نبيل عبد الكريم
يظل القارئ للرواية واقفا على أعتاب حكاية ذاتية، بطلها اسمه (ظافر محمود)، ويطول وقوفه من دون أن ينجح سارد الحكاية في الانتقال إلى مستوى السرد الروائي الفني، المتوقع منه، وينتظره القارئ، ليحلّقا معا في فضاء التخييل الروائي.خيّب محمد حسن العمري الأمل في نفسه روائيا، في تجربته الروائية الثانية، الصادرة في عمّان، العام الحالي، عن دار (الآن ناشرون وموزعون)، بإخفاقه في نقل الحكاية من مستواها الذاتي البسيط، إلى مستوى الخطاب السردي الفني. فظل المتلقّي عاجزا عن التفاعل شعوريا مع أحداث الرواية.ألقت الرواية حمولتها السردية كيفما اتفق، ولم تخضع أحداثها لمعالجة فنية ترتقي بها إلى مستوى الخطاب السردي القابل للتحليل، برغم قابلية مادتها الخام للتحول من الخاص إلى العام، وتوليد المعنى على وجوه كثيرة وكثيفة.تسرد الرواية حكاية بطلها من الطفولة إلى الكهولة. ويمتاز هذا النوع من الحكايات الأوديبية بإمكانياته الهائلة على بناء الأمثولة أو الأسطورة الشخصية، وقد برع فيه كتاب أمريكا اللاتينية ومنهم، غابرييل غارسيا ماركيز في رواية (مئة عام من العزلة)، وإيزابيل إليندي في رواية (بيت الأرواح)، فالسارد في هذا النوع من الروايات يمتلك ميزة القبض المحكم على حياة شخصيته ورسم تفاصيلها على نحو يقرّبها من جوهر التركيب الإنساني المعقّد.
حملت حكاية (ظافر محمود) بذور الشخصية الدرامية، فقد ولد بعلامة فارقة تتمثل باختلاف لوني عينيه، “اليمنى عسلية فاتحة، واليسرى بنية غامقة”. ونجا من براثن أنثى الضبع التي اختطفته من سريره، لكن الرواية لم تستثمر هاتين الحادثتين رمزيا ودلاليا.
ظلّت شخصية (ظافر) مسطحة، وحكايتها شديدة العمومية، وتفاعلها مع الأحداث لا يختلف عن تفاعل عامة الناس معها. وساهم فائض الأحداث في اضطراب بنية الشخصية الروائية، وتشتيت صورتها في ذهن المتلقي.ولد ظافر لأب من أبناء القرى الأثرياء، فكان أبوه يملك أراضي واسعة وقطيعا كبيرا من الماشية ومخازن يكريها للتجار. وبلغ من ثرائه أن كلبه كان “يأكل نصف دجاجة كل نصف نهار”. وفضلا عن ذلك، كان له شرف الخدمة في الجيش الأردني، وأبلى بلاء حسنا في الحرب ضد الصهاينة عام 1967.النشأة المرفهة التي حظي بها (ظافر) في طفولته، تناقضت مع صورته في شبابه، فالشاب الذي حصل على منحة دراسية في الجامعة الأردنية، يرى عمّان “مدينة النخب الأرستقراطية الباذخة”، ويقدم نفسه بوصفه “ابن الفلاح، ابن العسكري، الذي تفوح منه رائحة الأرض والجذور والحشائش وأوراق الشجر اليابسة والرصاص” ويهاجم أستاذه لأنه رفض طلبه أن يعيد الامتحان، ويبالغ في ردة فعله تجاه هذه الحادثة، مستخدما لغة انفعالية خَطابية أوقعت الخط السردي في شرك الافتعال.
ومن أبرز أوجه هذا الخلل المزعج في شخصية (ظافر) أن السارد يصورها شخصية مثالية من الناحية الفكرية، وبراغماتية من الناحية السلوكية، وهذا التناقض يمكن فهمه لو كان السارد واعيا له، ومتقصدا إحداثه. لكنّ سياقات السرد ونبراته كلها تشير إلى سطحية التعاطي مع تعقيدات الشخصية المتناقضة وتشابكاتها النفسية العميقة. لذلك يجد القارئ للرواية نفسه في صراع مع تناقضات السرد، وليس مع تناقضات الشخصية. والفرق كبير بين النوعين، فالنوع الأول منفّر، والنوع الثاني ممتع ومحبب.تقوم السياقات السردية داخل الرواية على منطق تبريري، يبيح لـ(ظافر) أن يلجأ لطرق غير مستقيمة للنجاح في حياته الخاصة وحياته المهنية، ويحافظ في نفس الوقت على صورته الفكرية المثالية.
هذا التواطؤ بين السارد وشخصية (ظافر) نجده في غير موضع من الرواية، فأفكار (ظافر) تتغنى بالمثاليات الوطنية والعاطفية “ولم أخدعها، (سعدية)، ولم أحاول أن أوقعها في شباكي، أنا رجل ليس لي شباك فأرميها، أنا شاب شكلتني رائحة الأرض، وطلوع الشمس، وملمس الندى، والحساسية التي تسببها رائحة اللوز والزيتون، وزقزقة العصافير، وخشونة الحشائش والشوك، وحداء الشبابة، وهبوب الريح، ودوي الرعد، ولدغات العقارب، ولسعات الناموس في الليل، وطعم البطيخ، وشجار ذوي القربى، وشكلني التأمل واليتم، والطفل الذي يولد ليصير ربّ أسرة قبل البلوغ”.
لكنّ هذه المساحة السردية الواسعة التي يفرط السارد في إتاحتها لـ(ظافر) ليعبر عن مثاليته الفكرية، تتكشف في مواضع الفعل عن شخصية براغماتية نفعية، تلجأ إلى الاستعانة بالمعارف لحل المشاكل التي تواجهها، وتنفي انتمائها إلى الأجهزة الأمنية، لكنها تستخدم علاقاتها الوطيدة بها للترقي الوظيفي، بل وتقبل الحصول على موافقة أمنية على شخصية (سعدية) قبل الزواج منها.
وتصنف نفسها في الطبقة الوسطى المكافحة، برغم أنّها منسلخة عن هذه الطبقة في سيرتها ومواقفها وأفعالها “عندما دعتني سعدية لحضور مهرجان جرش عام 1991، كنت جسماً غريباً فيمن حضروا حفلة ماجدة الرومي ليلتذاك. كانت سعدية ورفاقها الذين حضروا مزدحمين بالنوازع الثورية، وكنت في همومي السياسية مختلفاً عنهم…. أصبح للمهرجان صبغة ثورية غير التي كانت، لا تناسب غير الأيديولوجيين الذين لا يشبهونني مطلقاً، وصار المهرجان محجاً لفلول القوميين والمهزومين والثورجيين الماركسيين ومدّعي الثقافة والفن والذوق. وأنا من أجل سعدية”.
التقسيمات الفكرية والطبقية الاجتماعية مشوشة في متن الرواية، فظافر “حامل لواء الهوية الأردنية”، أما الآخرون كلهم فلا ينضوون تحت لواء الهوية الأردنية، لأن (ظافر) قصر هذا الانضواء على نفسه قصرا ضيقا، فحبيبته (سعدية) المولودة في الأردن لا تشاركه حمل اللواء، لأنها يسارية وتربّت في وادي عبدون. وكذلك الإسلاميون والقوميون وكل من “يعارضون الحكومة” لا تسمح لهم وطنية (ظافر) بالانضواء تحت لوائه، برغم أنه ينتمي إلى أسرة “ميسورة” كأسرة (سعدية)، ويسكن بعد زواجه منها في “شقة جميلة في وادي صقرة”.
وفي انتقائية غير مفهومة، خلا السرد من مدونة الأستاذ الجامعي (عبد الحميد القلب)، فظلت شخصيته أسيرة لتصورات (ظافر) عنه، على الرغم من أن شخصية الأستاذ الجامعي كانت فاعلة في حياة (ظافر)، أكثر من شخصيات أخرى منحها السارد حق الكلام.
لقد خضعت الرواية كلها، بشخوصها وأحداثها، لسلطة سارد مهيمن، صنعها على شاكلة واحدة، ووضع الكلام في أفواهها، وأثقلها بأحدث فائضة، وجمع بينها بغير سياقات مفهومة، ونصّب عليها شخصية رئيسية مرتبكة، عكست ارتباكها على مجمل علاقات الرواية.