الزرقة بين مقامات السماء والأرض

الزرقة بين مقامات السماء والأرض


class="inline-block portfolio-desc">portfolio

text

    قراءة في رواية سجين الزرقة
    د. محمد المهري
    (أكاديمي من سلطنة عمان)

    الحديث عن الواقع الاجتماعي أمر يستهوي الكثير من الكتّاب، وأعلى مراتب الاستهواء حين يلامس التابوهات المسكوت عنها؛ فالتطرق إلى تلك الزوايا المظلمة يجعل الكاتب ملازما لمجتمعه مطلعا على أحواله مصححا لتلك الجاهليات المتوارثة التي لا تحتكم إلى عقل أو دين، ومن بين تلك القضايا الاجتماعية الحساسة، قضية التعامل مع فئة اللقطاء (أو أبناء الخطأ)، ومدى تقبل المجتمع لهم.

    ولا شك أن الحديث عن هذه الفئة حديث يطول، إذا ما أردنا طرحه من الجوانب الدينية والاجتماعية والتاريخية؛ ذلك أن هذه القضية أزلية لا تستوعبها هذه العجالة، وما يعنينا بالمقام الأول تناول الأدب العربي لهذا لموضوع وبالأخص الجانب الروائي منه، ومعرفة التجارب الأولى التي تناولت هذه المسألة الحساسة في الأدب الروائي.

    فأول من تناول هذه القضية في الأدب العربي هو محمد عبد الحليم عبد الله قصته “لقيطة ليلة غرام”، تبعه أدباء آخرون كتبوا عن الفكرة نفسها. وفي عام ٢٠٠٩ صدرت رواية “زينة” للكاتبة نوال السعداوي. وفي عام ٢٠١٢ صدرت رواية “سعودي ولكن لقيط” كسيرةٍ ذاتية في ثوب روائي رائع، كشف الكاتب سمير محمد من خلالها صورة المجتمع الخليجي وتعامله مع هذه الفئة، وما أكسب هذه الرواية التميز أن مَن ألفها ينتمي لهذه الفئة. وبصرف النظر عن تقنيات السرد في الرواية، إلا أنها تعد تفردا في هذا الجانب الحساس للرواية الخليجية.

    وفي عمان صدرت للكاتبة العمانية شريفة التوبي رواية “سجين الزرقة” في ٣٤٥ صفحة (الآن ناشرون وموزعون، ٢٠٢٠)، تناولت فيها مجهولي النسب، ومصير هذه الفئة في المجتمعات المحافظة على النقاء العرقي، وما يتعرضون له من معاملة سيئة جراء جريمة هم ضحيتها.

    إشراقة

    تبدأ الرواية بتجهز شاب في الثلاثين من عمره للرحيل إلى أميركا، تاركا وراءه كل مآسيه التي نالها من مجتمع لا يعرف في قاموسه الرحمة لفئة حُمّلت ذنباً لم ترتكبه. راشد الذي تربى في دار الأيتام بلا أم ولا أب ينتمي إليهما، باستثناء وعد قطعته له أمه حين أُخرج من السجن إلى الدار “أجي أشلّك راشد لما أطلع ما تخاف” (ص٤٤).. كان ذلك الوعد الخيط الذي يربطه بالمجتمع لكي يعيش مثل البقية، إلا أن الوفاء تلاشى مع الزمن، ولم يظهر ذلك الملاك ليأخذ بيده في متلاطم الأمواج: “ثلاثون عاما من عمري كافية جدا على وهم كبير، وخدعة كبرى، ثلاثون عاما وأنا أربي أملا كاذبا لأن أعثر عليها” (٣٢٨).

    إلا أن الأمل أوقد لراشد شمعة في مهب الريح، فأحب مريم التي كانت في مخيلته عوضا عن أمه التي فارقته وهو في الخامسة من عمره. كانت مريم هي المنقذ الذي حرك الساكن في أحلامه المستحيلة التي كان يعرف نهايتها سلفا، فخاض تجربة باءت بفشل ذريع: “يقول لك أبوي نحن ما نزوّج غبون” (٣٢٦). كان يتوقع الرفض، ولكن لم يدر في خلده أن الردّ سيكون بهذه القسوة. حينها قرر أن يصل على وثيقة عبور بل هروب إلى الضفة الأخرى، فلبى دعوة صديق عمره سالم.

    في الفقرة الثانية يبدأ سرد ذاكرة أم راشد من خلال مظروف الرسالة التي سُلمت له قبل الرحيل: “آن الأوان لأن أنزف جرح ذاكرتي لتعرف كل شيء، فلن يبرأ الجرح بالتقادم” (ص٩٤). مأساة شمسة، الأخت الكبرى لثلاثة أطفال غيب البحر والدهم في يوم عاصف، فكانت فريسة لزوج أمها الذي غابت عنه كل معاني الإنسانية فارتكب جريمة الاغتصاب في من تُعد أمانة عنده، وفي شهرها السابع ظهرت المصيبة التي غيرت واجهة الحياة لكل من شمسة البنت الخجولة، وزوج أمها، أحالت البنت إلى السجن لعشرة أعوام والزوج إلى حبل المشنقة.

    لم يعد لشمسة العزاء إلا في ابنها راشد الذي ربّته في السجن خمسة أعوام، ثم اضطرت للتنازل عنه؛ حتى يقوم دار الأيتام على تربيته، على أمل اللقاء به بعد خروجها، ولما أكملت أعوامها كان رجاؤها باللقاء قد تبخر أمام القانون الذي حال دون ذلك، ظلت تراقب ابنها عن بعد، فاطّلعت على معظم أحواله، وأهمها حبه لمريم، وأثناء توجه راشد للمطار تَقدم إليه رجل مبتسم بمظروف يسجل تفاصيل المأساة التي مرت بها والدته.

    الإضاءة الأولى

     رواية “سجين الزرقة” ممتعة في قراءتها. وإذا كانت قراءة الرواية تشكل متعة ذاتية بامتياز، فإن الكتابة عنها غالبا ما تكون “تفتيتا” لعالم المتعة هذا كما يرى ماجد السامرائي. فالناقد يعيد تشكيل الرواية من الإحساس الجمالي إلى التركيب العقلي للنص، ولا أظنني سأقوم بتفتيت الرواية بقدر الطواف بأهم أحداثها من وجهة نظري كقارئ. في البداية أرى من الصعوبة بمكان الحكم على نضوج التجربة الروائية لدى شريفة التوبي في تجربتها الأولى، ومن الملاحظ أن التوبي تمكنت من توظيف خبرتين في روايتها الجديدة:

    الأولى: خبرة من سبقوها في هذا الموضوع، إذ الفكرة التي يتمحور عليها الموضوع (قضية مجهولي النسب)، تكرر طرحها في الرواية العربية. والسؤال: ما الجديد الذي طُرِحَ في رواية “سجين الزرقة”؟ وهل نجحت الرواية في خلق شعور مغاير في ذواتنا تجاه هذه الفئة؟

    كموضوع أرى أن الكاتبة لم توفق في طرح هذه القضية. ولو أردنا أن نقول إنها تناولت هذه الفئة في المجتمع العماني فإنها لم تتعدّ تكرار النسخة الخليجية في عمان، إذ إن المجتمع الخليجي ينظر النظرة نفسها لتلك الفئة من الاحتقار والازدراء، وبالتالي لم تُحدث ذلك الأثر النفسي في ذاتي على الأقل بقدر حزني على تلك الفتاة التي تحطمت حياتها بسبب رجل قذر عديم الإنسانية.

    الثانية: خبرتها الشخصية في واقع قد تكون اطلعت عليه بحكم العمل مثلا. من هنا جاءت الفقرة الافتتاحية: “كل ما ورد في هذه الرواية من أحداث وشخصيات، ليس سوى من خيال الكاتبة، وإن صادف تشابهه مع الواقع فما ذلك سوى محض صدفة”. هذه الفقرة تعد منفذا قانونيا بامتياز، وهو ذاته نفي لما قد يرد إلى التفكير بواقعية الحدث. يضاف إلى خبرتها الشخصية نكهة اللغة المرتبطة بجذور المكان أو ما يسمى “خصوصية المكان”، فقد استطاعت الكاتبة النفاذ إلى القارئ العربي من خلال عنصرين: الحوار الذي طعم باللهجة الدراجة والذي شكل قرابة ٢٠٪ من مجمل الرواية، والأغاني الشعبية التي يُداعب بها الطفل للنوم أو للفرح، وهي بالتالي تجذب القارئ العربي للاطلاع على الثقافة العمانية.

    الإضاءة الثانية

    متعة الرواية في السرد الذي ينتقل بين القوة والضعف أو بين الإبهار والخمول أو بين المتعة والملل. وبالعودة إلى الرواية بفقراتها، التي قسمت بين راويتين (الابن/ الأم )، في عملية تبادلية بينهما، نجد أن السرد النسوي يصل درجة من القوة والإبهار والمتعة التي لا تمتلك خلالها إلا المواصلة، خلافا لفقرة الابن التي تتسم بالملل، بل إن القارئ يتمنى انتهاء الفقرة الذكورية -إن صح التعبير- ليعبر إلى الفقرة التي تليها؛ والأمر عائد إلى تعدد الأصوات واختيار مستويات الحكي لدى الأم بين الأحداث التي مرت بها وهي لب الموضوع وانتقالها إلى الحكايات التي تمر عليها في السجن (مثل حكايات سلوى وحليمة وسوشيلا)، بالرغم من تسلل الملل إلى بعض حكاياتها (كحكاية حليمة). وربما يعود ذلك إلى تعاطف الكاتبة مع الضحية (شمسة) وانتقاما من جنس الرجل الذي دمّر مستقبل المرأة على وجه العموم، هذا إذا نظرنا إلى الرواية على أنها نسوية تدافع عن حقوق المرأة التي سُلبت حقوقها بشتى الوسائل الاجتماعية والاقتصادية، وأن ما وقع على شمسة ما هو إلا جزء من الظلم الذي عانت منه المرأة من التسلط الذكوري وسلب إرادتها.

    الإضاءة الثالثة

    يمثل العنوان أيقونة الرواية؛ فهو العتبة الأولى التي من خلالها تتوالى عوالم النص، ومن يشتبك مع المتلقي منذ اللحظة الأولى بصريا. وقد احتل عنوان الرواية الثلث الأعلى من واجهة الغلاف، مبتدئاً باسم المؤلفة ليؤكد ملكية الرواية لمؤلفتها، ونوعا من التسويق للمنجز النصي، وشاهدا يحسب للكاتبة ومدى حضورها المميز في الساحة الأدبية. يتلوه العنوان (سجين الزرقة) الذي يتكون من لفظتين:

    السجين. و”السجين هو من فعيل، من السجن، وكأنه يثبت ما وقع به فلا يبرح مكانه” (لسان العرب مادة/ سجن). مكان لم تبرحه شمسة سبعة أعوام وابنها خمسة أعوام لم يلتقيا إلا عن بعد، كانت فاجعة الحكم على شمسة بعشرة أعوام بمثابة الصاعقة… كيف يساوى بين الجلاد والضحية؟ كان راشد هو العزاء الوحيد في عالم تجهل عنه كل شيء.
    الزرقة التي تكررت في الرواية ٤٧ مرة تقريبا، ولا شك أن اللون بشكل عام يمتلك طاقات إيحائية إيجابية تارة، وسلبية تارة أخرى، فالأزرق يرمز للإخلاص، وفي الجانب الآخر يرمز للنفاق والرياء والخداع. ويدل هذا اللون عند مفسري الأحلام على السلام الداخلي مع النفس، كما أنه يدل على الرضى والاستقرار، وقد يدل على الشدائد والصعوبات، “أخرج من البياض وأدخل الزرقة، يلوح لي لحاف أمي الأزرق، أراها تبكي وهي ترتدي ثوبها الأزرق، تتمثل أمامي شوقاً مؤلما، وحياة مؤلمة. كل ما يربطني اللون” (ص٢٠٦). فاللون الأزرق يربط البطل بأمه التي فارقته، لم يعد بينه وبينها إلا اللحاف الذي يظهر على غلاف الرواية ممسكا به علّه يعيد تلك الرابطة المقدسة بينهما، حتى إنه أحب البحر، ذلك المخلوق لامتناهي البصر لا لاتساعه وامتداده بقدر ما كان الحب للونه الأزرق؛ والسبب: “كلما ذهبت كنت أراها تخرج كحورية منه، تجذبني نحوها، تلفّني زرقتها، … أركض نحو الزرقة، والزرقة تبدو أبعد مما أظن، أصرخ، أنا قادم، ولا أثر للزرقة، ولا أثر لها”.

    فالزرقة هي أمه أينما حلت في عالم الأحلام أو في الواقع الذي ربط بعالم المشاهدة.. و”البحر صديق المحزونين والعشاق.. البحر صديق الجميع” (ص٩٠). من هنا سيصبح اللون الأزق لدى راشد مرتبطا بعالم الطهر والسلام والمحبة مهما تقادم به العهد: “ألف المظروف بلحافها الأزرق، أشمه طويلا قبل أن أدخله في الحقيبة، فأتأكد أن الرائحة هي رائحة الزرقة التي عشت عمري كله سجينا لها”.

    وكنت أتمنى أن تبدأ الرواية بمدخل قوي يجذب القارئ كقول الروائية: “أنظر للبحر ولتلك الزرقة المغرية فيه، أنظر للبشر الذين يسيرون على شاطئه محملين بتفاصيل حياتهم الثقيلة” (ص٢٨٢)، أو “في قاعة الانتظار بالمطار، أجلس وحيداً متأملاً الوجوه العابرة، أبحث عنيّ وعنها بينهم، أقرأ الوجوه، لكل وجه حكايته، تشي بها ملامحه” (ص٣٤٠).

    وأخيراً، يحسب للكاتبة استخدامها ما يسمى “اللغة النظيفة”، إذ إنها لم تخرج في سردها على ما يعرف بالآداب العامة، ولم تلجأ إلى التشبيهات التي تنفلت من دائرة الحياء. إنها لغة مجتمع له تقاليده وعلاقاته المتزنة.