ما بين الحرب والحبّ.. قراءة في “المرتزق رقم 9” لـ سميحة التميمي

ما بين الحرب والحبّ.. قراءة في “المرتزق رقم 9” لـ سميحة التميمي


class="inline-block portfolio-desc">portfolio

text

    خديجة مسروق
    (كاتبة من الجزائر)

    يقول أفلاطون إن النفس تملك صفة الخلود بعد الموت، وإن لها القدرة على التحكم في الجسد.
    وبين الفناء والخلود تتمركز القضية الأساس في رواية “المرتزق رقم 9” للروائية الأردنية سميحة التميمي، التي تدعو قارئها إلى فسحة تأملية في الفلسفة الوجودية وإشكالاتها عبر مجموعة من الثنائيات المتباينة كالوجود والعدم والحضور والغياب والموت والحياة.
    الموت هو الثيمة التي انبنى عليها هيكل الرواية وفق استراتيجية فلسفية معقدة أرادت الروائية من خلالها أن تعطي صورة عن عبثية الحرب التي لا تفعل سوى القتل، حتى لوكان دافعها هو الحبّ. الحبّ هو الذي يدفع الناس لشنّ الحروب، حبّهم لأوطانهم أو لحبيباتهم أو لذواتهم، المهم أن الحرب والحبّ متشابهان بحسب الروائية: “بين الحرب والحبّ تشابه كبير، كلاهما يحتاج إلى رجال وليس إلى ذكور”.
    “المرتزق رقم 9” رواية حداثية تخلّت فيها الروائية عن تقنية السارد العليم الذي تتميز به الرواية التقليدية. فعبر مجموعة من الأصوات السردية التي تمثل مجموعة من المواقف الفكرية والإيديولوجيات المتباينة تَشكّل نص الرواية. والساردون فيها هم: نورس الماجد، بهيجة العربي، بيشنو، سعيد فنار، والد النورس ووالدة النورس..
    صورت التميمي تاريخ الشعوب في العالم، القائم على الحروب والصراعات من أجل البقاء، من أجل التحرر من العبودية والاستبداد، وكل ماتسببه تلك الحروب من أزمات نفسية مصدرها خوف الإنسان من شبح الموت الذي يتربص به في كل حين. المقاتلون في صفوف المعارك هم أشد الناس مجابهة للموت. فالحرب بارعة في أنها تحرق كل شيء.
    “المرتزق رقم 9” هو الجندي بيشنو.. أحد المرتزقة القادمين من بلدانهم، الذين تورطوا بسبب الفقر والحاجة والعوز في حرب ليس لهم فيها ناقة ولا جمل.. فقط من أجل أجر لا يرقى إلى مستوى الموت الذي يجابهونه.
    تتساءل التميمي: ما وجه الشبه بين السجن الجسد والسجن الوطن؟
    السجن يظل سجناً، والحرب وحدها قادرة على أن تمنح الحرية للعالم ليتحرر من سجن الفكر وسجن التقاليد ومن سجن العبودية بأنواعها المختلفة.. التحرر من كل ما يمكن أن يعرقل عجلة الزمن نحو التطور الحضاري.
    “نورس الماجد” الصوت الطاغي في نص الرواية. هو قائد سلاح المشاة من المرتزقة. الوطن بالنسبة له هو تلك المقابر التي يخافها هو ورفقاؤه فينتهون إليها. شخص شوهت الحرب تفاصيل حياته. بالنسبة له لا فرق بين الحرب والحب، ففي كليهما يرى أن عليه أن يكون بطلا مكرها أو راغبا. ورغم انتصاراته في الحرب إلا أنه خرج منها مهزوما. النورس رمز للحرية وحبّ الحياة. والحياة أجمل من الموت ومن التلاشي.
    لا تكتمل المعاني إلا بالأضداد، فكل حياة بعدها موت. والموت بالنسبة للروائية هو أبو الحياة الشرعي. فمن ذا الذي يتنكر لأبيه الشرعي؟
    “بيشنو” صوت آخر في الرواية شوهته الحرب، كان كلما أصابته أزمة نفسية يفكر في الانتحار.. بيشنو يتصدر الصف الأول من سلاح المشاة مع نظرائه المرتزقة، كلما حاول التمردع لى الذين يمارسون الموت قهرا على إنسانيته، يوقفونه بطريقتهم الخاصة.. يضعون المرتزقة في الصفوف الأولى في الحرب، وإذا قُتلوا تشيَّع جثامينهم إلى الثرى دون أن يعلم ذووهم بموتهم.
    الورود التي ورد ذكرها في الرواية، هي رمز للاحتفاء بالحبّ والحياة وكذلك بذكرى الأموات. الورود شكل من أشكال الحياة يحملها المحبون في وجه الموت. باقات الورود التي كان يضعها الجنود فوق قبور رفقائهم من ضحايا الحرب في ذكرى مقتلهم ما هي إلا صرخة في وجه الموت وفي وجه الحرب. الورود تذكر الإنسان بالحبّ وبالحياة وإن ذكّرته بالفقد. فالفقد لا يشعر به إلا المحبّ إذا غادره محبوبه، المرء إذا أحبّ صرخ في وجه الفقد ونادى بالحياة وردة حمراء يلوحها في وجه الغياب.
    في حركة سردية متداخلة اعتمدت فيها الروائية على مخيلتها تماهى فيها الخيال بالواقع لتلامس مجموعة من القضايا الإنسانية كالحبّ والوفاء والخيانة والغدر.
    والد “نورس الماجد” يمثل صوت الحق. عاش حياة نزيهة ومات موتة النبلاء. غدر به أصحابه الذين يشاركونه تجارته. أُدخل السجن وهو لا يعلم عن تهمته شيئا. وقف برأس شامخة أمام محاكميه ليدافع بنفسه وعن نفسه، عن شرف أخلاقه الذي أراد المجرمون تلطيخه. يعزي “نورس الماجد” نفسه في مقتل أبيه الذي ما إن يُذكر تُذكَر الرجولة والوطنية، يقول: “يا أبي.. أنيق موتك، أنيقة جثتك، أنيق عزاؤك، ومحايد وجهك حين كشفوا عنه الكفن، ذلك هو الموت الأبيض، فمن قتل الموت النظيف”.
    “بهيجة العربي” صوت نسائي يمثل صوت الإنسانية.. صحفية تقوم بكتابة التقارير حول ما يجري من أحداث في ميدان الحرب وإرسالها إلى صحيفتها. كان “نورس الماجد” بالنسبة لها يمثل الوطن. هو رجل حرب وهي امرأة خُلقت للحبّ ومن أجل الحبّ. فتعلم منها لغة الحبّ.
    أراد “نورس الماجد” أن يكتب روايته من أجل أن تتوقف الحرب بحسب رأيه.. أن يكتب حكايته مع الحبّ ليس على طريقة قائد عسكري، لأن القادة العسكريين في الحرب يتجردون من إنسانيتهم، فيقرر أن يكتبها على طريقة رجل عاشق، عشقه للمرأة أكثر من عشقه للكتابة وللشعر وللأدب.
    رواية “المترتزق رقم 9” (الآن ناشرون وموزعون، 2022) في مجملها عبارة عن رسائل كتبتها شخصيات الرواية المتصارعة نفسيا بفعل الحرب الشنيعة لتي لا ترحم أحدا. اتخذت سميحة التميمي من فن الرسائل أداة تعبّر بها عن حالة التشظي التي يعاني منها أبطالها، وتجسد قلقهم الفظيع تجاه حياة الحرب.
    كتب “نورس الماجد” كل تفاصل حياته، مركزا على الدور الذي كان يؤديه في تسيير شؤون الجنود وتهيئتهم للحرب. كان يصف حالته النفسية وموقفه من وجوده في معسكر الوغى، فقد كان شعوره مقسما بين الواجب الذي يدفعه للمضي في معركة الحرية حتى الانتصار، وبين وخز الضمير الذي يذكّره بأن وراء الحرية أبرياء يُقتلون، وكان أملهم في الحياة كبيرا. لا وجود لنصر حقيقي أو كامل، فالحروب كما جاء في الرواية لا تعدو أن تكون لعبة للموت تقضي على البشر في الحرب. يقول “نورس الماجد”: “نحن -في الحرب- ضد الغريزة وضد العاطفة وضد الحياة”.
    “نورس الماجد” يحمل في جبينه صورة حبيبته “بهيجة العربي”، وعلى كتفه بارودة بهيجة، وبينهما كان يحيا هذا القائد العاشق. تموت “بهيجة العرب”ي ولكنها لم تقل كلمتها الأخيرة كما جاء في بداية الرواية. فما هي يا ترى الكلمة التي لم تقلها وقد كتبت كثيرا وتحدثت كثيرا؟
    الفرق بين الحرب والحبّ حرف واحد، ففي الراء رحيل وفقد، و”نورس الماجد” يقول في رحيل “بهيجة”: “كان عليّ أن أعرف أن الحنين بعد الموت أشد من الموت وأقسى”. الحرب خذلت كل الذين ماتوا فيها، والنوارس التي تهاجر وتموت في مهاجرها تنجب فراخا لا يعرفون الوطن. يخرج “نورس الماجد” من الحرب مهزوما محطما من الداخل، وكل انتصار حققه في تلك الحرب في نظره هو هزيمة كبرى.
    نلاحظ بأن الروائية تجردت من المفهوم الزمكاني تاركة الأحداث تسير في فضاء لا محدود، لا تخضع لفاعلية الزمن ولا للحدود المكانية. راهنت التميمي على نصها ذي المرجعية الفلسفية العميقة، بلغة مشفرة تضع قارئها في حيرة أمام الإشكالات الفلسفية المطروحة التي ربطتها بالموروث الأسطوري، كملحمة جلجامش الأسطورة التي تصور طمع الإنسان في أبدية الخلود. وأرى أنها كسبت الرهان لما حمله نصها من قيمة فكرية وفلسفية، ما يجعله يشكل علامة مميزة في المشهد الروائي العربي.