تقدم رواية “لون آخر للغروب” للكاتبة الأردنية هيا صالح، شكلاً تجريبياً حداثياً يقوم على بناء روائي متداخل، إذ بدا السرد الذي تنقّل بين ضمير الراوي “الأنا” في القسم الأول، وضمير الراوي كلي العلم “هو” في القسم الثاني، كأنما هو حكايتان منفصلتان، لكننا مع استمرار القراءة نلاحظ الخيوط الرقيقة التي تربط الحكايتين معاً عبر أجواء من الغرائبية والفانتازيا.
تدور الحكاية الأولى في الرواية التي صدرت طبعتها الثانية مؤخراً، حول “وفاء” المرأة التي تبدأ اكتشاف ذاتها متأخراً، فتقع في حب عازفٍ هارب من الحرب، وتعيش بسبب ذلك في حالة من الارتباك النفسي، بين أن تختار أسرتها التي بنتها عبر سنوات ووفرت لها الأمن والاستقرار، وبين اختيار الرجل الذي أحبته والذي لا يمكن أن يقدم لها أرضية قوية أو مستقرة.. وهي في خضم هذه الهواجس تسائل نفسها أولاً وواقعها ثانياً حول مدى مسؤولية كلّ منهما عمّا يخططه القدر ويفرضه كواقع للعيش.
تكتشف البطلة بعد رحلة صعبة تستعيد فيها ماضيها البعيد وتنظر من خلاله إلى حاضرها، أنها خرجت من إطار الزمن وحققت شرط الخلود الخاص بها، وهنا يكتشف القارئ عبر دلالات مبثوثة في النص وإشارات رمزية تربط الأحداث أن “وفاء” ليست سوى بطلة الرواية التي يكتبها كاتب مستأجَر يدعى “نجيب”، لهذا فهي بطلة خالدة على الورق وفي بطن الكتاب.
تقول وفاء في جزء من الرواية: “لم أتوقف ثانيةً على الطريق، وما معنى أن أتوقف إذا غدا الزمن لا قيمة له بالنسبة إليَّ؟! إنه ثابت وأنا المتحركة! بدأتْ نشوة النصر تتغلغل في داخلي كسحابة تتكاثف قبل أن يؤذَن لها بالمطر”.
أما القسم الثاني من الرواية فهو يروي حكاية “نجيب”، الكاتب الذي يكتب للآخرين مقابل أجر مالي يحصل عليه، تسير حياته بهدوء وعادية إلى أن تعصف به الأحداث، ويجد نفسه مريضاً بالقلب، وحين يتم زرع قلب جديد له تتغير حياته بشكل عجائبي، فيقرر أن يكتب رواية تخصه وتحمل اسمه، لكنه حين يهم بفعل ذلك يجد نفسه واقعاً في غرام بطلته “وفاء”، التي تتجلى صورتها أمامه كما لو أنها من لحم ودم، يقول نجيب حول ذلك: “بعد عمليتي بدأت أرى شكلاً أثيريّاً، ربما لرجل أو كائن ما، يقترب مني ويلمسني وكل ذرة في جسمي مستيقظة وتؤكد أنني لا أحلم، بعد ذلك بدأتْ تزورني امرأة كأنها جِنيَّة من حكايات ألف ليلة وليلة، أراها ولا أتخيل الأمر، لكنني في كل مرة أقترب منها تبتعد أو تختفي بطريقة غامضة، إذا كنت لا أتخيل؛ فلماذا لا يراها أحد غيري؟ وإن كانت جِنيَّة؛ فلماذا تظل تراوغني ولا تُفصح عما تريد؟ وما علاقتها بالشكل الأثيري؟!”.
وفي البناء الداخلي للرواية التي فازت بجائزة كتارا للرواية، تؤكد الكاتبة هيا صالح على ثالوث نظرية التلقي القائم على الكاتب والمتن والمتلقي، وتقول حول روايتها: “لقد جئت من خلفية نقدية، لذا فكرت في هذه النظرة ومدى صحتها، وحين بدأت أكتب في السرد القصصي والروائي توصلت إلى قناعة بصحة هذه النظرية وعمقها، فالكاتب يضع جزءاً من حياته وتجربته داخل النص، والنص يتفلّت من بين يدي الكاتب ليخط طريقه الخاص، والقارئ كذلك يسقط على النص خلال فعل القراءة تجربته الخاص، وهذا هو الجوهر الخاص بهذه النظرية”.
تؤكد هيا صالح التي صدر لها في الرواية أيضاً “جسر بضفة وحيدة”، على أنها تميل إلى الكتاب الكافكاوية، وترى في الغرائبية أصدق تعبير عن الواقع، إذ تقول: “الفنتازيا هي جوهر الواقع، ولا أرى من وجهة نظري الخاصة أن الترابط المنطقي والتسلسل الزمني التعاقبي للأحداث وغيرها من أساليب الكتابة ذات الوتيرة الواحدة، تعبيرٌ عن صيرورة الحياة القائمة على المباغتة والفجائية”.
ويمكن تلمس وجهة النظر تلك من خلال هذا المقطع في الرواية، الذي يصف سلسلة من الاحداث التي زلزلت حياة البطل: “المشاكل المعقدة دوماً تبدأ صغيرة. في الحقيقة هي ليست أشياء تتراكم كما يرى نجيب، بل لعل المصطلح الأنسب أنها تترابط، كأن تحتاج إلى احتساء فنجان قهوة، فتكتشف أنه لا يوجد لديك بُنٌّ، تذهب لشراء البُن من البقالة المتواضعة في الحي، فيخبرك البائع أنه نَفِدَ؛ فتنزعج وتذهب بسيارتك إلى المحل الذي اعتدتَ شراء البُنِّ منه، وفي الطريق تصطدم برجل فتقتله وتتعقد الأمور بعدها، أو قد يوقفكَ شرطي المرور فتكتشف أنك لا تحمل رخصة القيادة؛ إذ كنت في البداية قررت الذهاب إلى البقالة المجاورة ولم تحمل محفظتك، أو ربما تجد صاحب المُحمِّص مقتولاً ومالَه مسروقاً، فتُلقي الشرطة القبض عليك في اللحظة الحاسمة.. سيظل السبب الأول الذي يدور في ذهنك لتفسير ما حدث من تعقيدات هو فنجان القهوة.. ذاك الذي لم تتمكن رغم كل شيء من شربه!”.