وقفة مع “أمواج ريسوت” لإشراق النهدي

وقفة مع “أمواج ريسوت” لإشراق النهدي


class="inline-block portfolio-desc">portfolio

text

    محمد ناجي المنشاوي

    (ناقد مصري)

    إشراق النهدي كاتبة عمانية في القصة القصيرة، وهي ذات نشاط ثقافي واسع في الحياة الثقافية العمانية، وقد حصلت على العديد من الجوائز لقاء ذلك، وهي طبيبة صيدلانية قدمت للمكتبة العربية خمس مجموعات قصصية هي: “خرفجت”، “الأحمر”، “حائط مموج”، و”روزيشيا” و”أمواج ريسوت”.

    وفي قصتها “أمواج ريسوت” (مجموعة “أمواج ريسوت”، الآن ناشرون وموزعون، عمّان، 2020)، نجد العنوان ذا دلالة تتسق مع الانطباع العام ووحدته من البداية حتى النهاية، فـ”أمواج” لفظة دالة على التدفق والتتابع والحيوية وكذلك الرهبة والخوف والغموض مضافة إلى “ريسوت” للتخصيص لاسم شاطئ عماني وإن كان من الممكن أن يرمز لأي شاطئ في أي موضع على ظهر البسيطة. والكاتبة تعتمد في بنائها لقصتها على “المعادل الموضوعي”، حيث تقدم لنا ثلاثة عوالم:

    الأول: مجموعة من البشر على تنوعهم فوق رمال الشاطئ، وهو عالم إنساني يزخر بالعمل واللهو، وهو عالم مقبل على الحياة في سعادة (رجال ونساء وصبية وعائلات وعمال)، وهذا يمثل المعادل الموضوعي لعالم لم يواجه تحديات حقيقية ولا صعابا ولا عراقيل في خضم تجربة إنسانية نوعية تعد محكا يختبر قدراته على مواجهة المخاطر واكتشاف المجهول، حيث تُعرف قيمة المعادن بخوضها في النيران، وربما بينهم من خاض التجربة ونجح فاطمأن قلبه، وربما بينهم من خاضها ففشل فآثر السلامة والاستسلام فقنع بالهزيمة ورضخ للأمر الواقع ومضى يتكيف ويتواءم معه.

    والثاني: نموذج من البشر؛ رجلان أحدهما متزوج والآخر متزوج وله عيال يجلسون على شاطئ ريسوت، يتأمل الرجلان الصديقان صاحبا التجربة المشتركة أمواج ريسوت تأملا عميقا مسترجعين ذكريات أليمة مع تجربة قديمة في مرحلة الصبا لصنع مركب لخوض أمواج الخليج العاتية مع مجموعة من أترابهما، وكانوا من قبل قد جمعوا الأخشاب والمسامير وكل ما يتصل ببناء المركب حيث المنشار وغيره من الأدوات، وترك ذلك آثارا وعلامات دامية متمثلة في قص إصبعين في القدم اليمنى والقدم اليسرى وغرق اثنين من الصبية المرافقين لهما، فهذا العالم الثاني هو المعادل الموضوعي للحلم الجميل باقتحام التجربة وتحدي الصعاب والانتصار عليها، فتتحقق الذات، وتعلو قيمة المرء في الحياة، لكن عند النزول الفعلي للتجربة تصطدم الذات الإنسانية بالواقع وتحدياته، فتكون النتيجة الفشل والفجيعة والمأساة، فترتد الذات الحالمة إلى حالة من النكوص لتلوذ بالكبت والتخفي والثبات في أعماق الذاكرة.

    والثالث: أمواج الشاطئ بكل مفرداتها من تتابع واستمرار وقوة وعنف وصخب ومخاطر وغموض وجمال وفتنة، فهي المعادل الموضوعي للتجربة الإنسانية بكل ما تجمعه وتشمله من تناقضات، حيث تختلف قدرات البشر إزاءها، حيث الاندفاع إليها إلى درجة الطيش والتهور والنزق والجنون، ومنهم من يتأنى ويتمهل ومنهم من يتردد ويتشكك.

    لغة السرد في القصة تمتاز بالاقتصاد والتكثيف، وإن كانت في ظاهرها لغة مطنبة، فقد قصدت إشراق النهدي إلى دقة التفاصيل كغاية فنية لقصتها لتحقق من خلالها صدقا فنيا، فجاءت مفرداتها مطعمة وموشاة بمفردات البيئة العمانية التي تعيها القاصة فتذكر لنا في إطار السرد المفردات المحلية وتوظفها دون تزيُّد أو افتعال كألوان من الطعام والأزياء والعادات.

    واعتمدت القاصة في سردها على ضمير الأنا: (كنا على البحر جالسين كحجرين ملقيين على البطاح يبدو خارجنا وديعا مطمئنا، لكن الأمواج لا يقل هديرها عما يجيش في دواخلنا كهذه الموجة المنكسرة على الصخور بمحاذاتنا، وكأنها تنتزع ثأرا عتيقا من على عاتق البحار”. هذا المدخل وما فيه وصف يمهدان للقارئ الولوج إلى فكرة القصة بما فيها من صراع بين الإنسان والتجربة، ولوجا مشحونا بالتشويق والدفع بلهفته للمضي قدما نحو النهاية.
    وبين بداية القصة ونهايتها، نجد وصفا لـ”مسرح الحدث” أو المكان الذي يدور فيه الحدث.. وهو وصف بعبارات دالة تمسك بزمام الفكرة دون زيادة أو نقصان: (الخليج يبدو كمن يستهزئ ويخرج لسانه في البحر)، ثم ترتد الكاتبة بالذاكرة لتذكر مبررات بداية القصة ونهايتها، فتركز الضوء على تلك (الحادثة/ التجربة) التي انتهت إلى (رجعنا خائبين بعد أن غرق اثنان من الصبية وبقي اثنان منهم معنا)، ثم يفيق الراوي في لحظة الوعي ليقول: (حدقنا إلى أرجلنا، أصبعان مقصوصان في القدم اليمنى والقدم اليسرى من أثر المنشار). تلك هي الجروح المرئية، ولهذا تستدرك القاصة بـ”لكن” لتكشف لنا عما هو مدفون هناك في الذاكرة من جروح: (لكن الجروح الأخرى مطمورة في القلب)، وتنهي القصة بصورة مروعة، حيث يتبادل صاحبا التجربة النظرات ليسبر كل منهما غور الآخر (نبصر قاربا غارقا في مقلتينا)، (نحدق وما زال القارب غارقا لا يطفو على السطح)، وهذا القارب الغارق المختفي تحت السطح وما صاحبه من تجربة الإبحار به وغرقه هو ما يعود بنا إلى ما ذكرته القاصة في افتتاحية القصة: (يبدو خارجنا وديعا مطمئنا، لكن الأمواج لا يقل هديرها عما يجيش في دواخلنا)، فإذا ربطنا بين البداية والنهاية وجدنا أنفسنا أمام بناء قصصي غاية في الإحكام الفني.