موسى إبراهيم أبو رياش
في الرواية، من الضروري أن يكون العنوان دالًا مرتبطًا بالنص، باعتباره أحد مفاتيحه وأولها، اشتباكًا مع القارئ، ولكن في المجموعات القصصية، جرت العادة، أن يختار الكاتب، عنوان إحدى قصص المجموعة، ليعنونها بها، وما هو مرجو من عنوان الرواية، ليس مطلوبًا من عنوان المجموعة القصصية، ولكن اللافت أن عنوان مجموعة جعفر العقيلي «كمستير» كان مختلفًا وموفقًا بامتياز، فهو عنوان إحدى قصص المجموعة، وذو ارتباط عضوي وثيق مع معظم قصص المجموعة الإحدى عشرة إن لم تكن كلها، وهي من المرات القلائل ـ حسب علمي- أن جاء عنوان المجموعة متوافقًا مع قصصها.
لكل لعبة لاعبون وملعوب يُلعب عليه، أما القواعد، فليست أساسية؛ فهي متغيرة، تخضع للأهواء والظروف غالبًا. والمرعب في بعض الألاعيب أن يكون اللاعب ملعوبا به، وهو يظن أنه لاعب يصول ويجول، ويسجل الأهداف، وقد يعلن فائزًا منتصرًا في النهاية، مع أنه مجرد كرة تتقاذفها أقدام الظروف واللاعبين الفعليين، وهي تظن حركتها حرة بإرادتها، ولا تدري، وربما تدري أنها مجرد قذيفة سددت وليس لها من الأمر شيء.
في لعبة الحياة، لا يوجد لاعب حر يفعل ما يشاء ويلعب كما يشاء، فالكل ملعوب به، يخضع للعبة الحياة وشروطها، وإن كان يتوهم غير ذلك، ويظن أنه يملك حرية القرار والاختيار؛ بسبب أنه يتحرك بحرية نسبية ضمن دائرة مغلقة مرسومة له، ولكنه لا يبصرها، ولا يستطيع تجاوز حدودها، فثمة حدود غير مرئية تصده، ولو كانت مرئية لربما فكّر في تحديها والقفز من فوقها، فالمخفي أعظم وأخطر وأقوى، ولعبة الخفاء لعبة السحرة والدهاة.
في قصة «تصفية حساب»، يظن الكاتب أنه حر يكتب ما يريد؛ متذرعًا بقدرته على الخلق والإبداع، ولكنه في حقيقة الأمر مقيد برقابته الذاتية القاسية التي تهبط بسقوفه، وخوفه من السلطة، بكل أنواعها وتلاوينها، خاصة المجتمعية، ويقع أخيرًا في أسر شخوص قصصه، فهي تسيره وتفرض شروطها عليه، وإن كان يظن أنه ربها وسيدها. وخلاصة الأمر أن الكاتب لاعب ظاهرًا، ملعوب به حقيقة، وكل كاتب هو ضحية لعبة الإبداع التي ابتدعتها الحياة لتسخر من الكتاب وتبجحهم أنهم يتقنون اللعب باللغة والكلمات، وما هم إلا سخرة ينسجون ما يُطلب منهم أو يؤمرون به.
الشعرة المختلفة في الحاجب، في قصة «علامة فارقة»، أثارت إعجاب صاحبها، واستأثرت باهتمامه، ووقف رافضًا لإرادة زوجته وزميله في انتزاعها والتخلص منها، ولكن في النهاية فرضت الزوجة سلطتها، وانتزعت الشعرة معلنة انتهاء اللعبة المهزلة. نجحت الشعرة المشاكسة أن تدير لعبة استهلكت الاهتمام والغيرة والغيظ والحسد، وربما الشفقة والتخيلات والأوهام، وجرت إلى حلبتها صاحبها وزوجته وزميله في العمل، وظنت الزوجة في النهاية أنها المنتصرة، ولكنها واهمة على كل حال، فالشعرة كانت في طريقها إلى الرحيل أصلًا، وما زادت الزوجة إلا أن أراحتها من ألم النزع الأخير.
أما في قصة «كمستير»، وهي لعبة «الاستغماية» المعروفة، فتمارس الحياة لعبتها بسادية، حيث يقضي المرء عمره بين وهم الظهور، وحقيقة الخفاء، يبقى مُطارِدًا ومُطارَدًا في الآن نفسه، في حلقة مفرغة، تخدعه المرايا وتتآمر عليه، وتصفعه الحياة وتركله بدون شفقة، ويعيش حياته كحمار ساقية، يظن نفسه محرك الكون، وهو مربوط إلى حجر، لا يرتاح إلا ليواصل عمله في أداء واجبه الأزلي في الاستعباد والاستحمار.
الكاتب في قصة «تعايش»، يبتهج بوحدته، وشقته الرحبة له وحده، لا جيران يزعجونه ولا أصدقاء يزورونه، اعتزل ليكتب بعيدًا عن المقاطعات والانشغال بالآخرين، ولكن ما يلبث أن تزعجه الوحدة والصمت المطبق، يشتهي ولو صرير باب، يتحايل على عزلته بجرس الباب يرن بشكل دوري، ومن ثم ساعات ترن أجراسها في أوقات محددة، استمتع بالأمر في البداية، وأعجبته سيمفونية الأصوات المتناوبة بين الجرس والساعات، ولكن ذات فجر، تمردت عليه، واتحدت معًا لتطلق أصواتها في وقت واحد لا يتوقف مهما حاول، فترك لها البيت وهرب. التخطيط للعيش كما نحب، لا يتوافق مع لعبة الحياة، وهي صاحبة الحق لتخرج لسانها لنا في النهاية؛ علامة ظفر وسخرية وتشفٍ.
أما في قصة «كمستير»، وهي لعبة «الاستغماية» المعروفة، فتمارس الحياة لعبتها بسادية، حيث يقضي المرء عمره بين وهم الظهور، وحقيقة الخفاء، يبقى مُطارِدًا ومُطارَدًا في الآن نفسه، في حلقة مفرغة.
في قصة «مسافة كافية»، تتبدى لعبة الحياة في المشاعر الباردة، التي تظلل سماء الزوجين، فيحجمان عن التعبير عنها، وينساقان وراء ظروف حياتية تتحكم حتى بالألسنة، فلا تنطق إلا بجليد المشاعر، وكلمات باهتة تميت أي رغبة أو عاطفة، ويبقيان أسرى هذه اللعبة السمجة التي لا تنتهي.
يخالف الزوج، في قصة «وقت مستقطع»، ما اعتاده بالعودة إلى البيت فور انتهاء عمله، حيث زوجته المنتظرة وطفلاه، ويمعن في الغياب والتسكع في سيارته على غير هدى، بدون أن يتصل أو يطمئن زوجته، بل يغلق هاتفه، ويزيد الطين بلة باصطحاب بائعة هوى، يحادثها بعد صمت، وتحدثه أنها مضطره لهذا العمل؛ بسبب ظروف حياتية قاهرة تحكيها، فيتعاطف وينقدها مبلغًا، وينزلها حيث تريد، بدون أن يقربها، بعد أن عاد إليه رشده، وعلى الأصح تلبسه جبنه وخوفه أن يراه أحد يقترف الخيانة. هي الحياة أيضًا التي تلعب وتسخر وتشد وترخي حبالها؛ معرية البعض، وتكشف حقيقتهم وإن أمام أنفسهم، ففضيحة المرء أمام نفسه أقبح وألعن.
تكشر الحياة عن أنيابها، في قصة «تنازلات»، وتلعب لعبتها القاسية بكل لطف، فتوهم المرء بضرورة التنازل لتسير حياته في العمل بدون منغصات مع المدير والزملاء، وفي البيت بدون مشكلات وخلافات مع الزوجة، وفي الطريق بدون اصطدام، وفي كل مكان لتمشي الأمور بأقل الخسائر، ويبقى من وقع في فخ لعبة التنازلات، يتنازل ويتنازل حتى يفقد كل شيء، وعندما ينتبه بعد فوات الأوان، يكون قد خسر كل شيء، وخسر من يحب، ولم يعد قادرًا حتى على التنازل، فلا تنازل بعد السقوط في الهاوية.
في قصة «خيبة أخرى»، يبيع الشاب محل الستالايت ذا الدخل الجيد، ليتاجر في البورصات العالمية، حيث الأرباح الخيالية كما أعلن، وما شجعه أنها شركات مرخصة، وما لبثت أن تهاوت، وتبخرت الأحلام والأموال، وبقي على الحديدة، وتأبى الحياة إلا أن تكرر لعبتها، ما دام الحمقى لديهم قابلية التصديق، فشده خبر متوارٍ في صحيفة بين يديه عن انضمام الأردن إلى مجلس التعاون الخليجي، وما الفرق بين أرباح البورصة والانضمام لمجلس التعاون، فكلها أوهام تلعبها الحياة في سلسلة لا تنتهي من الخيبات؛ ليطيب لها الضحك والقهقهة على جراح المغفلين، وما أكثرهم!
الساعة لاعب وملعوب به، في قصة «دوار: مقاطع من تكتكة»، فهي بلعبتها الزمنية، تتحكم بأوقاتنا وأعمالنا، وتفرض أجندتها علينا بدون هوادة، وعدم الانصياع لها قد يكلفنا خسارات مكلفة، نحن مجبرون أن نخضع للعبة الساعة وجبروتها. وفي المقابل فالساعة ضحية لعبة الحياة التي تجعلها أسيرة حركة عقارب الزمن، التي تتحكم بها الحياة، محكومة بحركة دوران لا يتوقف، وإن توقفت فلا تلومن إلا نفسها، فإن توقفها يعني موتها، ومن ذا يرغب بالموت؟!
في قصة «لقاء وحيد»، تقارب الحياة بين الشاب الجامعي، الذي يعمل نادلًا في مقهى ليعتاش، والموظفة التي تلجأ إلى المقهى وحيدة، يعيشان في شقتين متقابلتين، بدون أن يلتقيا من قبل أو يتعارفا في المقهى، وما لبثت ابتسامات متبادلة أن فعلت فعلها وحركت كوامن مشاعر لمحرومين وحيدين، فتواعدا في المقهى نفسه، بدون أن يرى أحدهما الآخر، وفي الموعد، اقترب منها، ورأته، فارق العمر بينهما كان كافيًا، ليعود أدراجه، ولتخرج باحثة عن مقهى آخر تمضي فيه عزلتها. أي لعبة عبثية هذه التي تمارسها الحياة على قلبين تيبسا وحدة وحرمانًا، فمدت لهما بساطًا ورديًا، ولما سارا عليه، سحبته من تحتهما وتركتهما للهاوية؟ وأي جفاف وخيبة أمل تنتظرهما؟ ما أقسى الحياة عندما ترفع سياطها لتجلد العطشى الباحثين عن رشفة ماء في لظى الهجير.
وبعد، فقد أبدع القاص جعفر العقيلي في لعبة الكلمات ونسجها، ليصور بلغة جميلة مقتصدة، نماذج حية واقعية من الألعاب القاسية التي تمارسها الحياة على أبنائها، بدون رحمة، لكأنها تعاقبهم وتمن عليهم، ولكن لا يعني أن ما كتبه العقيلي أن نرضى أن نكون مجرد كرة بين أقدام الحياة، ونهبًا لسياطها وصفعاتها، مجرد راقصين «أراجوزات» على حبالها، بل هي دعوة مبطنه منه، أن ثمة فرصة ذهبية، أن نتحايل عليها، ونلعب لعبتها، ونتجنب أذاها، برفضنا وتمردنا وتفردنا وعدم خضوعنا، وأن نأبى أن نكون مجرد بيادق على رقعتها، ولن ننجح إلا أن نكون فاعلين مؤثرين ولاعبين حقيقيين، نحرك البيادق، ونهدم القلاع، ونأسر الفيلة والخيل، ونكون أندادًا للشاه وشاهته.