يُهدي الشاعر الفلسطيني علي مي ديوانه الأخير “مَـــطـَـــــرٌ لِتُـــــرابِ حَدائِقِهِنَّ” الصادر عن “الآن ناشرون وموزعون” في الأردن إلى بِلادِه الشَّاهقة، وأبنَائها الَّذين يواجهون الألم بابتساماتهم الَّتي لا تعرفُ الذُّبول.
ويقدم الشاعر الحائز على المركز الثاني بجائزة الشارقة للإبداع الأدبي في مجال الشعر، عن مجموعته “نهارُ الغزالة” صور شعرية تؤثثها لحظات الحزن الفلسطيني، وتسند إيقاعاتها رؤى حالمة بغد تتحرر فيه مدن الحياة من هذا الموت.
“أرفعُ الحُـزنَ عَـن صَدرِ أغنيَّـتي
وأعودُ إلى جَـسـدي آخرَ اللَّيلِ
أضحكُ..
والـقَـلبُ زيتونــةٌ هــشَّمَتها الـفُــؤوس.
والخيــلُ مَجنونةٌ مُـنـذ مَـوتِ الـبَـسُـوس
وإنْ قـيــلَ لا بُـدَّ مِـن طَـللٍ بَعْــدَ هَـذا
فـمَا ضرَّ بَعـدَ وقـوفِي الـطَّـوِيــلِ الجُـلوس”.
وبتفاصيلَ تسكن الشاعر الذي يقرأ أرضه، حجراً وتربة ونباتاً وماءً وكائناتٍ وأساطيرَ وتاريخاً حضارياً وتراثاً شعبياً، يؤنسن صاحب ديوان “مَـــطـَـــــرٌ لِتُـــــرابِ حَدائِقِهِنَّ” كل شيء في هذا المحيط ليصنع الحياة التي يحلم بها، ويجعل من كل الكائنات بشرا يشعرون بالغياب كما في قصيدة السّروة التي أسرج خيالاتنا معها وجعل منها مقاوما شرسا، وحلما يرواد كل من يعشق الحرية:
“وقَبلَ أن أُجَنَّ
قَبل أن أصيرَ شَاعراً
كنتُ أرى السَّروةَ في الحَديقةْ
مَسلَّـةً خضراءَ فوقَ رُقعة الخَليقة
…
وبعدَ أن جُنِنت
بَعد أن أصبحتُ شاعراً
أمسكتُ مُرغماً بِجمرةِ الحقيقةْ..
رأَيتها سَجينةَ العَراءِ”.
وفي مديح كائنات الهامش لا يتوقف علي مي عن استنهاض الحياة حتى في من لا نعتقد أنهم يستحقونها، ووفق بنية سردية شعرية ترسم صورة أخرى لمقامات لم نكن ندركها، معلنا انحيازه لهذه الكائنات وحقها في الحب والحياة والمديح، كما هو حق من ننحاز لهم، مؤكدا على حق الجميع في الحياة، رافضا التعالي البشري المقيت:
“الصَّراصيرُ
تَجهشُ بالشَّــجَنِ الشَّاعِـريِّ،
ولَكِنَّنا عُـنـصريــون جــداً
وباسمِ الحـداثـةِ لا ننتـقـي للقَصِـيـدة
إلَّا الفَــرَاشَة، واللُّوتَــس البـرجُــوازِيِّ
….
أنا عَفوكم لجميعِ الهوامِش في الأرضِ
أعلنُ عَن انحِيازي”.
ولأنَّ القصيدة الآن كشفٌ، أسكبُ النُّورَ كَوثراً في وَريدِي، وَأُغَنِّي للعُشبِ في مُقلَتَيها، ورمادِ السِّيجَارتَين الشَّهِيدِ، بهذه التفاصيل الشعرية الباذخة في اللغة والكشف، يجزم علي مي ان القصيدة كاشفة رغم كل هذا الغموض، وأن القصيدة عنوان مقاومة رغم كل هذا النكوص، وأن القصيدة ملحمة منذ ان بدأت الحياة، تعاين مسارات الصراع بين أساطير الخليقة وتوثق للصبر والشهادة؟
وحين ينوء الشاعر بحمل الحقيقة يتوقف ليسمع لهمس قلبه، القلب العاشق، فيبوح بسر عشقه لمدن كانت في طريق الحياة نبوءات شاعر ومحطات أسرار ووجع، فكانت إربد إذ تُـقصِـي عَــن الفَـجرِ الـغـزالِ ذِئــابهُ، ودمشـق في شجن دمشقي، وبَـــغــداد في نشيد تشرين، والقاهرة في شهقات أخيرة، ليوقّع الشاعر على مسارات ما تزال تجرح الذاكرة بالحنين، وترسم في الأفق ظلال البعيد.
وعلى عزف الدم الفلسطيني ينشد علي مي أناشيد كنعانية، يرسم فيها ملامح يوسف، الفتى الغزي مشهرا سيف الوجع في حوارية بينه وبين أمه، ثم يمرّ على شهيدة الكلمة شيرين أبو عاقلة، وريم بنا، وناي البـرغوثي، حتى يتوقف عند صديقاتُ أُمِّــــــــه، ليكوي جراحه على مصاطب اعمارهن بكل حنين:
“لمن أيُّها الشِّعرُ إنْ لم تكُن
للصَّباحِ المقدَّسِ آنَ تَنَفَّسَ سَمــراءَ أقداحِهنَّ
لدَاليةٍ لوَّحَت بعَناقِيدِها
كْي تؤدي التَّحيةَ خَلفَ نَوافِذِهِنَّ
لموسُوعَةِ الوردِ يكتُبْنها
بُرعماً
برعماً
فوقَ لَوحِ الحَياةِ/ تُراب حدائقهنَّ”.