هنيئا ليحيى حديقته البيضاء بالياسمين.

هنيئا ليحيى حديقته البيضاء بالياسمين.


class="inline-block portfolio-desc">portfolio

text

    محمود الرحبي
    (قاص وروائي عُماني)

    أثناء فترة فعاليات أيام الفلسفة التي أقيمت ببيت الزبير في الفترة من 16- 18 من هذا الشهر، تواصلت -عبر الواتس أب- مع صديق بغرض حثه على الحضور، ومن ضمن ما قلته له وبصورة عفوية: «إن الفلاسفة المشاركين تم اختيارهم كحبات البرتقال المنتقاة بدقة»، هذه العبارة «حبات البرتقال المنتقاة بدقة» في الأصل عنوان لإحدى قصص الصديق يحيى سلام المنذري في مجموعته الأولى «نافذتان لذلك البحر» وهي قصة كل من قرأها أعجب بها واستوقفته فكرتها ولو برهة، ليس فقط بسبب حمولتها الإنسانية الناصعة، إنما -أيضا- نظرا للمهارة التي صيغت بها القصة. والكاتب المسرحي عبدالله خميس، ذهب أبعد في الإعجاب بهذه القصة، حين حولها إلى فيلم قصير، في أحد مشاهده كانت كريات البرتقال تحوم في ساقية الفلج. والقصة تسرد تفاصيل دقيقة لمشهد واحد: أب أعرج يحاول -تحت سطوة شمس حارقة- أن يعبر شارع سيارات مسرعة «كلما رمى قدمه اليمنى إلى طرف الشارع.. انتشلها بأقصى ما أوتي من سرعة» وبعد ألم ومعاناة وانتظار طويل وجد ثغرة للعبور فاندفع متقدما. لكنه حين وصل إلى الضفة المقابلة تذكر أنه نسي كيس البرتقال «فاكهة الشهر». لقد ترك البرتقال على الرصيف وذهب خالي الوفاض. ألا يمكن لهذه القصة وفي نزوح تأويلي مشروع، أن ترمز أيضا إلى أرض البرتقال الحزين التي تركها الفلسطينيون مكرهين وراءهم. بمناسبة ذكرى النكبة التي مرت منذ أيام قليلة، خصصت الإذاعة البريطانية الناطقة بالعربية البي بي سي فقرة مطولة ضمنها لقاءات مع أشخاص كانوا أطفالا حين وقعت نكبة التهجير عام 1948، أحدهم قال إن جده أصيب بالخرس خمس سنوات حين انتزع من أرضه. لا بد أنه كان يسحب رجليه بتثاقل شديد ناظرا إلى الخلف وهو يتوارى بعيدا عن أرض البرتقال، تماما كما فعل صاحب برتقالات يحيى المنتقاة بدقة، تاركا ما انتقته يداه لأطفاله.

    رحلة يحيى سلام المنذري القصصية تتميز هي الأخرى بالانتقاء الشديد. فهو لا يضع قدميه على أرض قصته إلا بعد أن يطمئن على جدتها وحمولتها الإدهاشية. لذلك فإن القارئ سيلمح هذا الحس الطفولي بسهولة في قصصه (مثلا في مجموعته القصصية حليب التفاح يمكن أن نحصي فيها 264 سؤالا). أسئلة الطفل هذه توزعت كذلك عبر مجاميعه الخمس التي صدرت في سنوات متباعدة، كانت أولاها «نافذتان لذلك البحر» عام 1993 وآخرها «حليب التفاح» عام 2016 جمعها مؤخرا في حزمة واحدة تحت عنوان «الحديقة بيضاء بالياسمين» صدرت هذا العام 2022 ضمن إصدارات الجمعية العمانية للكتّاب والأدباء. مشفوعة بمقدمة رشيقة «بناء الحديقة.. نثر الياسمين» صورة الغلاف وعنوان المقدمة والعنوان العام للمجموعة تدلل على الحس الأنطلوجي ليحيى، فهذا هو محيطه وبيته ومكتبته. هكذا هو حتى في السفر، الذي لا بد أن يأتي منه بقصة. أتذكر رحلات لا تحصى كنا معا، في المغرب مثلا كتب قصة التقطها من مقهى باليما، وفي القاهرة والإسكندرية جاء بقصة «بعيدا عن شاطئ الإسكندرية» وفي مجموعته الأولى «نافذتان لذلك البحر» أستطيع أن أرى فيها حتى طفولتي، حيث عشنا معا في وادي عدي. في هذه المجموعة الأولى كأن يحيى ينطلق في نسج قصصه من مشاهدات تلك المرحلة التي تنتمي لفترة الثمانينات «الجبال التي تحيط بنا من كل مكان» كما جاء في قصة «الغرفة والمشهد الليلي» بين الطفولة والمدرسة وشطرا من الجامعة. يمكن معرفة حتى البيت الذي كانوا يسكنون فيه كما استثمرته تخيلا قصة «زكريا»، حيث «في ساحة بيتنا الصغير قتال بين أنفاس وأنفاس» و «عادة عندما أستيقظ تخطفني رائحة البيض المقلي من طرف أنفي ناحية المطبخ..وأظل أحلم بوليمة إفطار تزيد من حجم جسدي الصغير». تحدث يحيى في مقدمة الأعمال القصصية بأنه يشعر وكأنه في صدد مغامرة قصصية سادسة، وهكذا تعامل مع مجموعته بعناية وتركيز شديدين، لا بد إن الأمر كذلك كان مصحوبا بدهشة الطفل، ولن أشطح في الظن كثيرا إذا قلت إن يحيى قرأ قصصه وكأنه يتعرف عليها للمرة الأولى. هذا القرار احتاج منه وقتا ليس فقط لمراجعة ما أنجز وطباعة بعضه من جديد، إنما لحماية هذه القصص، وفي العمق دعوة جديدة لقراءتها: «قررت أن أحميها من النسيان».

    يكتب يحيى القصة بدافع الشغف، وما انزاح كما فعل معظم مجايليه نحو كتابة الرواية. كان مرتاحا لاختياره كما فعل أحمد بوزفور ومحمد خضير اللذين يستشهد بهما يحيى إعجابا بتجربتهما، ويمكن أن أضيف كذلك مازن حبيب وأنيس الرافعي ضمن الجيل الجديد من الكتّاب العرب « تبقى القصة القصيرة أحب الأجناس الأدبية إلى قلبي» يقول يحيى. وبالعودة إلى قصة «حبات البرتقال المنتقاة بدقة» ندعكم مع كشف السر أو الباعث الواقعي المباشر لكتابتها: «ذات مرة شاهدت رجلا أعرج يعبر شارعا مزدحما بالسيارات المسرعة، وبصعوبة بالغة وصل إلى الضفة الأخرى. تعاطفت مع الرجل ورسخ مشهده في ذهني، وحين وصلت البيت نسجت من المشهد القصة، كما نشرت بعد ذلك بتفاصيلها المتخيلة، مُظهرا سطوة الشمس وحنق السيارات على الرجل».

    تحية ليحيى سلام المنذري وقصصه المحبوكة بالصدق والطفولة، وهنيئا له حديقته البيضاء بالياسمين.