“هجرة الألبان إلى دمشق” لـ محمد م. الأرناؤوط: الثقافة وتحوّلاتها في مئة عام

“هجرة الألبان إلى دمشق” لـ محمد م. الأرناؤوط: الثقافة وتحوّلاتها في مئة عام


class="inline-block portfolio-desc">portfolio

text

    “العربي الجديد”

    منذ منتصف القرن الخامس عشر، تولّى العديد من ضباط الجيش ذوي الأصول الألبانية مراكز متقدّمة في مصر خلال العهد المملوكي حيث ساهمت خبراتهم القتالية النوعية في الارتقاء بالمناصب العسكرية، إلّا أنّ نفوذهم ازداد مع سيطرة العثمانيين على البلقان وإدماجهم العنصر الألباني على نحو أكبر في تشكيلات جيوشهم.

    تغيّر أساسي حدث خلال القرن التاسع عشر تمثّل في موجة هجرات أكبر مع تولّي محمد علي باشا؛ القائد الألباني، حُكمَ مصر، ما ترك تأثيراً أوسع في الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية درَسه الكاتب والمؤرّخ الكوسوفي السوري محمد م. الأرناؤوط منذ أطروحته التي استحقّ عليها درجة الدكتوراه في السبعينيات، وصولاً إلى مؤلّفيه “فصول من تاريخ الألبان في مصر خلال القرون 15 – 20″ (2016)، و”شخصيات ألبانية في الشرق الأوسط خلال القرون 16 – 20” (2020).

    في كتابه الجديد “هجرة الألبان إلى دمشق في القرن العشرين وإسهامهم في الحياة الثقافية” الذي صدر حديثاً عن “الآن ناشرون وموزِّعون”، يتتبّع دور نخبة بارزة من مكوّنات المجتمع الشامي خلال قرن مضى بالاعتماد على الذاكرة الاجتماعية المتوارَثة، حيث ينتمي المؤلّف إلى أسرة ألبانية هاجرت من كوسوفا عام 1930 إلى العاصمة السورية، حيث نشأ في إحدى حارات شارع بغداد التي تشكّلت حول “جامع الأرناؤوط”.

    كما يعود إلى الأوراق المخطوطة القليلة التي تركها الجيل الأول، و”مذكّرات” مخطوطة وضعها ألبان دمشقيون ينتمون إلى الجيل الثاني تُنشَر لأول مرة، وتضيء الظروف الصعبة التي واجهت تلك الهجرة، وظروف التعليم الأولى، والانخراط بعد ذلك في الحياة اليومية، وتحضر الصور الفوتوغرافية باعتبارها مصدراً آخر يكشف حياة المهاجرين الأوائل.

    رواية هؤلاء المهاجرين تُستوفى بطبعة أخرى ترصد دور الضباط الألبان في حرب (1948) ومساهمتهم في الحياة السياسية والعسكرية، تصدر بعد استكمال الأوراق والمسوّدات التي تبعثّرت بسبب الظروف المختلفة التي واجهت صاحب الكتاب، ما يمنح تلك الرواية بُعداً أعمق وأكثر شمولاً.

    يعقد الأرناؤوط مقارنة مهمّة بين الهجرة الألبانية إلى مصر التي تمركزت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين، لأسباب اقتصادية مع النهضة التي قامت إثر افتتاح قناة السويس لذلك تشكّلت جالية بغالبية مسيحية حافظت على هويتها القومية، وبين هجرة الألبان المسلمين إلى دمشق الذين نجَوا بأنفسهم من حرب البلقان (1912 – 1913) أو من الاضطهاد المُمنهَج في مملكة يوغسلافيا ما بين الحربين العالميّتين، وحتى الذين هاجروا من ألبانيا المستقلّة بعد عام 1920، جاؤوا بدوافع دينية احتجاجاً على الإصلاحات التي بدأها حاكم ألبانيا الجديد أحمد زوغو.

    ويشير إلى أن الجالية الألبانية الصغيرة في سورية التي لم تتجاوز ثلاثة آلاف نسمة لحظة استقلالها قياساً مع نظيرتها في القاهرة والإسكندرية، تبدو أكبر من حيث الشخصيات التي انبثقت عنها، وأصبحت معروفة سواء في سورية أو في العالم العربي الإسلامي مثل ناصر الدين الألباني (1914 – 1999)، وعبد القادر الأرناؤوط (1928 – 2004)، وشعيب الأرناؤوط (1928 – 2016)، الذين برزوا في عِلم الحديث وعِلم التحقيق ليوفّروا بذلك رافعة للسَّلفية الجديدة في الفضاء العربي الإسلامي.

    سادت خلال الحُكم العثماني الذي استمرّ لأكثر من خمسة قرون، تيارات دينية تستند إلى موروث صوفيّ يؤمن بكرامات الأولياء والصالحين، وتنزع إلى الاعتدال في تبنيها الأحكام الشرعية، ولم تشذّ النخبة الألبانية في بلادها، أو تلك التي هاجرت إلى الشام، بحسب الكِتاب.

    احتضنت دمشق الشيخ سليم المسوتي الأرناؤوطي (1832 – 1906)، الكوسوفي الأصل، الذي بقي بعد انسحاب الإدارة المدنية والعسكرية لمحمد علي باشا الذي حكم بلاد الشام نحو عشر سنوات، ليصل بعد ذلك بعقود عدد من العلماء الألبان كما يشير الأرناؤوط كانت غالبيتهم من الريف إلى جانب بعض المتعلّمين، أو ممّن يُحسبون على العلماء في بلادهم، من أمثال إسلام البرشتوي ونوح نجاتي وحمدي بخيتار الذين تشاركوا مع المسوتي في التزامهم بتلك التقاليد التي أسّست لما عُرف بـ”الإسلام العثماني”.

    الكتاب يقف عند التطوّر الأبرز في الفترة الانتقالية بين الجِيلين الأوّل والثاني من المهاجرين، وتمَثّل بقدوم الشيخ سليمان غاوجي إلى دمشق عام 1936 مُهاجِراً من ألبانيا، والذي كان يرى أنّ بلاده تتسارع في التحوّل إلى “دار كفر” بعد أن أجبرته سلطات الاحتلال الفرنسي على مغادرتها حين قدِم إليها أوّل مرة سنة 1925، ورغم أنه حظي بترحيب من الهيئة الدينية السورية التي عينته إماماً وواعظاً، إلا أنه تفاجأ بمشهد المجتمع الدمشقي مع تزايُد التوجّه نحو “السفور” والاختلاط.

    نشَر غاوجي كتاباً بعنوان “نجاة المؤمنين بعدم التشبّه بالكافرين” عام 1949، يعبّر خلاله بشكل واضح عن هذا الانتقال من “الإسلام العثماني” الذي عرفه الجيل الأول من المهاجرين الألبان إلى “الإسلام السلفي” النابع من ردّة الفعل على التحديث الجديد في المجتمعات المُسلمة، سواء في ألبانيا ما بعد العثمانية، أو في سورية تحت الانتداب الفرنسي، وهو التيار الذي سيقوده ناصر الدين الألباني لاحقاً، وفق الأرناؤوط.

    يلفت الأرناؤوط إلى ظهور مجموعة من الشعراء أخذت تكتب الألبانية بحروف عربية بعد القرن السابع عشر، مع انتشار المدارس التي تعلّم باللغات العربية والفارسية والعثمانية في ألبانيا، ما دفع بقوة إلى بروز “أدب المَولد النبوي” أو “الموالد” عند الشعوب المُسلمة في البلقان، في قصائد كانت تُقرَأ في المناسبات الاجتماعية، وانتقلت مع المهاجرين الألبان إلى دمشق، حيث ترك الملّا ثابت نعمان فريزاي وإسلام البرشتوي نُسخاً مخطوطة من أشعارهم.

    ويبيّن أنّ النظام الأبجدي الذي استخلص من هذه القصائد، واستخدم للكتابة في اللغة الألبانية بالحروف العربية، وتكمن المشكلة فيها بابتكار إضافات أو إشارات إضافية على الحروف العربية لتصبح قادرة على التعبير عن النظام الصوتي الغني للغة الألبانية تتألَّف أبجديتها اللاتينية الحالية من 36 حرفاً، منها ثمانية تعبّر عن الأصوات التي لا توجد معظمها في اللغة العربية.

    يلفت إلى شعراء كتبوا الألبانية بحروف عربية بعد القرن الـ 17

    حظي “أدب المَولد” الذي كُتب في دمشق بتقدير كبير سواء بين أبناء المهاجرين أو في موطنه الأصلي عند انتقاله إليه، قبل أن يحدث تحوّل كبير مع انطلاق السلفية الجديدة في سورية وجوارها، والتي أخذت تتعامل مع هذا الإرث الشعري باعتباره بدعة، مما ساهم في انحسار الثقافة التقليدية للاحتفال بالمَولد، في الجوامع أو في البيوت كما كانت عليه الحال خلال الحكم العثماني.

    بدأت السلفية الجديدة مع انطلاق محمد ناصر الدين الألباني بنشاطه الدعوي عام 1954 بحلقة أسبوعية لتدريس الحديث قامت على كشفه عن الأحاديث الضعيفة والموضوعة التي أدّت إلى إسلام “هجين” لا علاقة له بـ “إسلام السلف الصالح”، على حدّ قوله، ما تسبّب بحملة مضادّة شنّها رجال الدين التقليديون والمتصوّفون، وصفته بالانتماء إلى “الوهّابية”، التي استقطبته من خلال دعوته للتدريس في “الجامعة الإسلامية” بالمدينة المنورة قبل أن يختلف مع علمائها، ويعود إلى دمشق ليُسجن فيها أربعة أعوام، ويغادرها للإقامة في عمّان التي رحل فيها عام 1999.

    ينتقل الأرناؤوط للحديث عن أبناء الضباط والجنود الألبان الذين خدموا في الجيش العثماني في دمشق وريفها، حيث برز جيل جديد ممن تشرّبوا العربية وكانت لهم إسهامات ريادية في الشعر والقصّة والرواية والصحافة والدراما الإذاعية والمسرح والسينما، مقابل حضور النخب الدينية التي تمّت الإشارة إليها سابقاً.

    ثلاثة نماذج أساسية في الفن التشكيلي السوري، يدرس الكتاب تجربتهم ومدى حضورهم في الشأن الثقافي، وفي مقدّمتهم أنور الأرناؤوط (1911 – 1992) الذي جاور الجيل الأول من التشكيليين السوريين من أمثال عبد الوهاب أبو السعود وتوفيق كرشة، وشارك في عدد من المعارض منذ الثلاثينيات برسومات تحاكي طبيعة دمشق ومعمارها.

    ويحضر في الفترة ذاتها عبد القادر أرناؤوط (1936 – 1992) الذي وظّف الحروفيات ضمن الحداثة الفنية التي درسها في باريس، كما كان أحد روّاد التصميم الغرافيكي في سورية حيث ترك أكثر من ستمئة ملصق وثلاثمئة غلاف كتاب من تصميمه، وزهير جلال الدين (1955) في فترة لاحقة من خلال أعماله التي صوّرت العديد من المعالم التاريخية الدمشقية، بعضها لها مكانتها في الذاكرة الجماعية لأفراد الجالية الألبانية مثل “مستشفى الغرباء” و”محطة سكّة الحجاز” وغيرهما.

    أما في الأدب السوري الحديث، فيرى المؤلّف أن إسهام الألبان ترافق مع بروز الكيانية السورية في القرن العشرين، حيث كتب الفنان التشكيلي عبد القادر أرناؤوط الشعر أيضاً، إلى جانب شقيقته عائشة أرناؤوط (1946) التي عكست قصائدها حالة التحرّر في المجتمع الدمشقي في النصف الثاني من القرن العشرين، وابن عمّهما بركات لطيف (1935) الذي عبّر في شعره عن الموت البطيء للعامل من وحي عمله سائق قطار، إلى جانب أسماء مثل معروف الأرناؤوط (1892 – 1948) في المسرح والرواية، وعلي خلقي (1910 – 1984) في القصة.

    يفرد الكتاب فصلاً كاملاً لترجمة الأدب الألباني في دمشق، مضيئاً دور عبد اللطيف الأرناؤوط (1931 – 1922) حيث بدأ بنقل قصائد لغته الأصلية إلى العربي في بداية الخمسينيات، كما ركز في العقد اللاحق على الشعر الشعبي الألباني وشعر عهد النهضة القومية الألبانية (1850 – 1912) إلى جانب ترجمته لروايات إسماعيل كاداريه، ودريترو أغولي، وفاث كورشي.

    يُعرّف الأرناؤوط أيضاً بثلاثة كتب مذكّرات تركها كلّ من الشيخ عبد الرحيم عابدين (1912 – 2007) والتي توضّح أسباب هجرة عائلته من ألبانيا إلى سورية، وظروف تعليم المهاجرين الأوائل، والفقيه والشاعر عبد الوهاب إسلام جلال الدين (1917 – 1980) الذي يصوّر كذلك الحياة الأولى التي عاشها المهاجرون الألبان في دمشق ويومياتهم، والسياسي شوكت غاوجي (1918 – 2004) الذي يمزج فيها بين سيرته الذاتية ومحطّات بارزة في تاريخ سورية والمنطقة عموماً. ويُختم الكتاب بملحق يتضمّن ألبوم صور للعديد من الشخصيات التي تمّ تناولها ووثائق لها مثل عقود الزواج وبيان انتخابي لأحد المرشّحين الألبان لانتخابات الاتحاد القومي في الجمهورية العربية المتحدّة سنة 1959.