متعة التحول في “قرية بوتيرو” للتونسية لمياء نويرة

متعة التحول في “قرية بوتيرو” للتونسية لمياء نويرة


class="inline-block portfolio-desc">portfolio

text

    عبدالله المتقي

    “قرية بوتيرو” ، هو اسم المجموعة القصصية التي صدرت مؤخرا عن الآن ناشرون وموزعون بعمان، للقاصة التونسية لمياء نويرة بوكيل، في حلة جميلة من القطع المتوسط، وتضم اثني عشر نصا هي على التوالي: شركس ، كرمة شهلة، جسد، حب الصنوبر، غربان، أحباب الله، قطفة حبق، النهر، طلاقة النساء، الحكواتي، ثالثا وأخيرا، قرية بوتيرو، جاءت كلها بنفس سردي طويل ، فرضته أسباب النزول، والحالة الانسيابية التي كانت عليها القاصة وهي تنكتب ، وهذا يعني أنها مرشحة بامتياز لكتابة نص روائي .
    إن أول ما يلفت المتلقي في هذه الباقة القصصية، هو العنوان الذي جعلته القاصة رأس حربة نصوصها، وهو نفس عنوان القصة الأخيرة من المجموعة، فعنوان “قرية بوتير” جاء جملة اسمية ، يغيب عنها الفعل، كبنية دالة على شرط الزمان، وهو ما يجعل دلالة العنوان متجهة صوب الاستمرارية والانسياب، كما يحيل مباشرة إلى مجال الفن التشكيلي، “بوتيرو” اسما للفنان التشكيلي الكولومبي والعالمي، ثم إلى المكان المقيد بـ”القرية”، مما يثير لدى القارئ رصد المستوى الاختياري للعنوان، وفي تفسير النص لعنوانه نقرأ في الصفحة: “وسرعان ما أحس بأنه بدأ يفقد أنامله شيئا فشيئا ، لحظة كان يدور بصره في لوحاته الخاوية من عناصرها ، وورشته التي صارت شبيهة بقرية أطلال تبكي هجر سكانها”، وبعد هذا، نقف عند ورشة “بوتيرو” المتحولة الى فضاء مهجور، وهياكل من اللوحات والأطلال ، مما يثير لدى القارئ فضولا لمعرفة حكاية هذا التحول ،مما يفتح أمامه قراءة المجموعة واستنطاق قصصها، بقصد القبض علىى هذا الوهج الدلالي لموضوعة التحول في أحشاء المجموعة .
    وعليه، تصدح المجموعة بمواقف مختلفة تجاه جملة من التحولات الاجتماعية والسياسية والثقافية وغيرها، تضمنتها نصوص قصصية طويلة، واقعية ومتخيلة في نفس الآن، حاولت القاصة من خلالها التقاط تفاصيل الحياة اليومية والهامشية للمواطن التونسي، في ظل هذا الزمن الذي شهد الكثير من المتغيرات والانتقالات، وهكذا نعثر على موضوعات قريبة من الإنسانية من جهة علاقاتها بالمحيط من حولها من جهة أخرى .
    نقرأ في قصة “شركس” حيث التحول من وضع موجع وجارح إلى أخر مريح: “حين ظهرت تباشير الصباح كانت شادية قد أتمت جمع أغراضها، وأضافت حقائبها إلى حقائب هاجر المعدة للسفر، وأسرت في نفسها : “ها قد حان موسم الرحيل، غاليتي ستسافر لتعانق بهجة الحياة ، وأنا سأرحل لأرتاح ، فما عاد في عمري متسع للوجع والخيبة”، ولعل البحث عن الحقيقة وراء هذا القرار ، هو رحيل القط “شركس” بسبب تعنيف زوجها المتوحش، ثم إدمانه السكر، نقرأ في الصفحة”: سارع المخمور بنزع حذائه، وبحركة عدائية انتزع الغطاء عن الصندوق، وهوى على رأس شركس المسكين يهشمه “، بهذين المشهدين السرديين تكون القاصة قد شخصت موقفا اختياريا، يتمثل في الهروب من وضعية عدائية، إلى وضعية بديلة تجلب الراحة والهدوء، والأكثر منه هو هذا الفائض لقيمة أنسنة، وترقية العلاقة بين الإنسان والحيوان .
    في قصة ” كرمة شهلة “، يحضر التحول، لكن هذه المرة، بمواقف موغلة في ذروة الإنسانية، حين ترفض “شهلة ” التحول إلى ماكينة للإنجاب لأجل مشغلة زوجها “سميرة” :” اسمع ياهادي ، أنا مهما اشتد بي الفقر والجوع، وابتليت بكل مصائب الدنيا وعللها، لن أفرط في أولادي ، أموت جوعا ولا آكل يوما من ثديي” ص25
    وعليه، تكون “شهلة” قد جسدت الرفض القاطع لرسملة جسدها، وتبضيع ذريتها، ومن ثم، تحويلها إلى آلة لصناعة للمنتوجات البشرية :” أليست هذه الشجرة هديتها ؟ أليست سيدتك الفاضلة، للّة سميرة تنظر بعين الطمع إلى ثمرها ؟ ها أنا أسحقها يا هادي، وأسحق معها طمعها هي، وارتخاءك أنت” ” ص 25
    في قصة “جسد” ، تحول يشبه زغاريد الموت، ف” مارية ” التي لم تستسغ زواجها وارتباطها الشرعي برجل يكبرها سنا : “ومن قاع الذاكرة ، قفزت إليها صورة يد الحاج علوان الجمل ،مشغل أبيها وعريسها الموعود ، تلك اليد الغليظة التي كانت تلوح لها بكيس الحلوى ، أيان كانت طفلة ” ص30، تنتقل بالعرس والأفراح إلى مأتم ملطخ بالحزن والأتراح .
    هكذا إذن، تولد المرارة من الحزن، وينبعث الموقف من الاغتصاب الرمزي، ويحصل التحول من الحياة صوب الموت – الانتحار :” قالت بصوت لا تردد فيه : “وإن مات هذا الجسد ، أشرف له أن يكون طعاما لقرش ، على أن يكون قربانا لجمل” ص 34
    وفي نفس سياق هذه التحولات، وحرص القاصة على التقاطها بذكاء، نقرأ في قصة” قطفة حبق” نقرأ : “يا ربي ، يا ربي ، يا صاحب الحق ، خوذْلي حقي منهم ، يا ربي راني هجالة مسكينة، أمّ أيتام” ص 75، في هذا الشاهد النصي احتجاج ومطالبة بحقوق ضاعت حيفا وظلما، ومن تحتها، تصوير عميق للاحتيال على العباد، والذي يمارسه البعض باسم السياسوية الانتهازية والمناسباتية، لحاجة في نفس ضمائرهم الخائبة والخائنة: ” قال أحد المحتشدين بتهكم: ” هاهاها ، هاذم جماعة الانتخابات واضح ، وبلا أدنى شك ، قالو ليك الحل بإدينا” 76
    أما في قصة ” ثالثا وأخيرا “، فتفكر القصة في قضايا الكتابة، أو ما يسميه الدرس النقدي الحديث ب” الميتاقصصي” ، حيث تكسر القاصة التمييز القائم بين ” الإبداع ” و ” النقد “، وتفتح الباب للقصة كي تتأمل ذاتها، كما في هذا المشهد الذي يحتج ويواجه من خلاله الممثل المؤلف المسرحي :” أيها الكاتب الظالم ، أنت أخرجت رفاقي من المشهد، لأنك تحب أن تحطم كل ما نسجه صبري وأناي المعذبة ، أن تدمر ما بناه عذابي ، وحققه ألمي الرهيب ، كيف تفعل بي ذلك ؟” ص122
    وبخصوص التبنين الجمالي في المجموعة، حرصت القاصة في صناعتها القصصية بهذه الخطوة القصصية الثانية في حياة القص، على مكون الوصف الذي يشغل حيزا واسعا، ويتساوق واللحظة السردية التي تروم القاصة إظهارها، بتقنية سينمائية بقصد ابرازها، مثلما تسليط الكاميرا القصصية على الإنسان : “هذا الرجل الممتلئ ذو الطول الربع، واليدين الطويلتين، والوجه اللوزي بخدود تميل إلى الاستدارة، والشفاه المكتنزة الممتلئة بالكلام” ص115
    ومثلما يحضر الوصف، يحضر الحوار لتشييد مسارات السرد، ويضمن الجدل والتحاور بين القوى الفاعلة لقصص المجموعة، وفي هذا السياق، يؤدي الحوار وظيفتين، الأولى ايديولوجية تتمثل في مواقف واختيارات الشخصيات بالموافقة أو المعارضة، وثانيهما تعبيرية تتمثل في امكانية الحوار على شخصنة مرسل الخطاب .
    ويستثمر الحوار جمالية الشفوي بقصد التقاط دقيق للأشياء، والانغراس في الجدلية الاجتماعية، وتنشيط فعل التلقي “شهلة واشْ بيك ـ عوّامْ بحورـ يايمُا ، ياخواتي ، اجروا لي … ” ، كما تستثمر القاصة محزونها الأدبي والتراثي العربي، والعالمي من خلال المقتبسات التي تفتتح بها القاصة كل قصصها، وهي لأسماء ورموز: ” كافكا، محمود المسعدي، برنارد شو، مي زيادة، مظفر النواب، جبران خليل جبران، بيكاسو، غسان كنفاني، محمود درويش و.. مما يعني أن القاصة دخلت عالم كتابة القصة القصيرة بخلفية معرفية، ولم تسقط بالمظلة على أراضيها صدفة وفضولا.
    توظيف السرد المرئي خاصة في قصة “قرية بوريتو” من خلال قاموس اللغوي الذي يحضر بقوة :” سوريالي، لوحة، الألوان، فرشاة، ريشتك، اللون، الحجم، تمثال، ورشة ..” ، والذي يوحي بانفتاح القصة وتفاعلها مع فنون جمالية تعبيرية أخرى، وكما هو الأمر أيضا في قصة ” ثالثا وأخيرا” التي تفاعلت وفن المسرح .
    ومجمل القول، يمكن اعتبار مجموعة “قرية بوتيرو” إضافة جديدة للمشهد القصصي التونسي بصيغة المؤنث، من خلال التقاطها للتحولات التي شهدها محيطها المحلي والكوني، ومن خلال انفتاحها وتعريتها لواقعها الذي يحبل بقضايا، ومتغيرات تتطلب تدخلا من شأنه الارتقاء بالذات الفردية والجماعية، من هذا الكائن الذي ليس على ما يرام ولا يطاق ، إلى الذي ينبغي أن يكون ، ويجب أن يكون قريبا أم بعيدا .