عبداللطيف الوراري
يقال إنّ نابليون بونابرت عندما اجتاح الأراضي الأوروبية في ما عرف بـ»الحروب النابوليونية» بين عامي 1803 و1815، صدّر الفيلسوف الألماني فريدريك هيغل (1770- 1831) كتابه «فلسفة الحق» بقوله: «إنّ بومة منيرفا لا تشرع في الطيران إلا بعد أن يحلّ الظلام»؛ وهو يرمز بهذا الطائر إلى ما يتهدد الحضارة الإنسانية من عوامل الخراب والزوال، ثم يصير للفلسفة أو ضروب الحكمة المختلفة دور لا غنى عنه في مثل هذه الأوقات العصيبة، التي يُعدم فيها العقل لصالح الجهل المُعمّم. تحليق الطائر هو بمثابة تشييد المسافة الضرورية بينه وبين الواقع العياني، لفهم ما يحدث وتجاوزه.
يستوحي الشاعر العماني سيف الرحبي من هذه المقولة الهيغلية عنوانا لعمله الإبداعي «بومة منيرفا» (ناشرون وموزعون- عمان، 2020) ويضيف إليها معاني ودلالات رمزية وأخلاقية كثيفة، تمليها عليه ابتلاءات عصره المضطرب وموقفه الصريح والرافض منه، حيث «البومة في أسوأ صورها» في الفضاء العربي. الكتاب هو مجموع رحلات ومقالات كتبها الشاعر ومزج عبرها بين وقائع من تجربته الشخصية، وما هو جماعي مشترك، متنقّلا بوجدانه وكيانه وبصيرته داخل الأمكنة التي ارتحل إليها، ومستبصرا ما يلوح له من «وجوه الضحايا» و»الأخاديد التي فتحتها الطبيعة» التي تموج برمالها المتحركة «في صحارى العري الراشح بالموت الجماعي». لا يناقش القضايا والأفكار من برج عاجي أو منظور مطمئنّ ومتحيز، بل يتفاعل معها ضمن ما يشاهده في عين المكان من اختلاطات الحياة المعاصرة وفوضاها، بشيء من السخط وغير قليل من الحصافة التي تفرضها مسافة شاعر محزون وحكيم، وهو ما يساعده على تحديد أبعاد الصورة وإعادة تأويلها وإنهاضها من ركام الانحطاط البادي للعيان؛ وهل ثمّة من حكمةٍ لفعل الكتابة ذاتِ جدوى غير تبديد الظلام وبعث الأمل من جديد؟
الشاعر في طنجة
في نصّه الاستهلالي «طنجة: مغيب المغرب العربي الكبير» الذي هو بمثابة رحلة قام بها إلى المغرب، يطلق سيف الرحبي طائره من علٍ على نحو يُخالل التخوم بقدر ما يسمح له بالاستبصار الرائي:
«من رأس سبارطيل
أرى المحيط أمامي
منبسطا، خاشعا
كصلاة أقوامٍ على وشك الإبادة..
وأرى المتوسّط
في خط التقاء الأطلسي
فضاءَ غيوبٍ محتشدا بالأسرارِ
والمخاوف..»
تريد هذه الرؤية «البرزخية» أن تتعالى على اندحار اللحظة وتتطهر من مخاوفها المرعبة في الزمان الحاضر، بقدر ما تتيح للشاعر أن يجد معنى جديدا لما يحصل حوله من زلازل واختلاطات ضاجّة، وأن يبني رؤية جديدة للمكان المغربي الذي ينزل إليه، داخل تحوّلاته واختلاطاته المتموّجة. فهو لا يستحضر من ذاكرة طفولته البعيدة إلا صورة غامضة عن هذا المكان، ويُرْجع ذلك إلى ما كانت تمارسه ثقافة بلاد المشرق العربي بمناحيها كافة، إلى جانب الإرث المحلي، على الوعي العام: «نفر من الطلبة ذهب إلى المغرب، وجاء بأخبار مثيرة عن طبيعة تلك البلاد التي تفوق بلاد المشرق ولطف تعامل أهلها مع الغرباء». ومنذ نزوله بـ(رأس سبارطيل)؛ إحدى ضواحي طنجة البحرية، قادما إليها من مطار (أورلي سود) الفرنسي، يحتمي الرحالة بالماضي الغابر وهو يستعيد «مجد الأمويين وفتوحاتهم» وبطولة عقبة بن نافع الذي يتقدّم صُعدا بخيله، من غير خرائط ولا مُجسَّمات وأدلاء، حتى تخوم المحيط، ومثل ذلك القائد المغربي يوسف بن تاشفين. كما يخامره شعور الاستعادة (النوستالجيّة) حين يذكر مجد العرب وحضارتهم معمارا وعلوما وفلسفة، وكيف أرسى المؤسسون الأوائل دعائم مشروع الحضارة العربي الإسلامي في غضون عشر سنوات، الذي هيمن على العالم من حدود الصين حتى جبال (البرانس) في القارة الأوروبيّة، ما لم يتحقق زمنيّا في أي حضارة أخرى قبلهم، بما فيها روما العظيمة. وحين يعبر أرض الأندلس، بدا كأنّه يرثي «الفردوس المفقود» مسحورا بسخاء طبيعته التي تحتشد بالجمال والبهجة وعزاء النفس.
غير أنّ هذه الاستعادة لا يستدعيها الشاعر لترف أو لحنين إلى تاريخ منقرض وماض تليد مضى، بل لفرط ما يحمله من «أثقال غثيان الحاضر وانحطاطه» إذ يرثي تجربة الراهن العربي المأزوم، الذي يتميز بالخطر والتلاشي و«تحتدم فيه حروب العبث الطائفي البشعة سارقة أحلام التغيير الحقيقية، النبيلة» ابتداء من (قوارب الموت) إلى انفجار الوضع المشرقي الذي تسبب فيه ما عُرف بـ(الربيع العربي) وكانت نتائجه أكثر قسوة واندحارا عن حياة العصر الحديث وعناصره واستحقاقاته. ومن مفارقات هذا الزمن ـ في نظره – أن يجري «التنكيل بالتاريخ» من طرف كتاب دراما وأدباء و«مفكرين» عرب، وهم يُصوّرون هذا التاريخ كأنّه «ماركة مسجلة لمصانع الحقد وغرائز الانحطاط الطائفي» بل «تفوّقوا بشكل ساحق على مرجعياتهم الاستشراقيّة في أسوأ أحوالها» إذ لا يزخر ـ في نظر هؤلاء المستشرقين وتابعيهم- إلا بالشرّ والدم والوحشيّة. يستذكر كلّ ذلك بمرارة، بقدر ما يحاكم رمزيّا واقع اللحظة العربية وفظاعتها واندحارها الدامي، لكنّه يجعل من رحلته – لا شعوريا- عزاء للتأسّي ومُتنفّسا للهروب من «سطوة الحنين ومازوشيّته».
وسط هذا الكرنفال وما يحدث فيه من تحوُّلٍ وعمى ألوان وإيقاع سردي مشهدي، تنقل لغة النص بما هو نصٌّ رحليٌّ، وعي الشاعر وجسده وخطاب استيهاماته وتفكُّهاته الساخرة، وهي تتدفق بالصور والقصص والمشاهدات بين التاريخ والجغرافيا والفلسفة والشعر والذكريات، فيما هي تحاول أن تعكس صورة البلد الذي ينهض من أنقاض الحكمة القديمة، لكنها لا تنفعل أو تتحسر لماض زائل، أو تتخفى وراء تجميلاتها.
اكتشاف الكرنفال المغربي
ظلّ سيف الرحبي يتردّد بصورة دائمة، منذ مطلع الثمانينيات، على المغرب وحواضره الكبرى (مراكش، فاس، الرباط، الدار البيضاء، أصيلة وطنجة) إلى حدّ أنه عقد ألفة مع المكان المرتحل إليه وصارت له ذكريات معه/ فيه؛ «البلد الكريم بشرا وطبيعة» حسب وصفه، إما لمناسبات ثقافيّة تعرّف من خلالها على الوسط الثقافي المغربي ووثّق الصلة به جماليا ومعرفيا، أو لمناسبة خاصة حيث يأخذه الحنين بين الفترة والأخرى لزيارة الربوع ولقاء الأصدقاء، وفي كل مرة كانت تتجدد روح الاكتشاف عنده. من شمال المغرب بين أصيلة وطنجة؛ حيث «تلك التلال الغابويّة المطلة على المتوسط والأطلنطي» يطلق الشاعر العنان لحواسّه وجسده للاستجمام والتأمل، مأخوذا بسحر المكان وأساطيره (مغارة هرقل) وبالبحر الذي تعبره «قوارب صيد وناقلات عملاقة» ويحتشد في ذروة الصيف بجموع الناس، ولاسيما بعد عودة المهاجرين المغاربة وقضاء إجازة الصيف في بلدهم الأصلي، من ذوي الجنون والولع بالبحر في طواف حجيج شبه مقدّس «كأنما يغتسلون من أثقال عام مضى..».
وسط هذا الكرنفال وما يحدث فيه من تحوُّلٍ وعمى ألوان وإيقاع سردي مشهدي، تنقل لغة النص بما هو نصٌّ رحليٌّ، وعي الشاعر وجسده وخطاب استيهاماته وتفكُّهاته الساخرة، وهي تتدفق بالصور والقصص والمشاهدات بين التاريخ والجغرافيا والفلسفة والشعر والذكريات، فيما هي تحاول أن تعكس صورة البلد الذي ينهض من أنقاض الحكمة القديمة، لكنها لا تنفعل أو تتحسر لماض زائل، أو تتخفى وراء تجميلاتها.
ويرى في تدفُّق الجموع «المكلومة» نحو البحر سانحة للاستمتاع بـ»نعمة النسيان» والهروب «من أسر الضغوط ومصائب الحياة اليوميّة» «إلى رحم الأرض الأمومي». لا يخفي إعجابه بـ»هذا الكرنفال المغربي البحري» الذي يعكس علاقة المغاربة الصوفية بالبحر، وبكرم الطبيعة وسخائها، وبطعام الكسكس، وشغف المغاربة حدّ الهوس والجنون بالفنون والفلسفة كتابة وسلوكا. كما يرصد تَغيُّر فضاء طنجة من ناحيتها البحرية، بعد أن اختفت بسبب ظهور الكورنيش سلسلةُ المطاعم بتنوعها الإثني الذي يُذكّر بماضي المدينة وغلبة الطابع الإسباني عليها. ويستعيد حكاية محمد شكري الذي عاشت المدينة تشرده، وشقاء طفولته المبكرة، ومجده الأدبي، قبل أن يداهمه المرض العضال الذي قاومه بضراوة حتى بدأت قواه في التداعي والاستسلام: «قال شكري: أخيرا، ها أنا أنام من غير حراك. العاصفة تنام على سرير المرض بعد أن أنهكها المسافات والزمن.. أمام موقف مأساوي كهذا، أي كلمة مواساة أو تعزية ليست من غير نفع؛ فرُبّما تكون مُهينة».
يتتبّع مقادير الفضاء وشخصياته، ويترك للقارئ أن يستخلص ما فيه من ضروب البهجة حينا، ولحظات العبث التراجيدي التي تحيط به وتُغيّره حينا آخر، ولاسيما ما يتعلّقُ ببعض المظاهر الثقافية التي رصدها داخل هذا الفضاء؛ مثل: غياب مرافق البنية التحتيّة للسياحة (مقاه ومطاعم واستراحات..) تليق في إمكانات البلد الطبيعة الكبيرة، على شاكلة ما يحصل في بلده سلطنة عمان، وهيمنة الفرنسية في المعاملات اليومية، رغم أن النخب الوطنية قاومتها أثناء الاحتلال وخاضت حربا متعددة الوجوه «من أجل الاستقلال والهويّة والمستقبل» وانتشار جحافل العسس المدعوم بالتطور التقني إلى حد أنه يطلب «نعمة الخرس». ورغم بطش الخطاب الذي اعتمده الحسن الثاني وشراسته، غداة محاولات الانقلاب عليه، إلا أنه لم يقطع ـ في نظره – مع الحياة السياسة ووقائعها، وإلا لكان قد جرّ البلاد إلى «القتل والتصفية والترهيب بكل أشكاله» كما حدث في الشرق. ويحاول وريثه محمد السادس تعزيز الدولة الديمقراطية وفرصها في التنمية والتقدم المنشود، عبر إيلاء المجتمع المدني (الأحزاب والنقابات والهيئات..) دورا أكبر، نحو «مملكة دستوريّة حقيقيّة» غير أنّ «عوائق (المخزن) – كما سمع من أحد أصدقائه المطّلعين- وطبيعة طبقة الامتيازات المثقلة بالتقاليد والأنماط التي تجاوزها الزمن الراهن، تشدّ الأمور إلى حدّ الجمود والاستنقاع». ما زالت البومة تتطلّبُ صبرُا أكبر!
وسط هذا الكرنفال وما يحدث فيه من تحوُّلٍ وعمى ألوان وإيقاع سردي مشهدي، تنقل لغة النص بما هو نصٌّ رحليٌّ، وعي الشاعر وجسده وخطاب استيهاماته وتفكُّهاته الساخرة، وهي تتدفق بالصور والقصص والمشاهدات بين التاريخ والجغرافيا والفلسفة والشعر والذكريات، فيما هي تحاول أن تعكس صورة البلد الذي ينهض من أنقاض الحكمة القديمة، لكنها لا تنفعل أو تتحسر لماض زائل، أو تتخفى وراء تجميلاتها. ومن خلال خبرته كشاعر رؤية وتفاصيل مشهدية، لا يضع الشاعر فواصل بين السرد والشعر، ويجعل من شعرية السرد نمطا من قول الحكمة حين يصف حركة العمران والعادات والناس والذهنيّات، وحين يلقح مشاهداتها العيانيّة بملفوظات متخيّلة – حلمية (حكاية المنحوس، حلم الليلة الإشبيلية) واستعادية (رأي المستشرقة الإسبانية لوث في هدوء المتوسط وهدير الأطلسي، صداقة محمد شكري، استعادة ليل السطوح الصيفي في دمشق وبغداد) وتاريخية في ضوء تجربة الحاضر المأزوم (معركة الزلاقة، حضارة الأندلس) وعلمية (الزحف القاري حسب نظرية الصفائح التكتونية، حيث انفصلت أوروبا عن افريقيا قبل 65 مليون سنة) وحجاجية (عقد المقارنة بين شواطئ بلده سلطنة عمان والمغرب، من حيث تكوينها الجغرافي أو الطقس أو ثقافة الاسترخاء من طرف مرتاديها، وهذا الأخير وبلاد الشرق بعد مآلات «الخراب القيامي»).
تتجلّى قيمة هذا التنويع الأسلوبي، ليس في تنظيم شكل الخطاب والمواءمة بين إحالاته المرجعية وحقله الاستعاري المترائي وحسب، بل كذلك في تمثيل صورة الذات نفسها داخل الخطاب، إذ تصير ذاتا إيحائيّة أكثر لا يعادلها في حيرتها وتأملها ووقارها إلا مشهد عصفور الدوريّ وهو يحطُّ على إفريز نافذته المطلة على المحيط وتلال رأس سبارطيل الخضراء؛ كأنّما أتى مذعورا من عُمان، وعابرا شريط الصحارى والمحيطات والتواريخ العالقة، وهو يحمل في منقاره رؤيا لخلاصٍ ما قد يكون أقلّ سوءا!