إبراهيم غرايبة
يعرض محمد حسن العمري في روايته التي صدرت مؤخرا بعنوان “أولاد عشائر” مشهدا بانوراميا لما تبقى من الحالة العشائرية في الأردن، واختار المسرح الزمني للمشهد فترة حكومة عمر الرزاز (2018 – 2022) وهي التجربة التي يمكن وصفها بإعلان وفاة الأمل بإصلاح ممكن من خلال الحكومات والطبقات السياسية والثقافية السائدة.
ينسحب أحد القادة العشائريين الشاب باختياره كما يبدو ولكن تحت وطأة اليأس والشعور بفقدان المعنى والجدوى ليمضي حياته مشردا ومتسولا في قاع المدينة، ويتقدم آخر بما يشبه المصادفة ليصير مديرا عاما ثم وزيرا، لكنه في واقع الحال لم يكن أحسن حالا من نظيره المشرد، وينتحر آخرون أو يموتون بالمصادفة في حادث سيارة.
النخب السياسية والثقافية والتيارات التي هيمنت على المشهد السياسي والعام فترة طويلة من الزمن ظهرت مجاميع هشة متفسخة ليس لديها ما تقوله أو تفعله، مثلها مثل العشائر التي شكلت المجتمع الأردني فترة طويلة من الزمن.
تضمنت الدولة المركزية على نحو واضح وصريح نهاية العشائر والقيادات الاجتماعية التقليدية، لم تعد العشائر قوة اقتصادية أو اجتماعية أو سياسية منذ بدأت الدولة تفوض الأراضي الزراعية للأفراد بدلا من العشائر، ثم عندما بنت أجهزتها ومؤسساتها البيروقراطية لطبقة من خريجي المدارس والجامعات مستقلة عن العشائر.
الحال أن العشائر والنخب والطبقات السياسية والثقافية صارت تعتمد على الدولة في مواردها ونفوذها وفرصها، ليس لديها سوى عطايا السلطة. وتحولت إلى جماعات تابعة تزيد أهميتها برضا السلطة وحاجتها إليها، وتتلاشى أهميتها في ومضة عين إذا لم تعد لها حاجة.
لكن الدولة المركزية نفسها أصابها ما أصاب العشائر ثم التيارات والشخصيات السياسية، لم تعد لها أهميتها السابقة، فقد تحولت مؤسسات الدولة ومواردها الى شركات تملكها مجموعة قليلة من الأوليغارش، وصارت الدولة مثل العشاير والأحزاب والتيارات تعمل لدى البنوك والشركات ورؤوس الأموال، ولم تعد قادرة على اجتذاب العشائر والتيارات ولا تساعد القرى والبلدات، ومضت مؤسسات الدولة التعليمية والصحية والخدماتية إلى الترهل والعجز، وصار حتى التعليم والصحة تقدمه شركات خاصة تسلك نحو الربح بفجاجة وجشع.
قدمت الدولة المركزية خمس المجتمعات تقريبا لتكون النواة التنظيمية لإدارة وتشغيل المؤسسات والأعمال، وحولت أربعة أخماسه إلى خزان اجتماعي، ثم اختارت الاوليغارشيا خمس الخمس ليستأثر بكل الفرص والموارد والأعمال حتى التعليم لم يعد يحظى به سوى خمس الخمس.
رواية العمري “أولاد عشائر” ليست فقط نعيا للعشائر التي لم يعد لها حضور في البلد سوى أسماء الشهداء المثبتة على شوارع عمان الفرعية والمتوارية، لكنها أيضا نعي لجميع الطبقات السياسية التي أكدت في “الربيع العربي” أنها جماعات من المتسولين والعمالة السائبة، ثم أعلنت حكومة الرزاز وفاتها، وأنها كما العشائر ليس لها أمل سوى مصادفات الحياة.
كل شيء في رواية أولاد عشاير يمضي إلى نهايات حزينة، لم يكسب أحد، لم ينتصر أحد، جميعنا خاسرون. المجتمعات التي كانت قادرة على تدبير أمورها بقدر من الاستقلال والكفاية؛ صارت فضاءا قوامه عمال مياومة يقولون ويفعلون ما يطلب منهم فقط ليبقوا على قيد الحياة. والأحزاب والتيارات السياسية التي أمكنها عام 1956 أن تشكل حكومة حزبية منتخبة صارت جماعات “فاليه” تنشئ السياسة والفضاء العام للأوليغارشيا كما توقف وتحرس سياراتها.
ليست الرواية سردًا يُنشِئ حكايةً تبدأ وتنتهي لكنها أيضا مليئة بالمتعة والصور والمعاني التي تشدّ قارئها ليس ليعرف ما حدث وما لم يحدث لكن بحثا عن المعاني والتأملات في الذات والمآلات.
نشر في (سابر للعربية والأدب والتراث)