مهدي نصير
أثناء زيارتي لدار الآن ناشرون وموزعون أهداني الدكتور باسم الزعبي مدير عام الدار مجموعةً من إصداراتهم الجميلة، ومنها مجموعةَ الشاعر ماهر القيسي «نخبَ هابيل» وهي المجموعة الشعرية الثانية لماهر القيسي والصادرة عام 2021 بعد مجموعته الشعرية الأولى «كاهن الطين» والصادرة عام 2012، وماهر القيسي من الشعراء الأردنيين الشباب والذين يحملون مشروعاً شعرياً جديداً وأصيلاً ومنتمياً لتراثنا الشعري العربي بوعيٍ وتمردٍ وبحثٍ عميقٍ عن شعرية اللغة والأشياء بعيداً عن تكرارات القصيدة التقليدية العربية التي بلي ثوبها واستنزُفَ مخزونها عبر مئات السنوات من تاريخ هذه الشعرية التي ننتمي لها ونولدُ منها وفي فضاءاتها الخصبةٍ نحاول أن يكون لهذا الشعر العربي مكانته التي تليق به بين شعرية اللغات والحضارات الإنسانية المختلفة.
سأقرأ معكم هذه المجموعة الشعرية عبر الملاحظات التالية:
أولاً: العنوان «نخبَ هابيل» والذي يُضمر «اقرأوا معي أو اشربوا معي نخبَ هابيل» لذلك نصب الشاعرُ نخبَ في اسم المجموعة وهي توريةٌ جميلةٌ لهذه المجموعة الشعرية المليئة بالشعر والإيقاع والبوح الإنساني المليء أيضاً بالرفض والحب والدهشة والبحث عن منابع هذا البؤس والضجر والكآبة التي نعيشها، هذه المجموعة الشعرية الناضجة تؤشر لشاعرٍ مرهف الحس باللغة وبالأشياء من حوله والتي يحاول أن يقرأها من اليسار إلى اليمين أو من الجذر نحو الفروع علّه يلتقط الأنساغ الخفية التي يحسُّها كشاعرٍ ولا يعيها.
ثانياً: لغة هذه المجموعة لغةٌ يوميةٌ عاليةٌ تحمل اليومي البسيط بإيقاعاته وتُعيد قراءته وتُعيدُ تركيبه في محاولةٍ لبث الحياة في الاشياء التي تذوي وتختبي وتختفي مخلفةً خلفها صقيع الفقدِ والغياب:
نقرأ من قصيدة «نكهة المزكوم :
« أختهُ حملتْ لنا الشايَ
نعنعُ شايها فائحٌ مِثْلُ عطر العريس
ورغم زُكامي حينها إلى الآن..
ريحُهُ.. طعمهُ في كلِّ كوب ! « ص40
ثالثاً: في ايقاع قصائد هذه المجموعة، وسيعترض الكثيرون على تصنيفي لقصائد هذه المجموعة على أنها قصيدةُ نثرٍ توشحها ظلالٌ عميقةٌ لتفاعيل الخليل بصورها الخليلية وتحولاتها التي أعطت عبر التاريخ للشعر العربي تنوعاً إيقاعياً عذباً، فمثلاً من قصيدة « تاجٌ ثقيل « ص67 نقرأ:
« متوجاً بالذنوبِ والانكسارات
اسمعي صراخي
كأنَّ الريحَ تجعلُ من كفها تجويفاً وتنفخُ فيهِ «
والمقطع اعلاه يتكون من التفعيلات التالية:
فعو/ فعولن / فعو / فعولن / فعولن / فعو / فعو/ فعولن
وهذه تشكيلات المتقارب
ثم ينتقل بالسطر الثالث إلى:
مفاعيلن / مفاعلتن / فاعلاتن / مستفعلن / فعلاتن
وهذه تفعيلات خليلية ممزوجة وعذبة
وتتكرر هذه الصيغ التفعيلة الممزوجة عبر قصائد المجموعة مع تكراراتٍ محدودة لا تزيد عن اربع او خمس مواقع لتتالي اكثر من متحركاتٍ اربع في قصائد المجموعة ويمكن تفسيرها عبر الوقف والمد في القراءة لهذه التتاليات، نقرأ نموذجاً لهذه التتاليات من قصيدة « محاولة تصحيح « ص 73:
« لا أدري لماذا لم أخبر حبيبتي أن القريةَ وجهٌ آخرُ لي
ولماذا نظرتُ إلى زركشة القرميد
( ساعةَ سألتني ) عن الطرقِ الترابيةِ التي تحتَ حذائي
ولا أدري كيف لم أُخرج الأهازيجَ من فمي «
ونقرأ هذا المقطع إيقاعياً – مع تدوير نهاية بعض الأسطر مع ما يليها – وكما يلي:
فعلن / فاعلن / فعلن / فعلن / مفاعلن / فعلن / مستعلن / فعلن / فعلن
فعلن / فاعلن / فعلن / مستعلن / مستفعلــــــن
فعلتُ / مستفعلن / فعلن / فعولن / مفاعلن / مستعلن / فاعلن
فعلن / فاعلن / فاعلن / فعولن / مفاعلن.
من القراءة التحليلية أعلاه نلاحظ تتالي تفعيلة الخليل فاعلن بصورها المختلفة ممزوجة مع مستفعلن بصيغها أيضاً المختلفة وكذلك دخول فعولن في السطرين الأخيرين من هذه المقطوعة العذبة اللغة والإيقاع، أما فعلتُ في السطر الثالث فيمكن كسر حدة تتالي المتحركات الخمس عبر الوقف بين ساعةَ… سألتني، والوقف المؤقت – أو كما يسميه الدكتور أحمد مختار « المفصل « – يؤكِّد كلُّ الأصواتيين العرب أنه فونيمٌ أصيلٌ في نسيج الكلام في اللغة العربية.
ومن التحليل الصوتي أعلاه نلاحظ تتالي النوى الإيقاعية المكونة للكتل الصوتية الأكبر ( التفعيلات ) التي تمَّ كسر وحدتها في قصيدة النثر العربية باتجاه النوى الإيقاعية وتتاليها في بناء إيقاعات قصيدة النثر بعيداً عن الكتل الخليلية الكبيرة التي كانت تهيمن وتلتهم الإيقاعات العضوية الكامنة في نسيج وجرس الحروف والأصوات والنوى الإيقاعية في بنية الشعر العربي وبعيداً عن توازنات وتناظرات هذه الكتل الكبيرة وتكراراتها المملة، وهذا التحليل أيضاً يبين أن قصيدة النثر العربية ولدت من رحم النوى والنسيج الإيقاعي للغة العربية وليست وليداً هجيناً مجلوباً.
رابعاً: يتحرك نصُّ الشاعر ماهر القيسي في مناخاتٍ إنسانيةٍ عالية تقرا بؤسَ وقهر ولا جدوى هذا القتل المجاني الذي أسَّس له في الميثولوجيا الإنسانية قتلُ قابيلَ لشقيقه هابيل، في قصيدة « ثلاثةُ نقوشٍ لذكور العائلة الأولى « والمكونة من ثلاثةِ نقوشٍ هي نقشُ هابيل القتيل ونقشُ قابيل القاتل ونقشُ آدم الأب، من نقش هابيل نقرأ:
« آدمُ يا أبي أنقذْ بنيكَ
نحن لا نُديرُ أمورنا
تُديرها الشهواتُ
والرعبُ الذي يحتلُّ داخلنا
آدمُ يا أبي أنقذْ بنيكَ
وكُلْ من شجرةٍ أخرى
ليغادرَ إخوتي هذا الجحيم « ص 148
وفي قراءتنا الإيقاعية لهذا المقطع العالي نجد تتاليات للنوى الإيقاعية المؤسِّسة لإيقاعات اللغة والشعر العربيين بسلاسةٍ وتكرارٍ لتبادلات التفعيلة الأصغر في تفاعيل الخليل التأسيسية ( فاعلن بصورها المختلفة ) ومستفعلن بصورها المختلفة وفي السطر الأخير نقرأ الرجاء في تفعيلتي ( مفاعيلن تليها فعولن ) وكما يلي:
فاعلُ / فاعلن / مفاعلن
مفاعلن / فعلن / مفاعلن
مفاعلتن / فعولن
فاعلن / مستفعلن / فعلن
فاعلُ / فاعلن / مستفعلن / فعلن
فاعلُ / فاعلن / مستفعلن فعلن
فاعلُ / مفاعيلن
فعلن / فعلن / مفاعيلن فعولن.
هذه القراءة الإيقاعية أعلاه تبين أن قصيدة النثر تتحرك في المجال الإيقاعي للغة العربية ونسيجها وتركيباتها وفق تتالياتٍ لا تلتزم بكتل الخليل الكبرى وتناظراتها وأوزانها المتساوية بل تكوِّن اوزانها وتتالياتها الإيقاعية وفقاً لرؤية الشاعر اللاواعية للبعد الرياضي لهذه التشكيلات الإيقاعية والواعية بعمق للعلاقة العضوية بين اللغة والصورة وإيقاعات مكوِّناتها اللغوية.
هذه قراءة اولية سريعة لمجموعةٍ شعريةٍ لشاعرٍ شابٍ يمتلك شعريةً جميلةً وواعدةً بصوتٍ شعريٍّ مميز ومرهفٍ وجميل.
وهذه القراءة السريعة أيضاً هي جزءٌ من قراءة ايقاعات قصيدة النثر العربية وفقاً لنموذج المتحركات الذي اقترحته كبديل جذريٍّ لدوائر وتفاعيل وزحافات وعلل الخليل العروضية.