قراءة في رواية «ورد جوري» لبراءة الأيوبي

قراءة في رواية «ورد جوري» لبراءة الأيوبي


class="inline-block portfolio-desc">portfolio

text

    أ. هناء غمراوي

    ورد، التي عاشت الفقد والحرمان في طفولتها ربما ستكون حياتها هي نفسها في النهاية ضحية لهذا الفقد…

    ويبدو أن سلسلة الانفجارات المستمرة في بيروت كانت تحاول صب لعنتها على العائلة؛ بداية يسقط والدها صريعاً خلال ممارسته لرياضة المشي في التفجير الذي استهدف رئيس وزراء لبنان رفيق الحريري في وسط المدينة وسقط معه مئات الضحايا الأبرياء بداية العام 2005.

    ثم وبعد حوالي خمسة عشر سنة حين يصادف وجود ورد في مركز عملها في مكتب الترجمة في الجميزة، وقت الانفجار الهائل الذي حصل في مرفأ بيروت في الرابع من آب/ أغسطس من العام 2020 والذي قدرت قوته بقوة زلزال بدرجة3,3 على ميزان ريختر. حيث عثر على منديلها المطرز بوردة جورية، هدية جدتها لها بين الأنقاض…

    نشأت ورد في كنف جدة أغدقت عليها الحب والحنان اللذين حرمت منهما من قبل والديها البيولوجيين. فقد تنكر لها والدها منذ الولادة لأنه كان يرغب بولد ذكر يحمل اسمه؛ وكون والدتها لم تعد قادرة على الانجاب فانهما تبنيا طفلاُ ذكراً كان يكبرها بعامين. وصار يشاركهما حياتهما الباذخة على انه ولدهما الوحيد؛ فقد كان والدها من أثرياء الحرب الأهلية اللبنانية ويتمتع بثروة ونفوذ بارزين.! في حين عاشت ورد في بيت جدتها وتذوقت مرارة اليتم والحرمان العاطفي. ولم تدخل بيت والديها حتى وفاة جدتها حين بلوغها الثامنة.

    رغم تعلق ورد الشديد بجدتها وحزنها البالغ لفقدها الا انها اعتقدت ان موتها سيكون فرصة لها لإعادة جمع شملها من جديد مع العائلة.

    ولكن توقعاتها لم تصدق.!! وبعد سنة واحدة فقط من اقامتها في بيت والدها الفخم؛ عانت خلالها العزلة والوحدة وعوملت وكأنها قطعة أثاث مهملة. في حين كانت ترى ان والديها يغدقان المال والدلال على أخيها المتبنى” ولي العهد”

    في عمر التاسعة أرسلت الى مدرسة داخلية في بيروت تليق بثروة والدها، حيث تعرضت هناك لقسوة المرشدات وتنمر الزميلات اللواتي بسبب غيرتهن الشديدة من جمالها الأنثوي وطبيعتها الانطوائية كن يطلقن عليها القاب مثل الفتاة المعقدة والانعزالية…اما ورد فكانت تعوض

    هذا الشعور بالفقد بتفوقها الدراسي والاهتمام أكثر بدروس الموسيقى حيث صارت مكتبة المدرسة والبيانو أقرب صديقين إلى روحها…

    وتأبى الحياة الا ان تقسو عليها أكثر…

    بموت الوالد وبحسب وصية مكتوبة منه تنتقل كامل ثروته لابنه الذكر، الذي لا يلبث أن يجمع كل ثروته التي ورثها ويهاجر الى اميركا تاركاً المرأة التي ربته والتي من المفرض أن نكون أمه بلا مأوى ولا معيل بعد أن باع الفيلا التي كانت تسكنها مع العائلة…

    كان ما زال امام ورد سنتين للتخرج عندما حضرت والدتها إلى المدرسة بعد وفاة والدها بستة أشهر في زيارة غير متوقعة لتخبرها انها قد قررت الارتباط بأحد الأصدقاء الأثرياء وبأنها سترافقه الى المانيا لتعيش معه هناك وبأنها أصبحت عاجزة عن تغطية مصاريف المدرسة واقترحت عليها الانتقال للعيش مع سيدة ثرية مسنة والقيام على رعايتها مقابل تغطية هذه الأخيرة مصاريف المدرسة ثم انصرفت الى حياتها الجديدة الي ستؤمن لها البذخ والرفاهية مع زوجها الجديد دون ان تكترث للمصاعب التي ستواجه ابنتها المراهقة التي هي بأشد الحاجة الى عطفها ورعايتها.

    أحداث كثيرة تتالت في العشر سنوات الأخيرة واجهت بها ورد الحياة وحيدة بعد موت الوالد وسفر الوالدة…وظنت ان الحياة بدأت تبتسم لها بعد بلوغها سن الثمانية عشرة حين اكتشفت ان جدتها قد أوصت لها بكل أملاكها وبرصيد مالي يساعدها على امتلاك شقة صغيرة في العاصمة ودفع تكاليف دراستها الجامعية…

    وكان من أجمل ما حصل لها بعد حصولها على الوظيفة زواجها وانجابها لطفلتها جوري التي اصبحت من أهم بواعث سعادتها وتعلقها بالحياة لكي تؤمن لها حياة سعيدة خالية من الحرمان والفقد والوجع الذي تعرضت له في طفولتها

    فهل ستتمكن من ذلك…

    سأكتفي بهذا القدر لكي لا أحرم القارئ متعة ودهشة متابعة الأحداث، التي برعت الروائية اللبنانية الشابة في سردها بأسلوب سلس ولغة أدبية جميلة متقنة. الكاتبة اعتمدت في نصها السردي مبدأ تعدد الرواة، كما لجأت الى اسلوب الاسترجاع (flashback) في كل مرة تعود البطلة ورد لتذكر ماضيها الا ان اسلوبها في السرد لم يعتريه اي نوع من التفكك أو الاضطراب….

    جاء الحكي في مختلف مفاصل الرواية بلسان المتكلم؛ بداية على لسان الطفلة جوري ومن ثم على لسان أمها ورد.

    استخدام الكاتبة لصيغة المتكلم أضاف للرواية حياةً، وجعلها تحاكي السيرة الذاتية في صدقها وواقعيتها وفي تأثيرها على المتلقي.

    ولربما يؤخذ على الكاتبة مبالغتها قي وصف ذكورية الوالد وعدائه الشديد للطفلة الأنثى، المولودة من صلبه وتفضيل طفل ذكر عليها ولو كان بالتبني.! وكأننا في عصر الجاهلية الأولى ولسنا في القرن الواحد والعشرين حيث بلغ التقدم العلمي، والتقني درجات كبيرة وصارت المرأة تقود الطائرة والقطار وتشارك في مختلف مجالات الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية…

    أما الأمر الأكثر غرابة فهو انصياع الأم لرغبة زوجها وتخليها عن طفلتها منذ الولادة متجاهلة عاطفة وغريزة الأم الموجودة حكماً في كل أنثى…

    هذه التساؤلات التي ستواجه أي قارئ، الروائية وحدها هي المخولة بالإجابة عنها.

    يبقى ان نشير الى أن الرواية بالإضافة الى إثارتها لموضوع اجتماعي وانساني ما زالت تعاني منه بعض الأسر العربية حتى اليوم وان الكاتبة قد اجتهدت بأسلوبها الادبي الشيق في تسليط الضوء على المعاناة النفسية التي تحس بها الأنثى في مجتمع ذكوري يشيئها ويلغي وجودها، فإن الرواية قد أرّخت أيضاً لحدثين مهمين في تاريخ لبنان الحديث وما زال هذان الحدثان محط بحث واهتمام في الأوساط الأمنية اللبنانية، والعالمية حتى اليوم.

    (أ. هناء غمراوي، حانة الشعراء، 7/2025).