيّة، بل يتطلّعُ المؤلِّف، بطرائقِ سردِهِ وبمجملِ أساليبِهِ الفنّيَّةِ التي يستعملُها في عملِهِ الإبداعيّ، إلى أن يُنتِجَ معنًى وأيديولوجيا في إطارٍ فنِّيٍّ راقٍ، يُقدَّمُ للمتلقّي ليتمتّعَ بفنيّتِهِ وفكرِهِ كوحدةٍ واحدة. مِن هذا المنطلَقِ يلتفتُ قارئُ النصِّ السرديّ، إلى التعرُّف على الساردِ لأنّه يُمثِّلُ بالنسبةِ له فاتحَ أبوابِ النصّ، وقائدَهُ عبرَ دهاليزِهِ وزواياهُ وشخصيّاتِه، ليكشفَ له هذه المساربَ مُحاوِلًا إشراكَهُ في مُغامرةِ الكشفِ والاكتشافِ التي تستمرُّ حتى نهايةِ النصّ، لتؤدِّيَ إلى تلمُّسِ رُؤيا المؤلِّف المطروحة، مِن خلالِ تفاعلِ القارئ مع هذا الأسلوبِ السرديِّ الذي تمَّ توظيفُه.
ولنسأل: مَنْ هو الراوي في هذه الحكايات؟
مِنَ الواضح، مِن عُنوانِ الرواية، أنَّ سيِّدةَ الحكيِ هي الليدي ندى، وقد شبّهتُها في القسمِ الأوّلِ مِن هذه الدراسة، مجازيًّا، بشهرزادَ راويةِ “الف ليلة وليلة”، فعندَها يتجمّعُ السردُ وكأنَّها بؤرتُهُ، ولكنَّها ليست، حتمًا، الوحيدةَ التي تحكي. وبما أنَّ السردَ مبنيٌّ على أسلوبِ الرسائلِ الحاسوبيّةِ عبرَ الماسينجر، بينَ ندى وإسراء، فإنَّهُ يتمُّ بشكلٍ ثنائيٍّ وتبادليّ. وقد أشرْتُ، في القسم الثاني، إلى علاقتِهما التي تكادُ أن تُحوِّلَ الاثنتين إلى شخصيّةٍ واحدة. ويتشكّلُ السردُ عبرَ رسائلِهما المتبادلةِ التي تكشفُ سيرتَهُما القائمةَ على بوحِهِما بعلاقاتِ كلٍّ منهما بِمَنْ حولَها ومجرياتِها، ولكنَّ قارئَ الروايةِ يُلاحِظُ مدى الاستثارةِ لدى ما تسردُهُ إحداهُنَّ وتأثيره على الأخرى، ليتحوَّلَ لديها إلى حافزٍ لتسردَ ما جرى معَها، فكأنَّ سَردَ الواحدةِ مِنهُما مرآةٌ تقابلُها مباشرةً مرآةٌ أُخرى تتأهّبُ لتعكسَ نفسَ التداعياتِ التي وردَت في مرآة الأولى، وأكثرَ مِنها عُنفًا. ولكنَّ كفَّةَ السردِ تظلُّ راجحةً لصالحِ ندى التي تُعتبَرُ الراويَ المركزيَّ.
نُلاحظُ حضورَ إسراءَ في المشهدِ السرديِّ في بعضِ الليالي، مع أنَّ الساردةَ الأساسيّةَ ندى، ويكونُ هدفُها استثارةَ ندى على البوحِ والاستمرارِ بسردِ حكايةٍ قد توقّفَت عن سردِها عندَ نقطةٍ مُشوِّقة، ممّا يُعطي السردَ حيويّةً، ويشجِّعُ ندى على الكشفِ أكثرَ فأكثر، كما حصلَ في الليلتَين الثانيةِ والثالثة.
ولكنَّها في الليلةِ السابعةِ والثامنةَ عشْرةَ والتاسعةَ عشْرةَ تصبحُ هي الراويَ الفعّال، فتكشفُ، مِن وجهةِ نظرِها (مرآتها)، أبعادَ حياتِها داخلَ أسرتِها، وما تُكابدُهُ مِنَ العذابِ والقهر، بسردٍ مبنيٍّ على الوعيِ تارةً وعلى الحُلمِ أخرى. ويرفِدُها أخوها جعفر بسردِهِ لثلاثِ ليالٍ “خارجة عن الليالي”، مِن خلالِ مرآتِهِ العاكسةِ لزوايا قامَ بتوضيحِها مِن عذاباتِ إسراءَ وأمِّها وعذاباتِهِ هو أيضًا، فقد كانتِ الأسرةُ تعيشُ مأساةً رهيبةً فعلًا، حقيقيّةً ولا مبالغةَ بسردِها، وقدِ اتَّهمَت ندى إسراءَ أنَّها تبالغُ في نثرِها (سردِها) كما تبالغُ في شِعرِها، فما كان مِن جعفر إلّا أنْ نفى هذه التهمةَ مُعتبِرًا نثرَ أختِهِ عنِ القهرِ حقيقةً، بل هنالك أبعادٌ للقهرِ أكبرُ مِن سردِها بكثير.(63)
كيف تروي ندى؟ سأحاولُ، اعتمادًا على فقرةٍ سرديّةٍ أن أُلاحِظَ طرائقَ السرد، وأناقشَها: “عندما حان وقتُ عودتي إلى البلاد، احتضنَني وقبّلَني على وجنتيَّ قائلًا لي إنّه سيشتاقُ إلى طبخاتي اللذيذةِ، وهو سعيدٌ بي لأنّني أنجبتُ له “إيفا”. خفتُ مِن كلِّ هذا الحنانِ لأنّني لم أعتدْ عليهِ، لا مع “أبو سماح” ولا مع غيرِهِ الذينَ عشقتُهم في الخيال، قبلَ أن يقنعوني بهذا الأرملِ الهَرِمِ لأتزوّجَهُ بعدَ أن تجاوزتُ الثلاثينَ مِن عُمري، يعني “عنَّست بالفصحى”. صِدقًا لا أنكرُ فضلَه عليّ، فقدِ استطاعَ أن يجعلَني أُمًّا، لكنّي لن أسامحَهُ على مغادرةِ العالمِ بعدَ سبعِ سنواتٍ فقطْ مِنَ الزواج”. (29-30)
يبدأُ السردُ بطريقة العَرْضِ، أيْ عَرْضِ أحداثٍ تتعلَّقُ بالشخصيّة، فقد عرضَت ندى طريقةَ وداعِ ويليامَ لها، بحيثُ أظهرتْهُ حميميًّا في توجُّهِهِ لها، حاضنًا، ومُعبِّرًا عن مشاعرِهِ وشِدَّةِ شوقِه ليس لحماتِه التي ستغادرُ أمريكا، بل لطبخاتِها اللذيذة، أو لأنّها أنجبَت لهُ “إيفا”. يُلاحَظ أنّ طريقةَ السردِ التي بدأَتْ باسلوبِ العَرْض، جاءَت بلغةٍ تحملُ سُخريةً لاذعة، فقد بدأت بحميميّةٍ نحوَ الإنسانِ باحتضانِهِ وتقبيلِهِ، ولكنَّها تحوّلَت سريعًا إلى طبخاتٍ ومصلحةٍ ذاتيّة، لإبرازِ عقليّةِ الأجنبيِّ التي تميلُ إلى النفعيّةِ والمصلحة. ولم تُعطِ ندى ويليام، وهو الأمريكيُّ، أن يُعبِّرَ عن أفكارِهِ بلغتِهِ الإنجليزيّة، بل ترجَمَت ما جاءَ على لسانِه، بطريقتِها، دونَ أن تُتيحَ للشخصيّة أن تتشكّلَ بكاملِ دراميّتِها وحيويّتِها.
ندى كراويةٍ لا تتردّدُ بعدَ هذا العَرْضِ للوداعِ بأن تُعلِّقَ عليه، أي تتدخّلَ به: “خفتُ مِن كلِّ هذا الحنانِ لأنّني لم أعتدْ عليه.”، ويجيءُ تعليقُها أطولَ مِن عَرضِها. الغرضُ الذي ترصدُهُ المؤلِّفةُ مِن توظيفِها لأسلوبِ عرضِ الأحداث، أو إعطاءِ المعلوماتِ أو حتى مَسْرَحَةِ الأحداثِ (إتاحةِ المجالِ للشخصيّةِ أن تُعبِّرَ عن نفسِها بشكلٍ حُرٍّ: حوار)، أوِ التعليقِ على ذلك بلغةٍ جدّيّةٍ أو ساخرة، ما هو إلّا تطلُّعٌ إراديٌّ لكشفِ أعماقِ ندى وحالتِها النفسيّة، بمعنى أنَّ الخارجيَّ الذي يستثيرُ ندى، يجعلُها تُلمِّعُ مراياها السرديّةَ الداخليّةَ لتعكسَ ذبذباتِ توتُّراتِها ومعاناتِها. فالحميميّةُ، حتى لو كانت مُصطَنَعَةً، على المستوى الخارجيِّ، فإنّها تنعكسُ على المستوى الداخليِّ لديها، على مرآةٍ تصوِّرُ عمقَ ما تعانيهِ مِن حرمانٍ مِنَ الحبِّ والحنان، مع معظمِ مَن تخيّلَتْ أنّها تحبُّهُم، حتّى مع “أبو سماح” الذي لم تتزوّجْهُ عن حبّ، بل تقول: أقنعوني بهذا الأرملِ الهرِم.
وبطريقةِ إعطاءِ المعلوماتِ تستمرُّ ندى ببوحِها، فتعترفُ أنّها “عنّست بالفصحى”، ودلالُة هذه الجملة، أنّها عنّست بناءً على تفكيرِ الناسِ الذين يعيشون في بيئتِها وعاداتِهم. ولذلك يجبُ أن تسايرَهُم وتسايرَ عاداتِهم، وتكسرَ عقدةَ “العنوسة” وتتزوّجَ، حتى لو كانَ زواجًا عن غيرِ حبٍّ، ومِن رجلٍ هَرِم. ولا تتركُ ندى هذه الفقرةَ السرديّةَ دونَ أن تُعطيَ معلومةً مبتورة، لتستثيرَ القارئَ وتشوِّقَه: وهي مغادرةُ هذا الأرملِ الهرِمِ “أبو سماح” لهذا العالمِ بعدَ سبعِ سنواتٍ فقطْ مِن زواجِهِ مِنها، أيْ وهيَ لا تتجاوزُ السابعةَ والثلاثين مِن عمرِها. هذه المعلوماتُ الناقصةُ والمبتورةُ تجعلُ القارئَ يتساءل: كيف عاملَها زوجُها؟ ولماذا قالت: “غادر العالم” ولم تقل: مات؟ ولماذا تُسمّي في سردِها ابنتَها “إيفا” عندما يتعلّقُ الأمرُ بوليام، وتسمّيها “سماح” عندما يتعلّقُ الأمر بها؟
هذه سوابقُ تحتاجُ إلى لواحقَ لكشفِها، ولكنَّ اللواحقَ بدورِها تأتي مبتورةً، ممّا يحوِّلها إلى سوابقَ محتاجةٍ إلى لواحقَ أخرى، وهكذا تستمرُّ اللعبةُ حتى نهايةِ الرواية، وتجعلُ القارئَ مُتَلَهِّفًا لاستمرارِ القراءة. وفي بعضِ الرواياتِ لا نستطيعُ إغلاقَ جميعِ الفجواتِ بينَ السوابقِ واللواحقِ حتى بعدَ انتهاءِ القراءة، وتبقى تلاحقُنا، وتستحثُّنا على إعمالِ التفكير. وهذه الروايةُ تنتمي إلى ذلك. يأتي سردُ ندى أحيانا مُباشرًا، وأحيانًا غيرَ مباشر، ويستطيع القارئُ أن يُميِّزَ بينَهما بسهولة، فما ترويه عن نفسِها وعن أسرتِها وعن جارتِها ميساء، وما تستذكِرُهُ أو تسترجِعُهُ، وحصلَ معَها، هو سردٌ مباشرٌ، مثلًا: “خِفت وأَخذتُ ألتصقُ بحافّةِ الرصيفِ الداخليّةِ بينما السيّارةُ تلاحقُني وتحاولُ إقفالَ الطريقِ عليَّ.” (35)
أمّا السردُ غيرُ المباشر، فجاءَ عندَ سردِ ندى لحكاياتٍ لم تشاركْ بها، حتى ولم تعِشْ أحداثَها، وسأعطي مثالَين يوضِّحان كيف تعاملَت مع هذا النوعِ مِنَ السردِ غيرِ المباشر: الأوّل في الليلة التاسعة تسردُ ندى أحداثَ زيارةِ عمّتِها نوّارة -بعد توقيعِ اتّفاقيّةٍ بينّ الأردنِ وإسرائيلَ عامَ 1994- لمغتصبةِ “إيلانيا” التي كانت قبلَ النكبةِ “الشجرة”، مُصَوِّرةً انفعالَ عمّتِها على هذه الشاكلة:”كانت تُمرِّغُ وجهَها بالترابِ الرطبِ. تقبضُ على حفنةٍ مِنه ثُمَّ ترفعُها إلى فمِها تقبِّلُها وتفركُ شفتَيها بالتراب. كانت تبكي بحرقةٍ سنواتٍ طويلةً قد سُرِقَت منها. إنّها لا تنسى ذلك اليومَ الربيعيَّ مِن أيّارَ بعدَ شهرين مِن زفافِها. رفض معشوقُها نسيم أن يبقى إلى جانبها.” (44) هذا السرد يقوم على التذكُّرِ لما جرى عامَ 48، والإصرارِ على عدمِ نسيانِه من صاحبةِ شأنِهِ نوّارة، وليس مِن ندى، ولكنَّ ندى هي التي تقومُ بالسرد، وعليهِ فقد جاء السردُ غيرَ مباشر، مُتَّكِئًا على قراءةِ ما لم ولن تنساه نوّارة.
بل يتكرَّرُ استذكارُه لديها ليُحفِّزَ على السرد. ولكي أكونَ دقيقًا باستعمالِ المصطلح أقول: إنّ سردَ ندى هذا لذكرياتِ نوّارةَ لم يَقُمْ على استذكار، بل على استرجاع، مع أنَّ الإثنين يتشابهان في تناولِهِما لأحداثٍ حصلت في الماضي، لأنّ الاستذكارَ يعطي معلوماتٍ عنِ الشخصيّةِ وما جرى معَها (حكاية عاصي مثلًا)، بينما الاسترجاعُ لا يكتفي بالمعلوماتِ، لأنَّهُ يعتمدُ طريقةَ العَرْضِ التي تُصوِّرُ الشخصيّةَ في حالةِ فعلٍ وحيويّة. معنى ما أقول، أنَّ ندى التي لم تكنْ موجودةً داخلَ الحدث، استطاعَت أن تسترجعَهُ بكلِّ تفاصيلِهِ وتجعلَ القارئَ يعايشُه: فقد خرجَ نسيمٌ لفترةٍ قصيرةٍ للاهتمامِ بأرضِهِ ومزروعاتِه، بينما كانت عروسُهُ نوّارةُ تُحضِّرُ لهُ الطعامَ ومُقبِّلاتِه، ولكنّهُ لم يعُدْ إلّا محمولًا على أكُفِّ الشبابِ ومُلطَّخًا بالدماء. وندى لا تسردُ ذلك بطريقةٍ مُختصَرَةٍ معلوماتيّة، كما أفعلُ هنا، بل بطريقةِ العَرض التي تعتمدُ على تصويرِ الشخصيّةِ في حالةِ فِعل.
الثاني: في الليلةِ التاسعةِ والعشرين، يتناولُ النصُّ حكايةَ المرأةِ الأمريكيّةِ التي كانت تعيشُ وحيدةً في بيتِها: «البيت الذي تسكنُه ندى وابنتُها وزوجُها الآن»، ثُمَّ اختفَت دونَ أن يُعرَفَ سِرُّ اختفائِها، وتمَّ كسرُ البابِ مِن قِبَلِ الشرطةِ لتَظهَرَ مأساةُ الوحدةِ التي تُعاني مِنها المجتمعاتُ “المتحضِّرة”. يبدأُ السرد على لسان ندى هكذا: “آلمتني حكايةُ الجارةِ الحسناءِ وزعزَعَت قُدُراتي الانطباعيّةَ عنِ الناس. لكنّ الحكايةَ الأغربَ التي هزّتني هي تلك التي سمعتُها مِنها عن تلك المرأةِ التي كانت تسكنُ في الشقّةِ نفسِها التي نقيمُ بها الآن!” (124-125) الجارةُ الحسناءُ هي ميريم، وهي التي تنَحَّت ندى عنِ السرد، لتُتيحَ لها المجالَ لتقَوم بعمليّةِ السردِ مِن وجهةِ نظرِها، بدلًا منها، دونَ أن تتدخّلَ بهذا السردِ إلّا في مواضعَ قليلةٍ. وإذ تحكي ميريمُ لندى الأحداثَ بأبعادِها المختلفة، فإنّها تؤكِّد مشاركتَها فيها لأنّها تستدعي الشرطةَ عندما طالت فترةُ اختفاءِ هذه المرأة.
وفي حكايةِ ميريمَ عن سيرتِها، تحيكُ ميريمُ خيوطَ السردِ عن تعارُفِ والدَيها (عوفرا-خليل) وحبِّهِما رغمَ تناقضِ انتمائِهِما، وأمّا نتيجةُ هذا الحبِّ فكانت إنجابَها ومقتلَهُما. لا تروي ميريمُ الحكايتَين بأسلوبِ إعطاءِ المعلوماتِ بل بأسلوبِ العَرْض، أي أنَّ الشخصيّاتِ في حالةِ فعلٍ، وحيويّة، وهذا يشدُّ القارئَ وندى معًا ليبقَيا في حالةِ إنصات، ويؤكّد ُجماليّةَ السردِ بشحنِهِ لمشاعرِ المتلقّي وتحفيزِه.
ما الفرق بين المِثالَين؟ في الِمثالِ الأوّلِ كانَ الساردُ هو ندى، وقد قرأَتْ أفكارَ نوّارة، وحكَتْها على شاكلةِ استرجاعٍ لما حصل لها ولزوجِها نسيم ولأهلِ القريةِ أثناءَ النكبةِ وبعدَها. وفي المثالِ الثاني (حكاية ميريم/ حكاية الجارة) تولّت ميريمُ أمرَ السردِ بموافقةِ ندى ورغبتِها، لأنَّها كانت تتشوّقُ إلى معرفةِ ما حصلَ. في الحالَين، استعملتِ المؤلِّفةُ، إذن، أساليبَ سرديّةٍ متنوِّعةً، بهدفِ خَلقِ سردٍ متعدِّدِ المرايا ذاتِ الانعكاساتِ الكاشفة، أو ما يُطلَق عليه السردُ البوليفونيُّ (تعدُّدِيّةُ السارد): وكلُّ ساردٍ، مِن هؤلاءِ الساردين، هو بمثابةِ مرآةٍ عاكسةٍ لتجربةٍ عميقةٍ عايشَها، قد تتعاكسُ مع مرايا الآخرين أو تتماثلُ، قد تضيفُ أو تفسِّرُ أو توضِّحُ، ولكنَّ هذه المرايا السرديةَ، بحدِّ ذاتِها، تبني حالةً مِنْ تجاربَ تراكُميَّةٍ، تتواترُ بتتابُعِ القراءةِ لِتخلقَ هذه الرواية، ولِتزيدَ النصَّ حيويّةً وإمتاعًا، ولتشحنَ المتلقِّيَ بالإثارةِ والانفعالِ وتُحفِّزَه على المشاركةِ الفعّالةِ في أحداثِ النصّ.
وقبلَ أن أُنهِيَ هذا الموضوعَ، أودُّ أن أُشيرَ إلى بعضِ مواضعِ السردِ التي لفتَت نظري.
- تسرد ندى عن جلوسِ زوجِها في أحدِ مقاهي عين ماهل، وعن أجواءِ المقهى، وعن لعبةِ “الطاولة/ الشيش بيش”: “يتحلّقُ الموجودون على أصواتِهم العاليةِ عندَ كلِّ ضربةٍ لحجرَيِ النرد، وينقسمون إلى فريقَين مُتخاصِمَين. يُهلِّلون ويصرخون برموزِ اللعبةِ وأرقامِها: “يك، دو، جهار، بيش، شيش، دوبارة، دوسة.” فتتحوّل أصواتُهم إلى معزوفةٍ لها إيقاعُها الخاصُّ بارتفاعاتِها وانخفاضاتِها.” (113) أستطيع أن أُعطِيَ هذا السردَ صفةَ المِهَنيّةِ أوِ الحِرَفيّةِ التي تجعلُ المتلقّيَ يُعايِشُ الحدَثَ الواردَ، وكأنَّهُ موجودٌ في المقهى ومُشارِكٌ بالحالةِ الانفعاليّةِ الناتجةِ عنِ اللعبة، بمشاعرِهِ وبصوتِهِ المتراكبِ مع أصواتِ الآخَرين لتشكيلِ معزوفةٍ ذاتِ إيقاعٍ خاصّ. ولم يأتِ ذكرُ المعزوفةِ جُزافًا، لأنَّ صاحبةَ الحكيِ ندى تعلّمَتِ الموسيقى، فحوّلَت ضجيجَ رُوّادِ المقهى إلى معزوفةٍ تتناسبُ وحرفتَها.
- تسردُ ندى في الليلةِ الرابعةِ والعشرين زيارتَها هي وابنتَها وزوجَ ابنتِها للجارةِ ميريم: “ما إنْ فتحَتْ لنا البابَ حتّى استقبلتْنا أجملُ معزوفةٍ لتشايكوفسكي على البيانو. كانت تلكَ المعزوفةُ المفضّلةَ لديّ، والتي أحبَّتْها كاتيا عندما كنتُ أعزفُها، فيغمرُها فجأةً انفعالٌ لطيفٌ يجعلُها تتراقصُ باندفاعٍ تارةً، وباستسلامٍ رومانسيٍّ هادئٍ تارةً أخرى، فتأتي حركاتُ جسمِها الرشيقِ متناغمةً مع عزفٍ يُحاكي روحَها بصخبِها وفرحتِها. بارتفاعِ معنويّاتِها وبهبوطِها إلى الحضيض.” (99-100) السرد هنا يقوم على حالةٍ تذكُّريّة، فقد كان انبعاثُ موسيقى المعزوفةِ السببَ الذي استثارَ ندى، لتسردَ مسترجعةً حالةً مِن حالاتِ التألُّق، حيثُ امتزجَت مهنيّةُ عزفِها الراقيةُ مع حِرَفِيّةِ رقصِ معلِّمَتِها كاتيا المتناغمِ مع إيقاعيّةِ الموسيقى. فالمِهَنِيَّةُ أوِ الحِرَفِيَّةُ لا تقفُ عندَ العزفِ والرقصِ فحسب، إنّما تتعدّاهما إلى فنّيّةِ السردِ الذي أبرزَ الشخصيّتَين في حالةِ فعل، باستعمالِ أسلوبِ العَرضِ المبنيِّ على التناغُمِ بينَ الموسيقى والرقصِ في فعلِهما، كتعبيرٍ حتميٍّ عن أعماقِ الشخصيّتَين وحالتِهما النفسيّة.
- في الليلة الثانيةِ والعشرين تسردُ ندى تفاصيلَ لقائِها بالشابِ اليهوديِّ “ذي العينين بلونِ البُندق”، في أحدِ مقاهي حيفا. بدأ اللقاءُ بينَهما حميميًّا متعاطِفًا لكنّهُ انقلبَ إلى مواجهةٍ حولَ سؤال: مَنِ الأحقُّ مِنهُما بالانتماءِ إلى حيفا (الوطن)؟ وفي نهايةِ الرسالةِ تحكي ندى لإسراءَ تخوُّفاتِها ممّا سيؤولُ إليهِ مصيرُ الفلسطينيّين داخلَ الخطِّ الأخضر، وتستنتج: “نحن نعيشُ في عالمٍ مجنونٍ تخلّى عن ثوبِ العدلِ ولباسِ العِفَّةِ منذُ زمانٍ سحيقٍ وارتدى ثوبَ شيطانٍ ماكر.” (93). استعمالُ “شيطان ماكر”، يبدو وكأنّهُ تتابُع لغويٌّ سرديٌّ لدى ندى، ولكنَّه يأخذُ بالتداعي لدى الكاتبةِ لتوظِّفَهُ على لسانِ ندى، ولتبنيَ عليهِ حركيّةَ ما سيُسْرَدُ في الليلةِ التالية، حيثُ جاءَ في الصفحةِ التاليةِ مباشرةً:”لماذا يبقى الماكرون والسارقون وأصحابُ القوّةِ والنفوذِ والقاتلون على قيدِ الحياةِ ويموتُ الأبرياءُ والأنقياء؟”(94)
لقد تحوّلَ “شيطان ماكر”، مِن خلالِ حالةٍ منَ التداعي، إلى “الماكرون”، ولم يقفِ التداعي عندَ هذا الحدّ، بل تعدَّاهُ إلى وصفِ رأسِ مُنفِّذةِ العمليّةِ الاستشهاديّةِ في مطعمِ مكسيم بهذه الطريقة: “لم يبقَ مِن جسدِ تلك الشابّةِ سوى رأسِها يتدحرجُ على الأرضِ ككرةٍ مِن لهبِ شيطانٍ ماكرٍ مُرتطِمًا بأشلاءِ الأطفالِ والصبايا والشباب.” (97) إنَّ توظيفَ الإشارةِ أوِ العلامةِ في النصِّ السرديّ، لدى المبدِع، لا ينتهي عندَ ذكرِها، إنّما هو يرصدُها لتتحوّلَ إلى علامةٍ مُمتَدَّةٍ في خلايا النصّ، يبني عليها، في عقلِهِ الباطنِ وتداعياتِهِ، لتؤثِّرَ على المتلقّي أيَّما تأثير.
أعتقدُ أنّ هنالك أساليبَ سرديّةً أخرى كالسردِ الاستشرافيِّ أوِ السردِ الفانتازيِّ وغيرِهما يمكنُ توضيحُها، عندَ معالجةِ توظيف الأحلام والكوابيس في النصّ.
الوصف
الوصفُ هو توظيفٌ هامٌّ يستعملُهُ الكاتبُ داخلَ نصِّهِ الروائيّ، لإثرائِه بمدلولاتٍ وأبعادٍ مختلفة. وإذ إنّهُ يُقرِّبُ القارئَ إلى النصِّ ويُشعرُهُ بصدقِ ما يَقرأُ وواقعيَّتِهِ إلّا أنَّهُ، وفي نفسِ الوقتِ، يوقِفُ الحدَثَ ويُجمِّدُ حركيّتَهُ الدراميّةَ التي يتشوَّق القارئُ إلى استمرارِ تتبُّعِها دونَ توقُّف. ولكنَّهُ يجيءُ مُلفِتًا للنظرِ أحيانًا ويستدعي جهدًا مِن قارئِهِ لإدراكِ مدلولاتِهِ، وعلاقاتِها بأحداثٍ حصلَت سابقًا في النصّ، أو بأحداثٍ رُبَّما ستحصلُ مع مواصلةِ القراءة، أو لكشفٍ لأعماقٍ مجهولةٍ داخلَ الشخصيّةِ أو لأهدافٍ أُخرى سوف أتناولُها. كنتُ في القسم الأوّل من هذا البحث، في باب التعارف، قد توقّفتُ عندَ حالةٍ للوصفِ أعتبرُها مدخلًا هامًّا لتناولِ موضوعةِ الوصفِ، حيثُ أشرتُ إلى نوعَين مِنَ الوصفِ: ذاتيٍّ وموضوعيّ. أتطرّق هنا إلى مواقعَ أخرى وردَ فيها الوصفُ مُوَظَّفًا لإبرازِ مدلولاتٍ وأبعادٍ داخل – نصيّة:
تقولُ ندى في الليلةِ الحاديةِ والعشرين:”هي مُجرَّدُ شقّةٍ سكنيّةٍ صغيرةٍ في الطابقِ الأرضيِّ ضمنَ عمارةٍ تمتدُّ طولًا على مساحةٍ كبيرةٍ تطلُّ على موقفٍ واسعٍ للسيّاراتِ التي تزيَّنَت بالثلجِ اللّامعِ في يومٍ مُشمِسٍ عجيب. لم تكنْ هذه العمارةُ ترتفعُ عنِ الأرضِ إلّا بأربعةِ طوابق. ويقومُ بنيانُها في حيٍّ هادئ.” وتستكملُ الوصف: “بشكلٍ ما يُذكِّرُني هذا البنيانُ بما نسمّيهِ “شيكون” في قُرانا ومُدُنِنا العربيّةِ الشرقيّةِ، تأثُّرًا بالتسميةِ العبريّةِ التي باتت جزءًا لا يتجزّأُ مِن لغتِنا المحكيّةِ (بلِ المكتوبةِ أيضًا).(ص83)
يبدو هذا الوصفُ – للوهلةِ الأولى – موضوعيًّا يستهدفُ إبرازَ صورةِ العمارةِ الأمريكيّةِ ومقارنتِها بالعمارةِ في بلادِنا لتقريبِ هذه الصورةِ لتصوُّرِ القارئ، ولكنّهُ يستبطنُ هدَفًا أعمقَ وهو التركيزُ على كلمةِ “شيكون” العبريّةِ التي يمكنُ أن نترجمَها إلى “عمارةٍ سكنيَّةٍ مكوَّنَةٍ من طوابق”، بحيثُ إنَّنا كعربٍ وفلسطينيّين أصبحْنا نستعملُ في لغتِنا اليوميّةِ وحتى المكتوبةِ ليسَ العاميّةَ فحسبُ، بلِ العبريّة التي طغَت واستبدَّت. وهيَ قضيّةٌ هامَّةٌ جدًّا تُطرَحُ هُنا مِن خلالِ هذا الوصفِ لتنتقدَ واقعَنا وإنسانَنا العربيَّ الذي تتدهورُ على يَدَيهِ روعةُ لغتِنا العربيّةِ مُقابِلَ تقبُّلٍ غيرِ مشروطٍ للعبريّة. ومعروفٌ أنَّ هُوِيَّةَ الإنسانِ مبنيّةٌ على مركَّبَين أساسيَّين: اللغةِ والتاريخِ، فإذا استطاعَ الآخرُ أن يجعلَه يَنساهُما فقدِ انتصرَ عليهِ وهزمَهُ شرَّ هزيمةٍ لا صحوَ بعدَها، وهي أعنفُ بكثيرٍ مِنَ الهزيمةِ العسكريّة.
جاءَ الوصفُ في الليلةِ الخامسةِ هكذا: “توقّفَ النباحُ فجأةً، ولكنَّ صوتَ احتكاكِ الحلقاتِ الحديديّةِ وهي تئزُّ لم يتوقَّفْ.”(34) وهنا أيضًا يبدو الوصفُ موضوعيًّا وواقعيًّا عندَ القراءةِ العاديّةِ أو المتسرِّعةِ للنصّ، ولكنَّ التدقيقَ بهِ وبمركِّباتِهِ يقودُنا إلى استنتاجاتٍ هامّة، فهذه الأصواتُ الصادرةُ عنِ الحلقاتِ الحديديّةِ، وظهورُ الكلبِ الأسودِ الضخمِ مُمثّلًا بنباحِهِ، ومِن ثَمَّ باختفائِهِ جعلَت ندى الكبيرةَ ترتجفُ هَلَعًا، وتتذكَّرُ ندى الصغيرةَ في ربيعِها العاشرِ لحظةَ اغتصابِها. لقد تحوّلَ الوصفُ إلى مُمهِّدٍ للسردِ والبوحِ، واستبطانِ أعماقِ ندى التي تستشعرُ مدى الذعرِ والقهر، باختفاءِ الكلبِ واستمرارِ أصواتِ الحلقاتِ الحديديّةِ التي تتهيَّأُ لتقييدِها واغتصابِها، وتجعلُها تعيشُ حالةً مِنَ الانفراديّةِ دونَ أن تجدَ مَن يقفُ إلى جانبِها، ويشدُّ أزرَها ويحميها، لا في الماضي الذي تذكّرَتْهُ ولا في الحاضرِ الأكثرِ مأسويّةً، ممّا يدفعُها لاحتسابِ ألفِ حسابٍ لكلِّ ما ومَن حولَها.الوصفُ، هُنا، جاءَ ليقاربَ ذاتيّةَ الشخصيّة، ويستجليَ أعماقَها ويدفعَها إلى التذكُّر.
في الليلةِ التاسعةِ هُناك وصفٌ لمغتصبة “إيلانيا” التي كانت قريةً فلسطينيّةً باسمِ “الشجرة”، وقد دافعَ عنها الفلسطينيّون دفاعًا مُستميتًا عام 1948، وروَّوا بدمائِهم ثراها، وكان مِن شهدائِها الشاعرُ الفلسطينيُّ عبدُ الرحيمِ محمود: “إنّها “إيلانيا” الجميلةُ تحبُّ الغنجَ والدلالَ.. تُغوي الرجالَ والنساءَ بجمالِها.. تستلقي عاريةً فاردةً جسمَها الرشيقَ على مدِّ البصرِ.. تلبسُ السهولَ الخضراءَ وتُعانقُ الأشجارَ الوارفةَ وتتركُ جسمَها يستضيءُ بنورِ الشمسِ نهارًا وبشعاعِ القمرِ ليلًا”… وتبدو “شامخةً وهي تتمنَّعُ وتتدلَّلُ، فعشّاقُها كثيرون، يأتون إليها مِنَ الناصرةِ وكَفرِ كَنّا والرينةِ وطُرعانَ وغيرِها ليُمتِّعوا أنظارَهم بجمالِها ولتزدادَ الحسرةُ في قلوبِهم فهي ترفضُهم جميعًا ولا تأبهُ بهم لأنَّها صارت مُلكًا لغيرِهم.” (ص44)
يمتازُ هذا الوصفُ بالمزاوجةِ بينَ المعشوقةِ والأرضِ، وكلتاهما محفورتان في الذاتِ العاشقة. فقد بدأَ الوصفُ بالمعشوقةِ ذاتِ الغنجِ والدلالِ التي تستثيرُ الرجالَ والنساءَ بجمالِها الأخّاذ، ليميلَ إلى الأرضِ ذاتِ السهولِ الخضراءِ وجوِّها وهوائِها، ولكنّهُ لا يفتأُ حتمًا إلّا أن يرتدَّ إلى المعشوقةِ بكَمٍّ زاخرٍ بالمشاعرِ المنكسرةِ، لأنَّ هذه المعشوقةَ – الأرضَ – لم تَعُدْ لأهلِها بل صارت لغيرِهم. إنَّ هذه “الشجرة” الباهرةَ هي تجسيدٌ يوميٌّ للقهرِ الذي يعيشُهُ الفلسطينيُّ وهو يُشاهِدُ وطنَهُ في كلِّ لحظةٍ مُغْتَصَبًا من جهة، ولكنّها، وفي نفسِ الوقتِ، تُمثِّلُ تحفيزًا واستثارةً واستنهاضًا للروحِ الوطنيّةِ العاشقةِ لفلسطينَ مِن أجلِ استعادةِ حقِّها، مِن جهةٍ أخرى.
وفي الليلةِ الرابعةِ والعشرينَ التي تناولَ السردُ خلالَها زيارةَ ندى وابنتِها وزوجِ ابنتِها للجارةِ الأمريكيّةِ ميريَم ذاِت الأبِ العربيِّ والأُمِّ اليهوديّة، جاءَ الوصفُ هكذا: “انتبهتُ إلى انفعالِها عندما أخرجتِ الآيفون مِن جيبِ جاكيتَّتِها الزرقاء، فوقَ تنّورتِها البيضاءِ القصيرة، والتي زرَّرَتْها جيّدًا لتكشفَ خصرَها الرفيعَ وبروزَ نهدَيها.” (100) يمتازُ الوصفُ هُنا ببُعدِهِ الرمزيِّ، وقد لا ينتبهُ القارئ لهذا البعد، فالألوانُ التي ترتديها ميريمُ ثمثِّل ألوانَ العَلَمِ أوِ الرايةِ الإسرائيليّة. أمّا التشديدُ على جماليّةِ الصورةِ الجسمانيّةِ (الخصر والنهدَين) فيعضدُ الرايةَ كتعبير عن شكلٍ آخَرَ مِن أشكال المواجهةِ للزائرين منَ العرب. فهلِ استعدَّ هؤلاءِ الزائرون العربُ لهذه المنازلةِ (الزيارة) ؟ وما هو سلاحُهم بالمقابل؟
تقولُ ندى في جملةٍ وصفيّة: “لبستُ أحلى ثوب عندي وطالبتُ ابنتي “إيفا” أن ترتديَ ثوبَها الأسودَ المكشوفَ الذراعين وتتركَ شعرَها الذي وصلَ إلى أعلى كتفَيها منسدلًا. أوصيتُها أن تتزيّنَ كأنّها ستلتقي بحبيبِها لأوّلِ مرّة.” و”على غيرِ عادتي قرّرتُ أن أُجمِّلَ عينيَّ بشكلٍ خاصٍّ وأزيدَ مِن حِدَّةِ الكُحلِ لإبرازِ لونِ عينيَّ مثلَ زيتِ الزيتونِ أوّلَ عَصْرِه.” (99) فهل تحتاجُ زيارةٌ عاديّةٌ لجارةٍ “مُزعِجَةٍ” كلَّ هذه الجهوزيّةِ والتحضير؟ وهل كانَ مرصودًا أن ترتديَ ميريمُ بالمقابلِ تلك الألوانِ الرامزة؟ وهل جاءَ كلُّ ذلك الوصفِ كمجرّدِ مُصادَفة؟ لا أعتقدُ أنّ الأمرَ هو مجرَّدُ مصادفةٍ بالاعتمادِ على ما جرى خلالَ تلكَ الزيارة. فقد بدأت حميميّةً باستقبالٍ موسيقيٍّ وبمأكولاتٍ شهيّةٍ أحضرَتْها ندى، ولكنّها انتهت بالمواجهةِ بينَ اليهوديّة ِميريمَ والفلسطينيّةِ ندى: “شعرتُ أنَّ الجوَّ تكهرب. يبدو أنَّ كلَّ مساسٍ بالدينِ أوِ السياسةِ يُزلزِلُ الصفوَ ويُدحرِجُ الأمانَ ويطمسُ المحبّةَ ويقهرُ الأُخُوَّةَ ويدعكُ الإنسانيّةَ، فقرّرتُ أن أصمت.” (104)
هنالك مواقعُ مُتعدِّدَةٌ للوصفِ في الروايةِ يمكنُ التوقُّف عندَها وإبرازُ مدلولاتِها، ولكنّني أكتفي بما رصدْتُ مُعتبرًا هذا الوصفَ عُنصرًا أساسيًّا في الدخولِ الحقيقيِّ لعالمِ النصِّ واكتشافِ خباياه. وعلى الرغمِ مِن أنَّ هذا الوصفَ يوقِفُ الحدَثَ أو يُؤَجِّلُهُ إلّا أنّهُ يجعلُ القارئَ يستشعرُ روحَ الحدَثِ ويُدركُ حيويَّتَه.
وبعدُ فإنَّ هذه القراءةَ للروايةِ يمكنُ أن تستمرَّ بمحاورَ أخرى لم أتطرّقْ إليها أو لم أُعطِها حقَّها مِنَ التوضيح، ومررتُ بها مرورَ الكرام، وقد سجّلتُ حولَها ملاحظاتٍ يمكنُ أن تتحوّلَ إلى قراءةٍ أتمنى أن أُنجزَها مُستقبَلًا. أهمُّ المحاورِ التي أقصدُها وهي بحاجةٍ إلى استقراءٍ:
- مستوياتُ اللغةِ المستعملةِ في السردِ والحوارِ والتي تراوحَت بينَ العاميّةِ والفصيحةِ واللغةِ الوسطى، وملاءَمةُ هذه اللغةِ لمستوى الشخصيّة التي تستعملُها.
- الزمانُ والمكانُ والفضاءُ بينَ الواقعيّةِ والفنتازيا.
- الأحلامُ/ الهواجسُ/ الكوابيسُ حيثُ يغيبُ الساردُ ويبرزُ الكاتبُ بمواقفِهِ المباشرة. والأحلام الأقرب إلى الكوابيسِ في الروايةِ متعدِّدة: (كابوسُ محمود في الليلة الثانيةَ عشرةَ) (كابوس إسراءَ في الليلةِ الثالثة) (كابوسُ ندى في الليلةِ الثلاثين) (كابوسُ جعفر في سرديّتِهِ الثالثةِ الخارجةِ عنِ الليالي).
- ثنائياتُ الشخصيّاتِ ومدلولاتُها (ندى/ المغتصب – ندى/ محمود – ندى/ عليّ – ندى/ اليهوديّ – ندى/ ويليام) (محمود/ بسمة – كاتيا/ أليكس – كاتيا/ عليّ – سماح/ ويليام – ويليام/ ميريم – عاصي/ الروسيّة –نوّارة/ نسيم – والد إسراء/ والد ندى – إسراء/ الشعر – جعفر/ا لحياة).
= الإشاراتُ الثقافيّةُ وعلاقتُها بالشخصيّاتِ وعلاقةُ ذلك بثقافةِ المؤلّفة.
وغيرها مِنَ المحاور.
خلاصة
قامت هذه القراءةُ المتأنّيةُ لنصّ “حكايات الليدي ندى” لكلارا سروجي – شجراوي على محاورتِه مِن خلالِ إضاءتِه ومعالجةِ ما وظّفتْهُ الكاتبة مِن أساليب، لإبرازِ مقاصدِه واكتناهِ جماليّاتِه. ولعلَّ ما أوجبَ هذه القراءةَ يرجعُ إلى نوعيّة النصّ، فقد جاء مكثّفًا مُقتصِدًا وذا بنيةٍ متميِّزةٍ بكسرِه للسرد التقليديِّ واستبدالِه بأسلوبِ الرسائلِ الحاسوبيّة المبنيِّ على تراكميّةِ الأحداث. ولذلك يتحتَّمُ على القارئ أن يكشفَ هذه اللعبةَ التي استخدمتْها المؤلفةُ. وقد استُنتِجَ أنَّ القراءةَ الأفضلَ لهذا النصِّ تقومُ على القراءةِ التتابعيّة، وأنَّ أجزاءَ النصِّ تتجاوبُ مع بعضها، بحيثُ إنَّ المقدِّماتِ مُلتحِمةٌ بالمتن ولا انفصالَ بينَهما، بل تكامُلٌ مبنيٌّ على السوابقِ واللواحقِ والفجواتِ التي تزيدُ التشويق.
أما تعدُّدُ الحكاياتِ فقد توضّح أنّها بمثابةِ خيوطٍ تتجمّعُ في بُؤرة ٍواحدةٍ هي بؤرةُ ندى – إسراء بهدفِ توضيحِ المأساةِ وتضخيمِ المعاناة. لقدِ استُخدِمَ الحاسوبُ كأساسٍ لإبداعِ رواية، ولكنّنا لاحظْنا أنّ الحاسوبَ كظاهرةٍ تكنولوجيّة، برغمِ قدراتِه الهائلةِ لا يستطيعُ بمفردِه أن يُبدِعَ عملًا فنيًّا، وإنّما هو في أحسنِ حالاتِه وسيلةٌ وقفَ وراءَها إبداعٌ في رسمِ شخصيّاتٍ ذاتِ مشاعرَ مؤثِّرةٍ تحيا ضمنَ إطارٍ حضاريّ، وتعيشُ في حالاتٍ اجتماعيّةٍ متناقضةٍ، وتواجهُ واقعًا تودُّ أن تتجاوزَه. ويقفُ وراءَ ذلك مؤلِّفةُ هذه الحكاياتِ التي وظّفتِ التكنولوجيا في خدمةِ الأدب.