سليم النجار
في واحدة من أحدث رواياته (كلاب بريّة/ دار الآن ناشرون وموزعون –عمّان)، يصوغ الكاتب المصري عبد النّبي فرج وضعاً اجتماعياً استثنائياً في تاريخ العلاقة الثقافية بين الريف المصري والمدينة التي كانت مرآة للرواية. ونتابع رؤى الكاتب عبد النّبي فرج وتحليلاته حول المجتمع المصري وعلاقاتها السياسية والاقتصادية والثقافية بالبنية الاجتماعية التي طرأت عليها تطوّرات أخذت شكلاً دائرياً في تصوير الإنسان المصري معلماً في الخروج على الصورة المألوفة في كثير من الأعمال الروائية وغير الروائية العربية التي يذهب فيها العرب إلى تاريخهم السياسي المعاصر بوصفهم إمّا قرّاء محترفين أو تلاميذَ أو مستكشفين أو غير ذلك، لكنّنا لا نراهم -فيما أعرفه على الأقلّ من تلك الأعمال- بوصفهم أساتذة أو معلمين.
رواية عبد النّبي فرج لا تذهب بعيداً بالتأكيد في رسم علاقة القارئ بالتلميذ. لأنّ الكاتب ليس في مكان آخر، وإنّما هو هناك في قلب المجتمع المصري. غير أنّ فرج يذهب أبعد من ذلك في بناء شخصياته الروائية، ويلقِّن شخصياتِه الكلام وتلقنه شخصياتُه الكلام. مؤكداً إلى أنّ كلّ كلام حيّ يحتاج إلى كلام آخر، يضيئه ويطورّه ويكشف عن معناه.
وبحكم عدم انفصال هذه التقنيات عن دلالاتها، بدت متّسقة نسبياً مع المتغيِّرات التي طرأت على النظر إلى هاجس التواصل، وهي متغيِّرات يمكن معاينتها في اتّساع رقعة هذا التواصل، ونقله من مركز إلى آخر، مركز الذات، ومحاولة الافتكاك من الدلالة الناجزة. ومع التجديد الطارئ لهذه التقنيات والدلالات، تقلب النتاج الروائي العربي بين حركة الحساسية السردية التي تبنى على الوعي الذاتي المتدفِّق للحكي من الخارج: (شغوف بصوت الشيخ رفعت، والمنشاوي، ومصطفى إسماعيل، عندما ينطلق الأذان تطفر من عينيه الدموع ص30).
والكتابة عبر النوعية التي يشارك في مشهدها السرد، والكتابة الحرّة التي تتأسّس على التنافذ بين السيرة الذاتية والرواية والخطاب والمعلومات التاريخية، والرواية الضدّ الساعية لتأسيس قول جديد مغاير ومغامر: (زارهما أمير عربي في المحلّ لشراء تذكرات، وكان مُتعَبًا، فجلس ليستريح، فأعدّ له سعيد فنجانًا من القهوة أطار الوخم والنوم من عينيه، فطلب الأمير منه العمل معه في القصر، فوافق. ص64).
ينأى الروائي عبد النّبي عن النهاية، مفرحة أو محزنة، ويسعى لحلحلة مفاصل الوقت وتشتيته وإعادة جمعه ولحمه بأدّق الثواني واللحظات، مع انحراف كتابته عن واضح «معروفها» نحو غامض «مجهولها»: (أعاقب نفسي عشان أكفَّر عن إنّي سبتك للضياع، لكن الدنيا كانت طايحاني، شغل ليل نهار وحسابات ومتابعة لسيارات نقل وصفقات وعمال ومقابلة رجال أمن وتجارة ومعلمين وحكاية طويلة ص156).
يتميز الروائي عبد النّبي فرج في روايته «كلاب بريّة» بما يُعرَف بتعدّد الأصوات، بمعنى أنّه عمل يتيح الفرصة لمستويات متعدِّدة من الرؤية والخطاب أنْ تفصح عن نفسها. وهو ما لا يتوفّر عادة في العمل الشعري الذي تهمين عليه؛ لكننا وجدناه عند عبدالنّبي عندما قدّم أيدلوجيا محدّدة: (وكان لنا دور كبير في حماية مصر من الإخوان، والشيوعيين، والشواذ، والجواسيس، والعملاء، واستطعنا مع «البلاك بلوك» قصمَ ظهورهم وتشتيت شملهم، والعودة بمصرنا الحبيبة كما كانت ص271).
إنّ السّياق الثقافي الذي دخل فيه عبد النّبي فرج من خلال روايته (كلاب بريّة)، سياقٌ مختلفٌ يتنكر ويقوض فهم الجدل للعلاقة بين الذات الساردة والآخر، والآخر المقصود هنا رؤية البنية الاجتماعية التي شكّلت رحم الرواية، تلك العلاقة التي تقوم على التبعية، لا تكافؤ بينهما، بل رؤية السارد هي الطاغية. يذكر أنّ الكاتب عبد النّبي فرج قدّم للمكتبة العربية، العديد من الروايات، نذكر منها: طقوس ضائعة، والحروب الأخيرة للعبيد، وسجن مفتوح.