رشيد عبد الرحمن النجاب
أما وقد بادر الكاتب القارئ بهذه “الحقيقة” عنوانا على الغلاف، فقد جاز للقارئ أن يتساءل: “تكفي لماذا؟”، وسواء كان هذا التساؤل مبنيا على سذاجة، أو خبث، أو لمجرد الفضول فإن التساؤل مبرر.
إنها الرواية الموسومة “ليلة واحدة تكفي” للروائي الأردني قاسم توفيق، والصادرة عن دار “الآن ناشرون وموزعون” عام 2022، وقد نجحت في الوصول إلى القائمة الطويلة للجائزة العالمية للرواية العربية “بوكر”، وفي تقديري أن القارئ سيجهد عبر ما يقارب من 185 صفحة من القطع المتوسط في استجلاء كنه المضامين، لما اتسمت به من عمق الخوض في الأبعاد “الجوانية” للنفس البشرية ذلك المصطلح الذي يعجبني كثرة استخدامه من قبل الروائي قاسم توفيق وفي مواقع محددة حين لا يفي بالمعنى المطلوب غير هذه الكلمة في الحيثية التي تستخدم فيها.
أرّخ الروائي توفيق لأحداث هذا العمل في اليوم الأول من حرب حزيران عام 1967، وفي الريفيرا سناك على الدوار الثالث في مدينة عمان، حيث وصلت “وجدان” الممرضة بقوامها الرشيق وعينيها الخضراوين، قادمة من إحدى مشافي التوليد بعد أن ساعدت في استقبال أحد أول المواليد في ذلك اليوم، فوجئ ذيب “البار تندر” بحضورها في هذا الظرف، والمدينة خواء من الناس، والخوف والترقب في العيون، والطائرات في سماء عمان، والبيانات الإذاعية تتلاحق عن طائرات تتساقط، وسمك مدعو للتجوع، وغير ذلك من الخيالات.
الزبونة المفاجئة في حضورها خالية البال، لم تسمع بالحرب ولا علمت عنها إلا أنها وجدت نفسها وقد علقت في هذا الظرف، وقضت ما تبقى من ذلك اليوم والليلة اللاحقة بصحبة ذيب، فأي تفاصيل ضمها هذا اللقاء؟ أول ما غاب عن لقائهما، هو أي من أخطار اللقاء في خلوة، وفي مثل هذا المكان، إلا أنه كان بين دفتي هذه الرواية من التفاصيل، والحكي والصمت، والبوح والإصغاء، والتأمل الصامت الحزين إضافة إلى الكثير من الخوف، وهذا الأخير يكاد يكون الأكثر حضورا ووضوحا في المشاعر التي تناولها قاسم توفيق بتوسع وتعمق خلال هذا العمل. هل كان الخوف لحظيا أو مفاجئا؟ قد يكون من الصعب إقرار هذه الحقيقة دون المرور بتجربة الخوض في هذا النموذج من السرد الذي قدمه قاسم توفيق مستعينا بمصادر الثقافة العالمية من سينما وموسيقى، فيلم المريض النفسي لألفريد هتشكوك مثالا، وإقدام جريء على خوض في اشتباكات شائكة بين تلافيف النفس الإنسانية، والحقيقة أني لمست هذا الميل لدى الكاتب من خلال أكثر من عمل وفي “نزف الطائر الصغير” و”جسر عبدون ” ملامح من هذا التوجه
يستهل قاسم توفيق هذه الرواية بفقرة هذا مطلعها:
“لا تكفهر سماء عمان إلا إذا هزت أركانها” ويختتم هذه الفقرة قائلا:
“أما الخوف فقد حط رحاله واستوطن، وجعل سماء عمان مكفهرة حتى اليوم”.
كان الخوف ماثلا في الأجواء، لكل أسبابه ودوافعه التي تتحكم بمنسوب هذا الشعور لديه زيادة أو نقصانا، قد تكون وجدان خائفة لوجودها وحيدة في هذا المكان، أو لبعدها عن البيت وقلقها على والدتها المسنة، أو لصوت الطائرات والقصف، أو من مصير الحرب؟! أما ذيب فكان متسربلا بالخوف طيلة مراحل حياته، والتي أطلق عليها، الحياة الأولى، والحياة الثانية، والحياة الثالثة وقد أمعن الكاتب في وصف تفاصيل هذه الحيوات من نشأته إلى لحظة وجوده في هذا المسرح بلا تخطيط ولا تدبير إلا ما رسمه خيال الراوي. وقد وجد الكاتب في هذه المناسبة فرصة مثالية للخوض في تلافيف نفس هذا “الذيب” مثالا لما كانت عليه نفسية الإنسان العربي في حقيقتها بعيدا عن بيانات “أحمد سعيد” وشعاراته التي ما لبثت بخدائعها أن كرست الشعور بالهزيمة.
تساءلت وجدان التي فاتها احتفال الناس في المشفى قبيل مغادرتها، وهتافاتهم لكل زيادة في عدد الطائرات المتساقطة كأنهم يشجعون فريقا لكرة القدم يسجل الهدف تلو الآخر ضد الخصم، تجاهلت هذه الإشارات إلى أن فوجئت بالحرب متسائلة “لماذا اندلعت الحرب فجأة؟” (ص38) وجاءها الرد من ذيب “ما أعرفه أنها لم تتوقف منذ عشرين عاما” والوضع بالفعل يشير إلى هذا ـكما استهل الكاتب روايته “جعل سماء عمان مكفهرة إلى هذا اليوم”، هذه الحقيقة أكدها الكاتب من خلال سيرة البائع المتجول أيوب “والد وجدان الزحار” وقصته يوم أن غادر حيفا عام 1948 إلى أن استقر في عمان، ولو أتيح لوجدان قراءة كتاب “أكبر سجن على الأرض” للمؤرخ الإسرائيلي المهاجر إيلان بابيه لأدركت أن الحرب لم تكن مفاجئة.
لئن كانت تجربة وجدان العاطفية مع عيسى والتي انتهت برحيله المفاجئ والمفجع بفعل المرض مصدرا لمخاوف عديدة، فلم يكن من شأن هذا الظرف الطارئ إلا زيادتها، أو زيادة احتمالاتها وفرص القلق منها، قد يكون خوفها من وحدتها مع ذيب أحد هذه المخاوف، ولكنه ما لبث أن تلاشى، فقد جسرت هذه الهوة باستدعاء السيرة الذاتية لذيب بناء على طلب منها، والذي أربكه رد فعلها عليه بالرغم مما بذل من جهد لإخفاء تفاصيل حرجة من ثناياها، إلى أن وقعت وجدان في مأزق الخوف من جديد، خوف تغلبه الدهشة، تلك التي بدت على معالمها بوضوح وهي تستطلع مقر إقامته الوضيع على بعد متر من موقع تفاعله العجيب مع الزبائن، فقد تملكها الخوف لمجرد التفكير في كيفية قبول المرء بالعيش في هذا الجحر، رسائله وأسراره التي أباحها لها واحتفاظه بها، وبروده في مواجهة ثورتها واستغرابها من هذا الظرف كان مصدرا آخر لخوفها لم ينقذها منه غير خيوط الشمس في اليوم التالي. أما حقيقة هذه الرسائل فأمر آخر لن يدركه القارئ إلا وهو يطوي صفحة الغلاف الأخيرة من هذه الرواية.
هذا الذيب المتمترس خلف البار ومقاعده العالية، والمستند في خلفية المشهد إلى صف من الزجاجات تعددت ألوانها كما تعددت حكاياتها، الملتجئ للصمت غالبا، متخذا منه مصدر قوة ظاهرية، وعلامة إعجاب من كثيرين على أنه صفة إيجابية، وبرغم قوته الظاهرية، وادعائه بمعرفة نفوس الزبائن، وقدرته على الغوص فيها وقراءتها، وجد فيه الكاتب مدخلا لعوالم عجائبية تستند إلى أسس نفسية غاص فيها الكاتب غوصا عميقا مستعينا بذوي الخبرة في الطب النفسي.
في اليوم الثاني من الحرب وبعد صمت البيانات، أدرك ذيب أن وقت الانتشاء بأوهام النصر قد انقضى، وأنه لا بد عائد إلى مخاوفه، بل إلى خوفه الذي يحاول التخفيف منه وهو يخاطب نفسه بشأن إعلام زائرته بحقيقة الوضع قائلا لذاته أنه “لن يريحها أو يخفف من سأمها أن يسر لها بما يحسه…….لقد هزمنا”.
يخوض المؤلف في أعماق نفس هذا الذيب مستعرضا معالمها، من ذكريات الطفولة المؤلمة والاغتصاب الوحشي من قبل أقرانه في الطفولة وصمت، ثم إلى مظاهر من التمرد على العمل في الحقل مع والده، والعمل في البناء في المدينة، وهي تفضي من حلقة إلى أخرى من الخوف والهروب التي تركت أثرها في تشكيل نفسية هذه الشخصية عبر حيواتها الثلاث، وتعقيدات الخوض في الحياة الرابعة التي تكرست فيها تراكمات الحياة الصعبة التي عاشها، والخوف الصامت أو الخوف المغلف بالصمت ،عنوانها ومؤشرها الزائف إلى صفات غير حقيقية لعله هو ذاتيا أول المقتنعين بزيفها .
أخضع قاسم توفيق هذه الشخصية إلى مقارنات عديدة مع “نورمان بيتس “بطل فيلم هتشكوك لإلقاء الضوء على معالم نفسيته، هل كان ذيب شخصا قويا قادرا على القتل مثل نورمان؟ أم أنه يتعارك مع الخوف والقلق حدا قاده الى الطبيب النفسي في ذلك الوقت المبكر والوعي غير المعتاد بهذه المسائل؟ لقد أمعن الكاتب في سبيل ذلك في تعرية هذه الشخصية والكشف عن تفاصيلها.
في السادس من حزيران وقبل أن تغادر وجدان ” الريفييرا سناك ” أصغيا معا إلى أغنية “عاطفية” غابت عن قائمة الأغاني التي كان يقتنص الفرص لسماعها في اليوم السابق في نشوة بيانات النصر، لم يكن الابن يطلب من والده انتصارا…. “وابنك يقولك يا بطل هات لي انتصار” ولا شيء من هذا القبيل، بل كانت شادية تقول “قولوا لعين الشمس ما تحماشي…. لحسن حبيب القلب صابح ماشي” لم تكن هذه الأغنية عاطفية، بل وطنية لها قصتها المعروفة، إلا أن السرد أوردها على أنها صادرة عن دار الإذاعة الإسرائيلية في القدس، فأي رسالة أراد قاسم توفيق أن يحملها لهذا المشهد؟!
تمكن الروائي قاسم توفيق من تقديم الرواية بسرد رشيق وشيق برغم عمق القراءة النفسية التي مضى إليها، وكثرة مدخلاتها ومركباتها، ساعيا لقراءة الأرضية التي تتفاعل معها أحداث بحجم نكسة حزيران. وأرى أنه وفق إلى ذلك.
نشر في “الاتحاد”
07/02/ 2023