رشيد عبدالرحمن النجاب
حظيت مع مجموعة من أصدقاء د.سميح مسعود بقراءة هذه الرواية قبل صدورها بوقت قصير، كان هذا ثاني كتاب أقرأه من خلال الشاشة، أي أنه كان نسخة إليكترونية، وكان الكتاب الأول رواية “العمى” لخوسية ساراماغو، كذلك كانت هذه هي المرة الأولى التي أقرأ فيها نفس الكتاب لمرتين متتاليتين خلال وقت قصير ، وبالإضافة إلى هذه المعلومة العددية، ثمة ما يجمع بينهما كونهما مصنفان من ناحية النوع الأدبي كروايتين.
النوع الأدبي هنا هو الرواية إذن، وقد بذل د.مسعود جهدا واضحا في نسج هذه المعلومات الثرية والمميزة في قالب روائي شيق وبسيط في امتناع، فقد توفرت فيه الشخصيات، والرواة، والبيئة، و الأحداث، والحوار ، إضافة إلى الخيال الذي صور البيئة ووصفها على نحو جميل وشيق، وهل أعظم من قصة الإنسان وتعايشه مع الطبيعة في جمالها وقسوتها، بين الحقيقة و الأساطير موضوعا لهذه الرواية؟ تتحدث هذه الرواية عن السكان الأصليين للأمريكيتين ومآسيهم التي ساقها ونفذها المستعمر أيا كانت هويته ضد السكان الأصليين بزعم أنهم جماعة من المتوحشين، وتفاصيل حضاراتهم وشواهدها تشهد بالضد. هذا النمط من الإستعمار الإستيطاني أثار في نفس الراوي جروحا لا زال يكابد آلامها مع الملايين من أبناء شعبه إزاء هجمة استيطانية في وطنه فلسطين.
يقصد الكاتب كندا في هجرة اختيارية هذه المرة، والصفة الإختيارية هنا ماهي إلا ضرب من المجاز ، فلو كان الوضع في وطنه غير ماهو عليه الآن فربما لم يكن ليلجأ إلى الطرف الآخر من المعمورة ، صاحبت هذه الصورة الكاتب في مواقع ومواقف عدة عبر الرواية لم يستطع العبور من خلالها دون الربط بين المأساة الإنسانية وهذا الوجه القاسي لعلاقة الإنسان بأخيه الإنسان،
هذا هو د.مسعود يربط بين القضيتين في إطار المعاناة إذ يقول :
يصعب علي في هذا الجانب من رواية السكان الأصليين أن أخرج من دائرة المكان والزمان، لأنني أرى مأساتهم في مزيج واسع من الأمكنة والأزمنة، أتذكرهم في كل الحروب القاتمة، وفي كل مظاهر الدمار والإستغلال والإبادة التي ظهرت منذ بدء الخليقة، وعندما أمسك قلمي للكتابة عنهم أتذكر طردي من مسقط رأسي، واحتلال غريب لبيتي الذي ولدت فيه، وعشت فيه باكورة أيامي الأولى
توحدت مشاعر الرفض مع رفاقه أحفاد السكان الأصليين في كندا الذي شاركوه الإضراب عن الأكل تضامنا مع الأهل في فلسطين وشاركهم في عيش مأساة الإنسان في محميات السكان الأصليين عيشا نقل إليه تفاصيل المعاناة رغم مرور قرون من الزمان عليها، ذلك أن شواهد هذه الأفعال لَمّا تزل ماثلة في النمط المعيشي الذي يكابده السكان الاصليون حتى يومنا هذا .
“مارفن” رفيق الكاتب الأول الذي التقى به على مقعد عام في أحد شوارع مونتريال في لقاء بدا “مصادفة”، ومارفن ما هو إلا سليل إحدى قبائل السكان الأصليين وهو بالتالي أحد أحفادهم، ثم انضم إليهما رولان وسيلفيا، ثم صديقهم الرسام فيل، كان هؤلاء شركاء الكاتب في رواية تفاصيل المعلومات عن هذه الشعوب وعن حياتها الأولى وتفاعلها مع النهر ، والأشجار، والسماء والحيوان ودقائق الحياة بين الأسطورة والواقع، أساطير أمدتهم بما يلبي الإحتياجات الروحية، وواقع يضاهي في تقدمه أرقى المجتمعات من حيث التوجه الديمقراطي من خلال نظام يجمع القبائل للتشاور في شؤونها و أمورها أسموه “الإيروكويس” والتي تعني:
“شعب البيت الطويل الذي يتسع كل القبائل كعائلة واحدة.” وذلك التعظيم لمكانة المرأة في هذه المجتمعات حدا قادها لتولي الزعامة في القبيلة، وللزعامة ما لها من صوت مسموع وأمر محترم مطاع، وهذه الصورة مثال للإحترام الذي يبديه السكان لزعيم القبيلة:
كانوا ينفذون قراراته على إيقاع آلاتهم الموسيقية، ويجذبهم دوماً لممارسة الغناء والرقص بكل ما فيها من محسوسات تفتح بصائرهم على تقديس المظاهر الطبيعية، يتشابكون حوله ويتحدون في نسق دوائر واسعة، كانت تنتعش أرواحهم في تلك اللحظات وهم يرفعون رماحهم نحو السماء، وتعلوا أدخنة من مواقدهم في اندفاع قوي كانوا يوجهون بجدائل غماماتها كرسائل تقديس للشمس والنجوم والقمر.
عُرِضَتْ هذه التفاصيل وغيرها للقاريء في أسلوب مشوق من خلال مراحل متتالية، قدم فيها د.مسعود لكل مرحلة من خلال المرحلة التي سبقتها ابتداء بمشهد تخييلي تصوره أثناء تجواله الإستكشافي في ربوع المدينة القديمة يصور فيه حياة القبائل من السكان الأصليين تمهيدا لمزيد من التفاصيل في الأجزاء التالية
تقول الفقرة السابقة أن ثمة مراحل خاضها السرد لنقل صورة مأساة هذه الشعوب تنقل الكاتب بينها برشاقة بين مشاهدات يقدمها الراوي الرئيس وأخرى يقدمها رفاقه في الترحال والفكر والمشاعر، في هذا الترحال غوص في الطبيعة في جولة عبر النهر وبين الجبال، وزيارات متعددة لمتاحف ومعارض و أضواء على مجسمات ولوحات تروي الكثير من القصص، وتواصل مع شعوب القارتين الأميركيتين امتد من مجرى نهر سان لوران حتى جبال الأنديز ، ومن قبائل الموهاك وغيرهم من سكان كندا الأصليين إلى حضارات المايا و الأزتك في الجنوب، حضارات تفوقت قبل آلاف السنين على الغزاة الذين ادعو ا الحضارة ووسموا السكان الأصليين بالوحشية.
تضمنت الرواية تفاصيل رحلة شارك فيها الكاتب اصدقاءه على متن قارب يعود لأحدهم”أورلان” في نهر سان لوران من التقائه بنهر أوتاوا وحتى مصبه في المحيط الأطلسي تعرف فيها الكاتب والقراء من خلاله على تاريخ مدينتين بنيتا في مكان قريتين للسكان الأصليين، مونتريال التي يحتضنها سان لوران والكيبيك مدينتان أترك للقاريء متعة استكشاف ماضيهما، رغم أن في هذا الإستكشاف كثير من ألم ومعاناة للسكان الأصليين أولا ، وللقاريء الذي يقرأ بمشاعره الإنسانية بنفس الدقة التي يقرأ فيها بعينيه تفاصيل تلك المرحلة.
كان المعلم الأبرز الآخر هو تاريخ الإستكشاف الأولي لمستكشف فرنسي إنسان اسمه جاك كارتيه وفيه تفاصيل تواصل إنساني مع السكان الأصليين، مع ملامح من التواصل الديبلوماسي بين الناس على جانبي المحيط الأطلسي متمثلا في رحلة إلى فرنسا اصطحب فيها شابين بعد أن تعلما اللغة الفرنسية إلى فرنسا، وقد سعد جدا بموافقة والد الشابين زعيم القبيلة على سفر أولاده في قرار لم يخرج عن إجماع القبيلة لننظر إلى جاك كارتيه يدون هذه اللحظات في مذكراته:
وقد سجل جاك كارتيه رد فعله في مذكراته، بكلمات واضحة بين فيها أن موافقة صديقه، قد غمرته بسعادة لا توصف ، ووصفها ببارقة من السماء، ستمكنه من تقديم مثال حي لملكه وشعبه عن اكتشافه لبلاد خلف المحيطات مأهولة بالبشر.”
ولكن مسلك المستثمر المستعمر تجاوز هذه العلاقات إلى أطماع ما لبثت أن خلفت مئات الآلاف من الضحايا بين السكان الأصليين، ونال جاك كارتيه شرف النأي بنفسه عن هذه الممارسات فانسحب وعاد إلى فرنسا.
زيارة المحمية التي يعيش فيها السكان الأصليون كانت محطة أخرى بارزة في سياق السرد تفاعل فيها الكاتب مع الحياة اليومية لأحفاد السكان الأصليين، ومزيد من التفاصيل عن العادات و التقاليد وعلاقتهم بالنهر في جريانه وتجمده وبأشجار القيقب وتواصلهم معها و الإحتماء بها، ومعاناتهم في التعامل اليومي القائم على التمييز العنصري .
وتقوده الصدفة أيضا للقاء شخصية من أحفاد حضارات المايا و الأزتك و الإنكا في أمريكا الوسطى والجنوبية من خلال معرض لمجسمات ورسومات تجسد عظمة هذه الشعوب وما تعرضت له من معاناة وإبادة وتطهير عرقي من قبل الإستعمار الإستيطاني، ها هو يتحدث بلسان السيدة القادمة من عمق حضارات الإنكا على هامش المعرض إذ تقول:
“انتهى زمن أجدادي ، لكن مآثرهم الحضارية في مختلف مناحي الحياة مازالت ماثلة حتى الآن في المتاحف، وفي مدن كثيرة في أمريكا الجنوبية فيها براهين مادية كثيرة تشهد بأن قبائلنا كانت متحضرة، و ليست متوحشه كما وصفها الغزاة البيض، الذين أبادوا أجدادانا، مندفعين في تيار رغباتهم الوحشية.”
وهكذا يشارك القاريء د. مسعود تجواله على صفحات نهر السان لوران العريق حيث تتشابك بيوت السكان الأصليين على ضفافه، وحيث لا تزال تتردد أصواتهم و أساطيرهم على متن مراكب ال”كانو”، وتحت أشجار القيقب، وحول أعمدة الدخان تتصاعد في نمط موجه يحمل رسائل للسماء.
شكرا للدكتور مسعود على هذه الصور العابقة بالعراقة، المولودة من رحم الحضارات الممتدة على وجه البسيطة، والنابضة بمآس خلفتها مخلوقات ترتدي زي الحضارة !!!