قراءة في رواية «مِرآة واحدة لا تكفي» لحسن أبودية

قراءة في رواية «مِرآة واحدة لا تكفي» لحسن أبودية


class="inline-block portfolio-desc">portfolio

text

    د. زياد أبولبن

    تقوم رواية الكاتب حسن أبودية على ستة عشر مشهداً، وقد صدرت الرواية عن دار «الآن ناشرون وموزعون» لعام 2019.
    تكشف الرواية في المشهد الأول «ذات مساء» عن سقوط هالة القداسة في العمل الثوري أو النضالي أو الوطني، وليس كما يفهمه الناس، فذاك الفتى الثوري في الرواية يقع في عشق محبوبته، فيتخلّص من مفهوم القداسة الثورية كما أسمّيها، فتدور أحداث الرواية حول شخصيتين تلعبان بالتبادل أو التناوب دور السارد، شخصية أستاذ الجامعة الذي يدرّس الفلسفة، وشخصية الطالبة الجامعية التي تدرس الحضارة الشرقية، العاشقة والعاشق الثوري، وإلى جانب لغة السرد نجد لغة الوصف الشاعرية تطالعنا من بداية الرواية على مشهد جرئ في مشهد «ذات مساء»:
    «همستْ، بعد تنهيدة ولهى: كم أنت رائع! أتدري، كنتُ أحسّ أنفاسك وهي تمرّ على جسدي ريشة فنان ترسم لوحة الوجود، كنتَ فناناً حقيقياً، أدواتك الحب والشوق المُتجدد، كانت أحياناً شفتاكَ لا تلمساني، لكنك كنت تُشعل جمر الجسد» ص7.
    يلتقي مع المشهد الثاني «ذات صباح» في تداعيت ذكرى الفتى مع محبوبته بعد رحيلها في سفر، حيث يوّجه لها رسالة رقيقة تبثّ في النفس مشاعر البُعد والفِراق، في متوالية سردية تتفتّق عن تفاصيل كثيرة، ويكون ردّ المحبوبة على رسالة العاشق برسالة تُعلي من قيمة العمل النضالي في حياة من عشقوا فلسطين والثورة، وفي هذا المشهد يصبح الحبّ بمرتبة القداسة التي وصل إليها العاشقان في العمل الثوري،فكل التفاصيل الصغيرة في حياتهما لها معنى، حيث ينزاح المعنى المجازي إلى حالة أو مرتبة مقدسة.
    وفي مشهد «مساؤكَ عَبقٌ بالذّكريات»، تبدو صور الأمكنة المتعددة حاضرة في هذا المشهد: بيروت ودمشق ومخيم اليرموك، وهنا نكتشف مدى ارتباط المكان بالإنسان أو ارتباط الإنسان في المكان في ثنائية الحياة والموت، كما أن هناك أسماء متعددة تؤشّر على رموز العمل الثوري في زمن النضال الفلسطيني، التي اتّخذت من بيروت انطلاقة أخرى للقتال، وما رافقها من خروج للمقاومة عام 1982، فالرواية في مجملها تكشف عما يُشبه السيرة المكانية لشخوصها، فعرفات (أبوعمار) ملهم الثورة، وهو متجسد في الرواية بفعل المقاومة، ودمشق وغيرها من المدن التي تبني مساحات شاسعة في انثيال الذاكرة التي تؤطر الهوية الوطنية في الشتات، فيبقى السارد مشدوداً للأمكنة الحاضرة في لحظات الغياب، ويكون للمخيم علامات فارقة في الحياة عندما يتساوى مع الموت، فعودة السارد للمخيم في دمشق ولقائه مع المقاتل الجزائري الذي انضم للثورة يبعث على مشهد مؤلم بما تحمله شواهد القبور تذكّر بالمجزرة، فصبرا وشاتيلا تحمل حكايات الثورة، وتسجّل مشاهد خروج المقاتلين من بيروت، حيث تبحر السفن «في رحلة نحو اللامكان، اللاأُفق» ص27. وتحط بالسارد ورفاقه في معسكر في الجزائر، وفي تلك اللحظات من التيه والنفي يستدعي السارد صورة «كفاح» عروسه الجميلة التي عشقها بقداسة الثوري المقاتل، وقد استشهدتْ في المجزرة.
    يكشف السارد عن اسمه «الدكتور سامي مصطفى» في مشهد «اللقاء» أو كما كان يوقّع اسمه في ذيل كتاباته «سامي اليافيّ، ص37»، وأثناء حواره مع موظف الاستقبال في الفندق يخاطبه الموظف بـ «البيك»، ويرفض في قرارة نفسه هذا اللقب بوصفه «محارباً شرساً ضد هذه الطبقة العفنة التي ما أورثت أمتنا إلا الهوان والتخلف» ص30، ليدلل أنه يساري مؤمن «بالعنف الثوري ضد كل ما يمت للبرجوازية بصلة»ص22، وبرأيه أن انتماءه لليسار لا يتعارض مع حبّه لـ «عرفات»، فيردّ على منتقديه من الرفاق «الختيار حالة استثنائية في كل شيء، حتى في الحب!»ص22. ويستدعي السارد لحظات اللقاء بـ «كفاح» زوجته المعشوقة ليمرر للقارئ فكره الثوري.
    تبرز في مشهد «المخيم ثانية» إدانة مبطنة للعمل الثوري، فتطالعنا عبارة محمود درويش «بيروت خيمتنا الأخيرة» ومقولة الفنان ناجي العلي «محمود خيبتنا الأخيرة»، وما تحمله العبارتان من مرجعيات بائسة في تحول النضال الفلسطيني إلى عمل سياسي، وما تبعه من انشقاق في حركة فتح، كما هناك إدانة مباشرة للجيش السوري في حصار طرابلس، وما تبعه من قتل ومطاردة، وكأن الكاتب يسعى إلى تسجيل تلك المشاهد في لغة سردية قادرة على نقل الواقع بما هو عليه إلى متخيل سردي.
    يبقى هاجس العمل الثوري في الرواية يتمدد بلغة سردية جميلة على لسان شخصيات الرواية بدءاً من السارد «مصطفى» إلى «كفاح» إلى «زينب» و»لندا» وشخصيات ثانوية تحتكم لمواقف مؤثرة في مسيرة مصطفى ابن مخيم الوحدات في عمان، الذي انتقل مع أسرته إلى مخيم اليرموك في دمشق بعد أحداث أيلول، ليتبيّن القارئ أن مصطفى ليس إلا ابناً لعائلة ثرية من «يافا» طالتها الحرب فلم يبق منها إلا مصطفى، وتّخذه أبو سامي ابناً له، لكن أبا سامي يطرده من البيت بعد أن شبّ عن طوق الأسرة المحافظة، أو لخلاف بينهما، ليهرب إلى بيروت ويلتحق بالعمل الفدائي، ثم يتعرف على «كفاح»، ويفقدها في مذبحة متوحشة نفّذها الجيش الإسرائيلي في صبرا وشاتيلا، فيعاني مصطفى الفَقْد منذ طفولته مروراً بأسرته وحبيبته وثوريته التي تنتهي بمعسكرات المنافي لمقاتلي بيروت في الجزائر، إلى ما هو أكبر هو ضياع أو فَقْد الوطن، ويمر هذا الفتى بأحداث كثيرة أشبه بالعمل الدرامي المتصاعد في زحمة أحداث ما بين المدّ والجزر، فيلجأ الكاتب من خلال المونولوج وتقنية الاسترجاع والاستباق لرسم كل تلك الأحداث، مستفيداً من تقنيات السينما في صياغة سرد روائي يقترب في مشاهد كثيرة من الصور الشعرية، فهو يمزج ما بين لغة الشعر ولغة النثر للوصول إلى وقائع أشبه ما تكون سيرة ذاتية للسارد/ بطل الرواية.
    سبق للكاتب قبل هذا العمل الروائي مجموعاتٌ قصصية، ولعل الإبحار في كتابة الرواية يأخذ شكلاً جديداً من السرد، كما يأخذ مساحة أوسع للسرد وحركة الشخصيات، وقد استطاع حسن أبودية أن يقدم رواية قصيرة أو قصة طويلة في حدود 90 صفحة من القطع المتوسط، وليست رواية كما جاء على الغلاف (رواية)، وتجاوزاً للمصطلح قد أسميها «نوفيلا»، «وهي سرد قصير محكم البناء، واقعي أو تهكمي النبرة في الغالب، وترتكز على أحداث محلية ذات طبيعة هزلية أو سياسية أو عاطفية» في إطار تعريف دائرة المعارف البريطانية لـ «النوفيلا»novella .
    يبقى القول إن العمل الأول للكاتب حسن أبودية عمل يستحق الاهتمام، ويستحق الدراسة في إطار منظومة الأعمال الروائية العربية الجديدة، التي أخذت مكانتها لدى القارئ العربي، وشاعت وانتشرت، وتقدّمت على القصة والشعر بما تحظى من عناية المؤسسات الناشرة، وما خصص لها من جوائز قيّمة.