ماتريوشكا سوار الصبيحي.. ماذا في قلب العالم؟

ماتريوشكا سوار الصبيحي.. ماذا في قلب العالم؟


class="inline-block portfolio-desc">portfolio

text

    منير عتيبة

    تبدو دمية الماتريوشكا الروسيّة مثيرةً للتأمّل، لذلك استخدمها أدباء كثيرون في كتاباتهم السرديّة، وكانت اسمًا جاذبًا لبعض الأعمال بما تثيره من غموض وأفكار تصل أحيانًا إلى درجة التناقض، وقد صدر مؤخّرًا للكاتب المصريّ فتحي سليمان رواية (ماتريوشكا من أسوان)، كما حصلت القاصّة الأردنيّة الشابّة سوار الصبيحي على جائزة الدولة الأردنية التشجيعيّة للآداب لعام ٢٠٢١م، في مجال القصة القصيرة عن مجموعتها (الماتريوشكا)، فلماذا الماتريوشكا؟! التي تبدو لي أحيانًا بلا معنى، دمية بداخلها دمية أصغر، بداخلها دمية أصغر، وهكذا، وكلّهن بنفس الشكل، وأحيانًا تبدو عميقة المعاني عند التأمّل، فهل العالم بلا جديد؟ سطحه كقلبه، وما هو خارجه هو ما بداخله، ولا أمل في شيء مختلف، والتاريخ يعيد نفسه، والإنسان يقف عند النقطة نفسها يدور حولها أو يغرق فيها، لكنّه لا يتقدّم إلى الأمام؟ أم هناك معانٍ أخرى يمكن أن توحي بها الماتريوشكا؟
    بعض مَن يناقشون الأعمال الأدبيّة يهتمّون بما يسمّى “عتبات النص”، الغلاف، العنوان، الإهداء، لكن هناك عتبة مغبونة لا يُلتفت إليها كثيرًا، وهي كلمة الغلاف الأخير، فسواء كانت كلمة تقديميّة للكتاب، أو مجتزأ من أحد نصوصه، فإنَّ اختيارها لا يكون عبثًا، لذلك فالنظر إلى العبارة التي اختارتها سوار الصبيحي للغلاف الأخير لمجموعتها، ربما يقدّم المفتاح الأهمّ في فهم هذه المجموعة والتفاعل معها، إذ تقول: “يُطلَبُ من القارئ عادةً التعمُّق في استنباط ما بين السّطور، وعدم الاكتفاء بمجرّد قراءتها، إلّا أنّي أطلبُ شيئًا مختلفًا… هل تستطيع قراءةَ ما بعد السَّطر الأخير؟ إنْ أجبتَ بـ”نعم” فإنَّ هذه القصص قد كُتبت لك، وإن أجبتَ بـ”لا”، فلابُدّ– أقلّه– أن تمنح مخيّلتكَ فرصةَ نقلِك –عبر قراءته– من موقع المتلقّي إلى المشاركة في الحدث، القصص في هذه المجموعة توصَف بالقصيرة، إلّا أنَّ لها بداياتٍ بعيدةً، وأحداثًا متراكمةً أقفُ فيها عند نقطةٍ ما، تاركةً مهمة التأويل لك”.
    الأمران الأبرز في هذه العبارة هما: أولًا: دعوة الكاتبة للقارئ لأن يكون قارئًا إيجابيًّا مشاركًا، لن يكتمل المعنى الكلّيّ للنصّ إلّا بمشاركته هذه، وثانيًا: تنبيه القارئ إلى جوهر القصة القصيرة، وهو التقاط لحظة زمنيّة محددة، لكن هذا الجوهر لا يمنعنا من تخيّل البدايات التي أدّت إلى هذه اللحظة، وهذا التنبيه يؤكّد فكرة المشاركة؛ لأنَّ القارئ هو الذي سيتخيّل هذه البدايات، كما أنّهالتنبيه، يتلاقى مع عنوان المجموعة (الماتريوشكا)؛ لأنَّ اللحظة الزمنيّة التي تقبض عليها القصة هي دمية مختارة من قلب دمى أخرى، وفي قلبها دمى أخرى أيضًا.
    تلك المعاني التي أشرت إليها هي الإطار الحاكم لعمل سوار الصبيحي في مجموعتها، فهي تبحث في قلب اليوميّ المعتاد عن المدهش، عن الجوهريّ والحقيقيّ، المعنى الذي لا يمكن الوصول إليه إلّا بعد التخلّص من كلّ الدمى، والقبض على جوهر اللحظة. كما أنّها تتفاعل مع الأحداث والشخصيّات؛ لتدرك حكايتها الكلّيّة، سواء بالمعرفة الواقعيّة أو المتخيّلة، ومن ثمّ تختار اللقطة الأهمّ التي تراها مُعبّرة عن كلّ هذه الحياة العريضة الممتدّة، كأنّها بهذا الاختيار تساعد القارئ الإيجابيّ الذي تبحث عنه؛ ليتخيّل الأحداث التي أدّت إلى هذه اللحظة.
    تهتمّ سوار الصبيحي في مجموعتها باللغة اهتمامًا خاصًا، فهي تحرص على سلامة اللغة العربيّة، ومناسبة لغة الحكي والحوار لشخصيّاتها القصصيّة، وفي الوقت نفسه تسعى جاهدةً إلى إيجاد لغتها الإبداعيّة الخاصة، وإن كانت لم تصل إلى هذه اللغة بشكل كامل بعد، فهذه مجموعتها الأولى، إلّا أنّها في الطريق الصحيح، إذ تترك قلمها للشخصيّات تُعبّر عن نفسها بدون تدخّل منها في الغالب.
    وبالتالي تنحت كلُّ شخصيّةٍ اللغةَ التي تناسبها، على أرضيّةٍ من ثقافة الكاتبة التي درست اللغة الفرنسيّة وآدابها، وحصلت على شهادة الدبلوم في الترجمة التحريريّة والفوريّة، وعلى جائزة الأردن الأفضل/ فئة الكتّاب الشباب لعام ٢٠١٣، وقد أثّرت دراستها للأدب الفرنسيّ على تعاملها مع حوار الشخصيّات، إذ تكتب جملة الحوار، ثم تقول: “قال أو قالت”، وليس كما هو معتادٌ في اللغة العربيّة، أن نكتب قال أو قالت ثم نضع كلام القائل.
    تبدو الماتريوشكا قابعةً في ذهن الكاتبة، تدفعها إلى الاهتمام بتفاصيل الشخصيّة، ليس اهتمامًا مفرطًا، ولكن بقدر ما تحتاجه القصة، فتصف بطلة قصة (خطوة عزيزة) على لسان الراوية بقولها: “أنفر من مظهرها، وهي تختال بثوبها المفرط في الزركشة… تستفزّني تلك الشامة الناشئة التي تستقرّ فوق أرنبة أنفها، أمّا الأساور المعدنيّة التي تتكوّر خلف بعضها بعضًا، فتفسد عليَّ قيلولتي بضجيجها المتواصل”. هي هنا تهتمّ بما يضايق حاسّتي النظر والسمع لدى الراوية، وهذا الاهتمام بالحواسّ نراه بارزًا في عدد من قصص المجموعة.
    القارئ الإيجابيّ الذي تدعوه سوار الصبيحي لقراءة مجموعتها، سيخطر بباله سؤال: هل كلّ دمية من دمى الماتريوشكا مكتملة بذاتها؟ هل تشعر بالحياة الكاملة أم بالنقص لأنّها بداخل أخرى أو لأنَّ أخرى بداخلها؟
    هذا السؤال المحوريّ كان خلف العديد من قصص المجموعة، التي تبدو فيها الشخصيّاتُ باحثةً عن الاكتمال، من خلال شخص آخر، أو حالة غير معتادة، وكذلك الشخصيّات التي تقف على الحدود الفاصلة بين الحياة والموت، فهل الدمية حيّة وهي داخل دمية أخرى؟ أم هي ميتة ولا تكون حيّة إلّا بعد أن تخرج منها؟ وبالتالي هل الشخصيّات حيّة في واقعها اليومي المعتاد أم فقط تشعر بالحياة الحقيقية عندما تكسر روتين هذا الواقع؟ وما هي الحياة بالضبط؟ وما هو الموت حقًا؟
    الإحساس بالزمن في المجموعة هو أحد المحدّدات الرئيسة لفكرة الحياة والموت، أو الوجود والعدم، ففي قصة (المنبه) تصبح الشخصيّة الرئيسة شبه ميتة؛ لأنّها دمية يُحرّكها الزمن المتمثّل في المنبه، كنموذج أعلى لرتابة الزمن، ولا تصبح الشخصيّة حيّة حقًّا إلّا بكسرها تلك الرتابة.
    ولا تصبح شخصيّات المجموعة حيّةً وحقيقيّةً وإنسانيّةً، إلّا عندما تخرج من دور الدمية المرسومة لها خطوط حياتها؛ لتشتبك بالواقع، بصرف النظر عن انتصارها أو هزيمتها، فهذا الاشتباك في حدّ ذاته هو الحياة الحقيقيّة التي تجعل الشخصيّة إنسانًا وليس ماتريوشكا.
    أحيانًا لا تثق الكاتبة في أنّها ستجد القارئ المُبتغى، فتتوسّع في شرح فكرتها خوفًا من عدم وصول المعنى إليه، وأحيانًا تخرج بالقصة عن القصّ إلى مواعظ التنمية البشريّة، هذا لا يحدث كثيرًا في المجموعة، لكنّي أثق أنَّ الكاتبة ستتخلّص منه في أعمالها القادمة؛ لأنّها استطاعت أن تغوص بعمق لتصل إلى ما في قلب الماتريوشكا/العالم، والأهمّ إلى قلب القارئ الذي سينتهي من القراءة، فيقرّر الاشتباك مع هذا العالم.