“العرب” اللندنية
“هوشيلاجا” مدينة قديمة مُحيت من على الخارطة، وأقيمت على أنقاضها مدينة مونتريال الحالية في كندا، وكانت لها منجزات مادية وتنظيمية تدل على تقدم مجتمعها ورخائه في زمن مبكر من أزمان الحضارة الإنسانية.
الكاتب والروائي الكندي من أصل فلسطيني سميح مسعود اتخذ اسم هذه المدينة عنوانا لروايته الصادرة حديثا عن دار الآن ناشرون وموزعون في عمّان، وهي تتناول معاناة السكان الأصليين في أميركا الشمالية، الذين درج الإعلام على تسميتهم جزافا بـ”الهنود الحمر”، وتفاصيل ما تعرّضوا له من مآس وتنكيل على يد الغزاة المستعمرين القادمين من أوروبا الذين استوطنوا بلادهم، وجعلوهم على هامش الجغرافيا والتاريخ.
وقد حرص المؤلف على الربط بين قضيته بوصفه فلسطينيا هُجّر من أرض آبائه وأجداده وقضية هؤلاء السكان؛ ذلك أن ملامح الظلم في الحالتين تكاد تكون واحدة.
يقول سميح مسعود في وصف المشاعر التي كانت تنتابه أثناء إقامته في مونتريال على أنقاض “هوشيلاجا” وأمام نهرها العظيم “قضيت وقتا طويلا من أيامي الأولى في مونتريال، وأنا أزور النهر، أسير على جانبه، وأستعيد ذكرى أهله القدماء مرات إثر مرات، كان السكون يعمّ المكان، ولا أسمع سوى وقع خطواتي، وعندما يحين وقت الراحة كنت أجلس على مقعد خشبي على طرف النهر، بقرب جسر طويل يمتد فوق أمواجه”.
ويضيف “ذات يوم بينما كنت أجلس على نفس المقعد الخشبي، جاء أحدهم وجلس بجانبي، لم أعره انتباها، شغلت نفسي بالنظر إلى غمامة كانت تمرّ فوق الجسر المعلق أمامي، تستند تارة على بعض أطرافه ثم تبتعد عنه في سرعة فائقة، وتعود إليه ثانية كأنها تداعبه وترتخي لرغباته”. ومن هنا بدأت أفكار روايته.
ويسد مسعود على لسان بطل الرواية، مارفن، كثيرا من عبارات الشوق والحنين إلى تراث أجداده الذين تعرضوا إلى ما تعرض له الفلسطينيون من ظلم فادح يقول “أخذ الشخص الجالس بجانبي يغني بكلمات لم أفهمها، وفي لحظة توقف عن الغناء ثم أخبرني أنه يغني بلغة أجداده من شعب الموهاك أصحاب النهر القدماء، عندما تم اكتشافهم أطلقوا عليهم اسم ‘الهنود الحمر‘ بمدلولات دونية واضحة، وبعد أن أباد المكتشف الأوروبي أجدادنا واحتل أرضنا أطلق على من بقي منّا اسم ‘السكان الأصليين‘… حشرونا في محميات، لا نملك فيها سوى مساحة ضيقة من الأرض، وما زلنا نتخبط فيها في خضم حياتنا المغلقة”.
ويتابع “بعدها قدم نفسه لي باسم مارفن جونر، قدّمت له اسمي ولمحات موجزة عن مأساة بلدي، التمعت عيناه قائلا: مأساتنا واحدة، ثمة ترابط وثيق ما بين الذي عاشه أجدادي في الماضي قبل إبادتهم، وما تعيشونه في الزمن الراهن من أيام عصيبة يسببها المحتل البغيض في فلسطين، ويدرك كلّ الذين تبقوا من شعبي حقيقة أيامكم المخضبة بالدماء”.
وتتضمن الرواية تفاصيل رحلة شارك فيها الكاتب أصدقاءه على متن قارب يعود لأحدهم في نهر سان لوران، من التقائه بنهر أوتاوا (عاصمة كندا) حتى مصبه في المحيط الأطلسي. ويتعرف فيها القراء على تاريخ مدينتي مونتريال وكيبيك اللتين بنيتا في مكان قريتين قديمتين للسكان الأصليين، وفي هذا الاستكشاف يبرز كثير من ألم السكان الأصليين، وهو ما يتسرب للقارئ الذي تُستفز مشاعره الإنسانية حين يكتشف تفاصيل تلك المرحلة.
كما تبرز الرواية جوانب تاريخية مهمة واكبت المراحل الأولى للقاء السكان الأصليين بالمستعمرين، وكيف تبدلت الأحوال من وفاق ووئام إلى حرب واستئصال.
يُذكر أن سميح مسعود شاعر وكاتب، وُلد في حيفا عام 1938، ثم هُجّر مع عائلته عام 1948 إلى بُرقة التي تنحدر منها عائلته، ودرس في جامعتي سراييفو وبلغراد في يوغوسلافيا، وحصل عام 1967 على درجة الدكتوراه في الاقتصاد من جامعة بلغراد، ويعمل الآن مديرا للمركز الكندي لدراسات الشرق الأوسط في مونتريال، ورئيسا للصالون الثقافي الأندلسي التابع للمركز نفسه.
وصدر له تسعة وثلاثون كتابا أدبيا، منها “الوجه الأخر للأيام” (مجموعة شعرية)، “رؤى وتأملات” (نصوص نثرية)، “حيفا… بُرقة: البحث عن الجذور” (سيرة ذاتية) و”حيفا وقصائد أخرى” (مجموعة شعرية مترجمة إلى الإنجليزية). كما صدر له عشرون كتابا في الاقتصاد باللغتين العربية والإنجليزية.