رشيد الخديري
شاعر وناقد مغربي
باشتعال الحواس الأكثر حميميّة في الإنسان (الأصابع، الفم والقلب)، تأتي المجموعة الشعريّة الأخيرة لعائشة بلحاج الموسومة بـ”لا أعرف هذه المرأة” (منشورات الآن ناشرون وموزعون، ط 1، 2021، 103 صفحات) مُعلنةً انغمارها في سؤالات الوجود والكينونة والآخر. وسواء تعلّقَ الأمر بالتّجربتين الشّعريتين السّابقتين: (ريحٌ تسرقُ ظلِّي 2017)، و(قُبلةُ الماء 2019)، أو هذه التّجربة الجديدة، فإن الكتابة لدى الشاعرة تظلُّ في تفاعلٍ مع رؤيةٍ شعريّةٍ منذورةٍ لنفسٍ جنائزيّ، حيثُ الموت والألم والوجع. إنّها نصوص تتعيّنُ بوصفها نبضًا للكائن وسيرورة تتموضعُ ضمن علاقة الذّات باليوميّ والمتخيّل واللغة والفضاء الشعريّ. وحريٌّ التّنصيص ها هنا، أن المسار الشعريّ، يبقى مُحايثًا لرحابات الكينونة، إذ نلمسُ اشتغالًا على انشطاريّة الذات، وما تنطوي عليه من قلقٍ وتأمُل وعمقٍ. فهي كينونة شعريّة تشرقُ منها شمس الكتابة وتغرب فيها في الآن ذاته. بمعنى، أن ثمة رهانًا على شعريّة تنحاز إلى مُفارقات الوجود وصيروراته، مُدركةً تمامَ الإدراك، أن الذَّاكرة الشعريّة لا بد وأن تكون أهمّ حاضنٍ مرجعيّ للتجلِّي النّصيّ.
أفق هذه التّجربة الشعريّة، لا يتحقق إلا في اندغامه مع سؤال الكينونة ومرجعيّة الخطاب، إذ يبدو أن الشاعرة أكثر وعيًا بقدرة الشعر على تغيير نمطيّة الحياة. من هنا نفهم، لماذا التجأت عائشة بلحاج إلى العزف على وترِ المفارقات الوجوديّة؟ فهي في لحظة تماسٍ مع إيقاعات الكون نبرًا وسطرًا، معنى ومبنى، تركيبًا وتخييلًا، بما يتلاءم مع الحدث الشعريّ وآفاق تخييله وتأويله. إلا أنّ ذلك، لن يصرفنا عن التّشديد على أهميّة الحضور المركزيّ للذات وقدرتها على التّجابه مع الآخر، في مسعى لتحقيق رؤيةٍ شعريّة مغايرة ومختلفة. إن هذه النّصوص دعوةٌ إلى نقد الانتماطيّة والتّحرر من شرنقة الجسد الأنثويّ والالتحام أكثر مع حياة الكائن وشجونه. ومما لا شك فيه أن عائشة بلحاج، إذ تَتَحَصَّنُ بكونيّة الشعر وما يحفلُ به من كشوفات، هي في الآن نفسه، تتأبَّى التّموضع ضمن أفقٍ شعريّ يفتقدُ لعمقِ النّظرة وأسرار التّجربة.
“لا أعرف هذه المرأة”، سفرٌ في أقاصيّ الذَّاكرة، حيث الظلُّ والماء وحكايا الجدّات الممهورة بالخوف والحزن والألم. “ثمة وجوه عديدة للموت”، وكلّ القصائد لا تكفي للتّحرر من أسرار الماضي وسطوة الذّاكرة، ودائمًا، هناك حافّاتٌ لسؤالات الغياب والحرقة وألم الحياة الضاغطة، وكأن هذه الذاكرة لا تتحمّل فورة المكاشفات وتأثيرها، بل تظلُّ مسكونةً برؤى الماضي البعيد.
هذه الرؤيّة التي يرتهنُ بها الأفق الشعريّ، لا نلمسه في هذا المنجز فحسب، وإنّما نستشعره في العملين الشعريين السابقين أيضًا، وبذلك، تظلُّ عائشة بلحاج مشدوهةً إلى أسرار الماضي البعيد، ملتحمةً بغواياته ومُفارقاته وتجلياته، وكأننا أمام كتابةٍ شعريةٍ ممتدةٍ في لحظة انبثاقها الأولى. لنقلْ، إنّها لحظة “التّلعثم” الأولى في مجابهة رهانات الكتابة وعوالمها الدّاجيّة.
تستهدي الشاعرة لمعرفة إيقاعات الذات بما يكتبه إميل سيوران: “ولدتُ بروح مألوفة، وطلبتُ غيرها من الموسيقى/ كان ذلك بداية مصائب غير متوقّعة”، والواقع أنه إذا أردت أن تفهم الحياة أكثر، لا بد من تغيير شكل المعزوفة كلّ يومٍ. كذلك الشأن بالنسبة للتجلِّيات النّصيّة، فهي عنوان كلّ ذاتٍ.. “وحين تختفي الذات دون أن تنمحي طبعًا، كما تختفي الذّاكرة، الجسد والزمن، لا يبقى هناك سوى تلك اليد الثالثة، التي تتخبط على بياض صفحةٍ ممسوسةٍ، بقسوةٍ النسيان ولذته، أو هكذا خُيِّل إليّ” (إيقاعات الكون/ ص47)، وربّما بسبب ذلك، نلمسُ هذا التّشظيّ والانشطاريّة في لعبة الكتابة، حتّى صارت شرطها الوجوديّ والمرجعيّ. وبين الكتابة والتّجليّ، ثمة خيط رفيع يُقوِّي هذه الإقامة في رحابات الوجود، رغم طابعه المغرق في السّوداويّة ورؤيةٍ لا تكفُّ عن التّحديق في عتمة اللحظة وتبلورها.
لكن، وبقليل من الإنصات المرهف والمدهش للتجلّيّات النّصيّة، ستبرز ظلالُ المتخيّل ورهافة اللغة. ومن هذه الزّاوية، فإن الذّات تبدو مُثقلةً باليوميّ والتّفاصيل الهشّة. ومع ذلك، فالشاعرة مثل ريشةٍ في مهبّ الريّح، وما تزال عالقةً في مدار مروحة. إن هذه النّصوص الشّعريّة تبقى لها خصوصيّات معيّنة، وقد أدرجنا بعضًا منها، لكن، الأكيد أن عائشة بلحاج تكتبُ بعيدًا عن شجون الجسد وهمومه، وفي ذلك، تعزيز لروح المغايرة والاختلاف عن تجارب شعريّة أخرى.
أن تكتب عن هشاشة الذَات، معناه أن تتمركز حولها وتنسج على مثالها كتابة تستضيءُ بروح الغبطة والتّأمُل. وفي عمق الصِّلة بهذه الذَّات، لا بد من التّشديد على سؤال الكينونة والعالم والأشياء والإنسان، مما يدعونا للقول، بأنّ هذه النّصوص هي بمثابة تأمُلات في الكون الشعريّ.. في كونيّة القصيدة كما تَتَنَزِّلُ في ذاكرة عائشة بلحاج، وهكذا، فإن البعد الجنائزيّ/ الأورفيوسيّ يُشَكِّلُ النّواة المركزيّة لهذا العمل الشّعريّ، بل يُمكن اعتباره فلسفةً شعريّة تفيضُ بالتّجليّ والإنصات والتّأمُّل.
“لا أعرف هذه المرأة”، ببساطة سيرة امرأة غير مكتملة. نقرؤها مُجزّأة بين ثنايا الأعمال الشعريّة الثلاثة، وبين السِّيريّ والشِّعريّ، وبين الحلميّ والرؤيويّ، تنبع الرّغبة في قراءة هذه النّصوص، فهي تأمُّلات في معاني الأشياء ومجاهل القصيد، ولا شك في أن الشاعرة واعية كلّ الوعي لقيمة الكتابة في الشعر.. في المغاير والمحايث لشجون الذَّات، كشرط وجودٍ، وبالرغم من الخطِّ الجنائزيّ الذي ميّزَ التّجربة الشِّعريّة ككل، إلا أنّها تبقى تجربة جديرة بالاهتمام والمتابعة.