مها العتوم
لعل أهم ما يلفت القارئ في قصيدة مريم شريف “ما لا يستعاد” (الآن ناشرون وموزعون، 2018) هو هذه التدفقات الشعرية المنسابة مثل نهر، بجمل شعرية تبدو كأنها مجرد كلام عادي من شدة بساطتها، ولكنها تمتلك شعرية عالية بسبب كل ما فيها من بساطة، ولكنها بساطة خادعة تسحب القارئ إلى حوار عميق مع الإنسان والطبيعة والحياة والموت والمجاز، وهو حوار عميق وحزين في الوقت نفسه إلا أنه مضيء مثل ضوء آخر النفق، لذلك يتبعها القارئ من أول النفق إلى آخره حابسًا أنفاسه ومسحورًا يفتش عن علة ذلك الضوء:
قريبًا من الضجيج والناس
والركام،
بأصابع أتعبها كثيرًا أن تمسح الدموع
التي لم تسقط إلى الخارج
أكتب على البياض المتلاشي
والورقة الممزقة
ما يُضاف إلى الركام…
فكتابة مريم شريف قريبة من الضجيج: الحياة، والناس: الإنسان، والركام: الواقع بكل ما فيه من خراب نعيشه، إنها تكتب الألم الذي لا يمكن قوله ولا البكاء بسببه، ولكنه يحز في النفس، ويُسبب البكاء الداخلي الذي لا تكفكفه إلا الكتابة، ولكنها كتابة على البياض المتلاشي وعلى الورقة الممزقة وكأنه سؤال الزمن والجدوى، وكل ما تكتبه إنما يضاف إلى الركام الذي تجاوره وتكتب عنه، وفي الحقيقة هي تُجمّله وتجعله قابلًا للاحتمال بالفن والجمال.
وفي قصيدة مريم شريف تختفي البلاغة القديمة بحدودها المتعارف عليها، وتقيم قصيدتها بلاغتها الخاصة على علاقات جديدة بين مفردات الكون والإنسان والطبيعة، فتشكل معجمًا متفردًا للمفردات والتراكيب والجمل الشعرية، وتصنع صورها الفنية بأسلوبها الخاص المميز، فلا تنبني القصيدة عندها على تراكم الصور، ولكنها تشكل صورها بالكلام السهل البسيط الذي تظنه – في لحظة ما- كلامًا عاديًا ويوميًا وتلقائيًا كأن لا شعر فيه، وهذا هو السر في شعرها وفي شعرية قصيدتها:
على التلة البعيدة
ضوء بعيد
من كثرة ما نظرتُ
صارت التلة تضيء
من كثرة ما أضاءتْ
غرقت الشوارع في الظلام…
ولعل هذا المقطع الصغير على بساطته يختزل تجربة الشاعرة التي تشغل عزلتها بالتأمل، وهي عزلة لا بد أنها تتسم بالعتمة وظلمة الجدران والبعد عن الناس، ولكنها كافية للشعر حين تكثر النظر وتطيله وتصنع من الضوء البعيد الضئيل نورًا متوهجًا، وهذا الضوء يعشي ما حولها ويغرقه في الظلام. فالشعرية هنا مصوغة من مفردات بسيطة: الضوء، والنظر، والتلة، والشارع، والظلام. فهي في الظلام ترى نورًا خافتًا بعيدًا، ومن إطالة التأمل تصنع النور الطاغي الذي يجعل الشوارع تغرق في الظلام. لا بد أنها تنسل الضوء من العتمة، وبالضوء تعيد العتمة إلى مكانها. وكأنها عبارة النفري الذي رأى أنه كلما اتسعت الرؤيا ضاقت العبارة. وكأن الوهج والشعر والكشف في الضوء الضئيل والبعيد، فإذا اشتد الضوء أعشى البصرَ وعمّ من بعده الظلام، لينتهي الكشف والتجلي، ويعود المريد كما تعود الشاعرة إلى لحظة البحث عن الضوء الخافت من جديد. وفي موضع آخر تقول:
في كلماته القليلة
أبحث عن قطرة ماء
علقت بسقف إحدى الكلمات
أبحث في قطرة الماء عن نهر
أبحث في النهر
عن كأسي التي أضعتها منذ سنين
ألملم الرؤى التي أحاطت السراب منذ الأزل
أشهدها تلوي عنق السنين
وتُعبّئ النهر في كأسي
أشاهد الكون يتبادل الدور
مع الكأس التي شربتها للتو…
هذه الكلمات القليلة تتوازى مع الضوء الخافت الضئيل في المقطع السابق الذي يتراءى من التلة البعيدة، وفي الكلمات القليلة تفتش عن قطرة ماء، وفي قطرة الماء تفتش عن النهر، وفي النهر تفتش عن كأسها، عن الضوء الذي يخصها الذي صنعت منه ضوءًا باهرًا في المقطع السابق. وهي توازي هنا عملية البحث عن الشعر، أو هي رحلة الشعر في ملء كأس الشاعرة من كلمات قليلة كقطرة ماء تصير نهرًا، وقد تلتبس فتصير سرابًا، لكنها تنتهي بالامتلاء، وبالشعر حتى ترى الكون في اللغة: يتبادل الدور مع الكأس التي شربتها الشاعرة للتو، وما كأس الشاعرة إلا قصيدتها التي تصير كونًا يخصها يمتلئ ويفيض.
ففعل الرؤية الخاص بالشاعرة هو مفتاح هذين المقاطع، وهو في الواقع مفتاح تجربتها، فقصيدتها هي خلاصة تجربتها، وهي الضوء والماء الذي تصنع منهما وبهما الشعر. ومن هنا يمكن فهم إعادة ترتيب الوجود، وتعريف عناصره في قصيدتها وفقًا لرؤاها التي تنهل من نهر تجربتها وضوئها. فالشعر في أبسط تعريفاته إعادة لتعريف مفردات الوجود، إذ إن الوجود معروف للجميع، واللغة معروفة للجميع، لكن الفريد ما تصنعه الرؤيا الخاصة بالشاعرة في صياغة الوجود من جديد في كل قصيدة، تقول في تعريف المسافات:
المسافات ليست على الأرض
المسافات ما ننسى أن نقوله
ثم يسقط في النسيان…
وفي تعريف وجهها تقول:
وجهي الذي ألملم ملامحه من عيون الآخرين
وأنسى خطايَ في ساحته البهيجة لبعض الوقت
ليس هو ذاته
الوجه الذي أراه أمامي في المرآة
ألم أقل بعد
إن الزمن يتكدس في الجمادات
على هيئة اهتراء…
وعن اللحظة التي لم تصل، تقول:
اللحظة التي لم تصل
هوتْ من السماء نحو كفِّي
ملأ ضؤوها عيني لحظة
وانسكب منها كالبكاء
تلك اللحظة كانت ستسقط فوق نهاري
لو لم يكن نسيجه ركيكًا
مثل نسيج يدي
وتسترسل في وصف اللحظات في قصيدة ترصد الحياة كأنها لحظات معلقة في سقف الوجود، ومن جدل العلاقات في كل لحظة تصنع حياتها وقصيدتها. فتقول عن لحظة أخرى:
اللحظة التي تطرد الماء من صوتي
والمكان من سمائه
هي اللحظة التي أحتاج أن أغسلها عن أصابعي
كي أُعتق النافذة من إطارها وزجاجها
وأطلقها بين أنفاس الريح
كي توازن بين فضائها المبتور
وزرقة السماء…
وعن لحظة ثالثة تقول:
اللحظة التي يحبسها الغبار فوق زجاج النافذة
هي ذاتها اللحظة التي أحتاج محوها عن حوافّ نومي
لأغربل لحظة اليقظة من غيوم السقف
لأوقف الخواء الزاحف بين حواسي الخمس
وبين مفاتيح الباب
لتعيدني روحي إذا ابتعدت…
وتتراكم اللحظات مثل الضوء المتراكم ومثل الماء المتراكم، لتصنع من الضوء نهارا، ومن قطرة الماء نهارا، ومن تراكم اللحظات حياة جديدة في اللغة تواجه خواء اللحظات في الحياة وقسوتها وعنفها ضد الإنسان وضد الشاعرة في الحياة وفي القصيدة.